فرِحنا لأخي حين عرّفَنا إلى حبيبته قائلاً لنا: "هذه وداد فتاة أحلامي والتي ستُصبحُ زوجتي". قبّلَتها والدتي بقوّة، وشعَرنا أنّ كلّ شيء يجري كما يجب. كنتُ قد تزوّجتً قبل سنوات قليلة، وأنجَبتُ ولدَين وبقيَ أخي الوحيد مِن دون زواج. هو كان لا يزال يعيشُ مع أمّنا، وينوي البقاء معها بعد الزواج مِن وداد وهذا كان شرطه لها. قبِلَت العروس أن تعيشَ مع حماتها، فأمّي لطالما كانت سيّدة طيّبة وهنيّة.
ودّعتُ أهلي بعد الفرَح، فكنتُ سأنتقلُ إلى منطقة بعيدة عنهم ولن أعود قادرة على زيارتهم إلا مرّة بين حين وحين. أوصَيتُ وداد بأنّ تهتمّ جيّدًا بوالدتي، وهي وعدَتني بأنّها ستعتبرُها أمّها الثانية، فزوجة أخي كانت قد فقدَت والدَيها الإثنَين.
وهكذا رحلتُ إلى طرَف البلاد مع عائلتي الصغيرة وبالي مُطمئنّ. وبالطبع بقيتُ على تواصل مع ذويّ عبر الهاتف وعبر الفيديو حين يطولُ غيابي عنهم. وشعرتُ كأنّني مُسافرة، ولَم يسبَق أنّ انفصلتُ عنهم هكذا.
تابَعَ أخي حياته بالذهاب إلى عمَله كالمُعتاد، بينما بقيَت وداد مع أمّي لتهتمّا بالبيت والطهو. حياة هنيئة وعاديّة للغاية، أليس كذلك؟ للأسف لا، فقد كانت زوجة أخي تضمُرُ الشرّ لأمّي، شرّ كما لَم أعرفه يومًا.
فصارَت تلك المرأة تتمكّن مِن البيت يومًا بعد يوم. ستقولون إنّ ذلك مِن حقّها وسأُوافقُكم الرأي، هذا لو أنّ ليس هناك مِن مُخطّط وراء ذلك.
ومع الوقت، فهِمَت والدتي أنّ كنّتها تحبُّ الإهتمام بتحضير الأكل، فتنازلَت عن هذه المهام. إلا أنّ وداد كانت تضعُ في الطهو الكثير مِن الملح والحرّ، أيّ ما هو مُضرّ جدًّا لصحّة العجوز. لماذا تفعلُ ذلك؟ سيأتيكم الجواب حالاً.
لَم تقُل أمّي شيئًا في ما يخصّ الطعام المالح والحرّ، لكنّها حاولَت إفهام كنّتها مرارًا بأنّ ذلك يؤذي صحّتها إلى أن إستنتنجَت أنّ ما تفعله وداد كان عن قصد. وكي لا تختلق المشاكل بين إبنها وعروسه، صارَت أمّي تطهو لنفسها. وهكذا بدأَت عمليّة الفصل والعزل.
تصرّفَت وداد بشكل طبيعيّ، لكنّها لَم تنسَ أن تقولَ لأخي إنّ أمّه لا تحبّ طعامها، فأسِف لكنّه لَم يرَ في ذلك أمرًا مُهينًا. لِذا صعَّدَت وداد الضغط، وتوقّفَت عن وضع ملابس وشراشف سرير أمّي في الغسّالة. وعندما لاحظَت والدتي أنّ غسيلها الخاص لَم يكن يُغسَل، سألَت كنّتها عن الأمر فأجابَتها:
- إنّكِ عجوز والله يعلَم مِن كمّ مرَض تُعانين... إضافة إلى ذلك، تفحُّ منكِ رائحة نتِنة وأشمئزًّ مِن فكرة غسيل ملابسكِ وشراشفكِ. قومي بذلك بنفسكِ يا حماتي، وأتمنّى أن يكون ذلك يدويًّا، فالجراثيم تبقى حيّة في الماكينة.
عندها إتّصلَت والدتي بي وأخبرَتني بما يجري، فجئتُ على الفور لأرى ما بإمكاني فعله، فلا أنا ولا أمّي كنّا نُريدُ زعزعة الوفاق الموجود بين أخي وزوجته. إختلَيتُ بوداد لأسألها عن مسألة الغسيل... والطهو، وهي فسَّرَت لي أنّها بكلّ بساطة تشمئزُّ مِن جسَد والدتي. أمّا بالنسبة للأكل، فمِن حقّها أن تأكل وزوجها أطباقًا تُناسبُ ذوقهما، مُضيفةً أنّ قبولها العَيش مع أمّ زوجها لا يعني فقدان شخصيّتها أو إرادتها أو إستقلاليّتها.
تفهمّتُ وضعها، فأنا الأخرى عشتُ لفترة مع حماتي قبل إنتقالي إلى بيتي الخاص. طلبتُ مِن زوجة أخي، مُجدّدًا، إعتبار حماتها وكأنّها أمّها وحصلتُ على الوعد السّابق نفسه. لكنّني لَم أعرِف حينها كَم أنّ وداد تكرهُ أمّها المُتوفّاة، وأنّ ما تفعلُه وستفعلُه بأمّي إنما هو مُجرّد إنتقام مِن والدتها الأصليّة. فوداد كانت إنسانة حقودة وشرّيرة، وقبولها السكن مع أمّي كان فرصة لها لِصبّ غضبها عليها. حمَلتُ المرأتَين على المُصالحة وتبادلتا القُبَل والمُعانقات، وغادرتُ المكان بعدما غسلتُ ملابس وشراشف أمّي. ثمّ إنشغلتُ بإبني الأصغر الذي أٌصيبَ بوعكة صحّيّة واكتفيتُ بالإتصالات الهاتفيّة مع أمّي.
لكن في تلك الفترة بالذات، بدأَ نظَر أمّي يشحّ وبشكل ملحوظ، بسبب إعتام عدسة العَين الذي يُصيب كبار السنّ. هي لَم تقُل شيئًا كَي لا تُزعج أخي أو تُكلّفه ثمَن العمليّة التي هي بحاجة إليها. فالجدير بالذكر أنّ أخي لَم يكن يجني الكثير بل فقط ما يكفي للأكل والشرب. وهكذا، إقتربَت والدتي شيئًا فشيئًا مِن العمى... بصمت.
أنا مُتأكّدة مِن أنّ وداد لاحظَت كيف أنّ حماتها صارَت تصطدم بالجدران وهي ماشية لأنّها لَم تعُد قادرة على التمييز بين الأشياء جيّدًا، لكنّها تصرّفَت وكأنّ شيئًا لَم يكن. وأستطيعُ تصوّر البسمة التي علَت وجهها يوم وقعَت أمّي بسبب مشكلة نظرها وفكَّت وركها.
أسرعتُ إلى أمّي لحظة ما أن سمعتُ الخبر، وبقيتُ معها في المشفى ليلاً نهارًا، ولكن كان عليّ العودة إلى عائلتي يوم أعادوا أمّي إلى البيت. بالطبع لاحظتُ شحّ نظرها ووبّختُها على صمتها حيال الموضوع، واتّفقنا أن أدفَعَ لها ثمَن العمليّة فور تعافيها مِن كسرها. عرضتُ عليها العَيش معي وعائلتي ولو لفترة قصيرة إلا أنّها رفضَت ترك بيتها، فكبار السنّ يُصبحون مُتعلّقين ببيتهم بشكل كبير. أوكلتُ الإهتمام بوالدتي طبعًا لوداد وغادَرتُ وبالي مُطمئنّ. فمَن سيتصور ما كان سيحصل بعد ذلك؟
أهملَت زوجة أخي حماتها لِدرجة لا توصَف، فهي لَم تكن تأخذُها إلى الحمام، لِذا صارَت شراشف سريرها مبلولة بالبول والبراز وكذلك ملابسها الداخليّة. وهي إشتكَت لدى زوجها بأنّ حماتها تفعلُ ذلك عمدًا لزيادة الحِمل عليها، وهو وبّخَ أمّي طالبًا منها الإفصاح عن حاجتها لدخول الحمّام لأنّ وداد كانت، حسب قوله، تتحمّل الكثير منها. علِمتُ بهذا الحديث مِن أخي الذي إتّصَلَ بي ليشتكي مِن كثرة تعَب زوجته بالإهتمام بأمّنا، فوعدتُه بالمرور مرّة في الأسبوع لأُساعدها.
وجدتُ والدتي مُكتئبة، فتصوّروا عجوزًا شبه مكفوفة قابعة في سرير متّسخ ورطب طوال الوقت! إلا أنّها لَم تقُل شيئًا بل بقيَت تُردّد: "ليُسامحها الله"، فهكذا كانت والدتي، إنسانة مُحبّة ومُسامحة.
شفَيت أمّي أخيرًا وصارَت قادرة على المشي ولو قليلاً بواسطة عصًا، فارتاحَ بالي. لكن جاءَت فترة إمتحانات ولدَيّ في المدرسة، وكان لا بدّ عليّ أنّ أُدرّسهما وأبقى إلى جانبهما كي لا يلتهيا. لَم أنسَ أن آخذ لأمّي موعدًا لدى طبيب العيون بِغرَض إجراء العمليّة لها.
لكنّ والدتي غرقَت في كآبة عميقة، الأمر الذي لاحظتُه في صوتها حين كنّا نتكلّم هاتفيًّا ورأيتُه على ملامحها خلال جلسات الفيديو. وهي بقيَت تصرُّ على أنّها بخير لكنّ الواقع كان مُخالفًا لذلك. تكلّمتُ مع أخي الذي بدا لي وقد سئم مِن وضع أمّنا ومِن "تعَب" زوجته اليوميّ، فإكتفَيتُ بِلَفت إنتباهه إلى حالة والدتنا النفسيّة. ضحكَ أخي وقال:
- وحالتنا النفسيّة؟ وما ذنب زوجتي الحبيبة؟ أنا مُتأكّد مِن أنّها ندِمَت على العَيش مع حماتها. أرجو فقط ألا تتركني وترحل! إنّ أمّنا بألف خير!
بعد أسبوعَين، ماتَت أمّي. إتّضحَ أنّها تناولَت أقراصًا عديدة مِن منوّم وصفَه لها الطبيب في ما مضى. جنّ جنوني، فكيف لها أن تنتحِرّ؟!؟ صحيح أنّ علاقتها بكنّتها لَم تكن مثاليّة لكن كان بإمكانها العَيش معي!
لَم أرَ وداد أثناء مراسم الدفن، فسألتُ أخي عنها وهو قال: "سنتحدّث في المساء". علِمتُ أنّ شيئًا مُريبًا حدَثَ فإنتظرتُ أن تكون أمّي الحبيبة قد ورَيت الثرى وصُلِّيَ على جثمانها مِن أجل سلام روحها، لأجتمع بأخي في البيت العائليّ وأعرف كيف لِكنّة الفقيدة أن تكون غائبة في هكذا ظروف. وهذا ما رواه لي:
ـ لقد طردتُ وداد مِن المنزل فور علمي بإنتحار أمّنا وسأُطلّقُها في أقرب وقت.
ـ لماذا؟!؟
ـ كانت الدلائل أمامي طوال الوقت لكنّني كنتُ أعمى... كيف لي أن أفضّل إنسانة غريبة على التي ولَدتني وربَّتني؟ صدّقتُ تلك الأفعى وكذّبتُ والدتي شبه الكسيحة والمكفوفة. أنا نذل!
ـ لا يا أخي، لا تقسِ على نفسكَ هكذا.
ـ بلى، بلى... فيوم إنتحرَت أمّنا رأيتُ وداد جالسة على حافّة سريرها تقولُ لها: "أُودُّ لو تموتي... أجل، عليكِ أن تموتِي، فلَم أُصدِّق أنّ والدتي القاسية ماتَت لتحلّي مكانها! إرحلي إلى دنيا أخرى واتركيني أعيشُ بسلام! سئمتُ مِن رؤيتكِ وسماع صوتكِ وشمّ رائحتكِ النتِنة! إن كنتِ تظنيّن أنّني سأتركُكِ بسلام، فأنتِ مُخطئة. أمقتُكِ إلى أقصى درجة، وأحلمُ باليوم الذي سأعيشُ في هذا البيت لوحدي مع إبنكِ، فهذا مِن حقّي! موتي أيّتها العجوز اللعينة!". وقفتُ عند الباب صامتًا لأرى إلى أيّ حدّ ستصل زوجتي في كلامها. المسكينة أمّي بكَت بصمت ولَم تُجِبها، تعرفين كيف هي والدتنا، تُبقي الأمور في قلبها. إنتظرتُ حتى خرجَت وداد مِن الغرفة فسحبتُها مِن ذراعها وقلتُ لها: "سمعتُ كلّ كلمة قُلتِها لأمّي أيّتها الأفعى! هذا بيت أمّي أوّلاً وهي ستعيشُ لتبلغ المئة سنة! إن كان الأمر لا يُعجبُكِ، فخذي أمتعتكِ وارحلي! لَم أُجبركِ على القبول بالعَيش هنا، بل أنتِ أكّدتِ لي أنّكِ لا تُمانعين في ذلك، وأنّكِ سعيدة بإيجاد أمّ ثانية لكِ بعد فقدان أمّكِ. لكن مِن الواضح أنّكِ تُريدين الإنتقام مِن أمّكِ مِن خلال والدتي. سأنامُ الليلة على الأريكة، فلقد اشمأزَّيتُ أنا منكِ!". صدقًا يا أختي، لَم أتوقّع أن تتأثّر أمّنا مِن حديث وداد لهذه الدرجة، وإلا لطمأنتُها وأخذتُها بين ذراعَيّ وقبّلتُها مئة قبلة. أنا مُذنب بقدر وداد... ماتَت أمّي بسبب حبّي لهذه المخلوقة الشيطانيّة!
واسَيتُ أخي قَدر المُستطاع، وبكَينا سويًّا على فقدان أعزّ إنسانة إلى قلبنا، لكن بعد ماذا؟ بعد أن فاتَ الأوان؟ طلّقَ أخي زوجته بسرعة، وهي تزوّجَت مُجدّدًا بعد أقلّ مِن سنة وسافرَت بعيدًا مع عريسها.
بقيَ أخي عازبًا لسنوات عديدة مُفضّلاً العَيش لوحده. هو أرادَ حتمًا التكفير عن ذنبه بمُعاقبة نفسه. إلا أنّني عرّفتُه على قريبة لزوجي، وهي سيّدة خلوقة ومُحبّة، وزوّجتُهما. فذاقَ أخي أخيرًا طعم الهناء الزوجيّ، لكنّ عينَيه بقيَتا حزينتَين إلى حين جاءَت إلى الدّينا إبنته الأولى. عندها عادَت السعادة إلى قلبه، خاصّة بعدما أعطاها إسم أمّنا، وكأنّه بذلك يُعطي لوالدته فرصة ثانية للعَيش.
حاورتها بولا جهشان