كنتُ أخاف من الناس ولكن...

عادةً، يرث المرء من أهله المال أو السمعة أو الذكاء أو الجمال، أمّا أنا فلم أرث من أهلي إلّا صحّتهما الرديئة. فكلاهما قضيا حياتهما في المستشفيات والعلاجات الطويلة وعندما ولدتُ ورأوا أنّهم أوجدوا مخلوقة هزيلة، قرّرا عدم الإنجاب مجدّداً. لم أكن أشكو من شيء بالتحديد، بل كانت مناعتي ضعيفة، أمرض ككل الأطفال ولكن بقوّة وأتعافى ببطء. فإذا مثلاً إلتقطتُ زكاماً، كنتُ أعاني منه أسابيع طويلة بدل الأيّام القليلة المعتادة. ولكثرة شعورهم بالذنب تجاهي، أحاطاني خوفاً من أن أموت بسببهما. وهكذا كبرتُ أقضي معظم وقتي في البيت، بينما كان رفاقي يذهبون إلى المدرسة ويلعبون سويّاً. كنتُ أدرس في المنزل لأعوّض عن غياباتي المتتالية وألعب وحدي طوال الوقت. وأصبحتُ منزوية على نفسي، أكره الزوّار وأخاف حتى أن أقترب من أيّ أحد لكي لا ألتقط مرضاً يسبّب لي الألم والتعب وأصبح العالم الخارجي يشكّل خطراً كبيراً عليّ تفاديه بأيّة وسيلة.
ومع مرور الوقت، باتَت بُنيتي أقوى من السابق وعندما حان الوقت لأذهب إلى الجامعة، قرر أهلي أنّ عليّ الإختلاط أخيراً مع باقي البشريّة. لن أنسى يومي الأوّل، عندما دخلتُ حرم الكليّة ونظرتُ إلى العدد الهائل من الطلّاب. كل واحد منهم كان بالنسبة لي عدوّاً يمكنه إعادتي إلى السرير. فجلستُ على حدىً، أراقب تحرّكاتهم وأستعدّ للإبتعاد إذا إقترب أحدٌ منّي. وحين دخلتُ الصف، إخترتُ مقعداً في زاوية في آخر الصف وكلّما جاء أحد للجلوس بقربي، كنتُ أقول: "آسفة... هذه المقاعد محجوزة." وهكذا بدأت السنة الدراسيّة الأولى، بعدما فَهِمَ الجميع أنّني أريد أن أبقى لوحدي. وكل هذا ولّد عند الطلاب والأساتذة نفوراً كبيراً منّي وبدأوا يؤلّفون نظريّات بشأن إنعزالي. فالبعض قال أنّني مجنونة خطيرة والآخر أنّني بنت أناس مشهورين أريد الحفاظ على سريّة هويّتي وهناك من إعتقد أنّني جاسوسة وكّلتها الإدارة لمراقبتهم. أيّ أنّني أصبحتُ الشخص الغير مرغوب به.
وللحقيقة لم يكن هذا يزعجني، طالما كانوا يبقون بعيدين عنّي وكنتُ سأظلّ هكذا لآخر حياتي لولا موت أهلي المفاجئ. ففي يوم من الأيّام، لقيا المسكينين حتفهما في حادث سيّارة مريع على الطريق السريع وفي لحظة واحدة وجدتُ نفسي حقّاً وحيدة في غياب من كان يهتمّ بي ولأمري. كانا الوحيدين الذين بإمكانهما الإقتراب منّي دون أن أصاب بالهلع. ومع موتهما فقدتُ من يعيلني ريثما أتخرّج وأجد عملاً. وأمام الأمر الواقع، إضطررتُ أن أترك الجامعة لأبحث عن مورد رزق. ولكن كل الأعمال والوظائف تتطلّب الإختلاط مع الآخرين وهذا لم يكن شيئاً أستطيع فعله. ومرّت الأيّام ونفذ كلّ المال الذي في حساب أهلي وأوشكتُ على أن أصبح في ورطة كبيرة. وفي هذه الفترة بالذات وقعَت عينيّ على إعلان في الجريدة يعرض عن من يرغب العمل من المنزل: "إعمل من دون أن تخرج من منزلكَ وأجني الكثير من المال! إتّصل على الرقم التالي:..." أخذتُ هاتفي فوراً وطلبتُ الرقم المذكور وأخبرَتني سيّدة أنّ كلّ ما أحتاج إليه هو الإنترنيت وإيجاد اللغة العربيّة والإنكليزيّة، فهذا العمل يقضي بإرسال رسائل إلكترونيّة إلى الناس تُعلن عن منتجات متعدّدة وكان الراتب يتوقّف على عدد الرسائل التي بإمكاني توزيعها. قبلتُ الوظيفة فوراً، لأنّني كنتُ بدأتُ أتضوّر جوعاً لقلّة مالي. وبدأتُ العمل. وبما أنّني أقضي كلّ وقتي في المنزل ولا أخرج أبداً، إستطعتُ وفي وقتٍ قصير كسر الرقم القياسي، ما حملهم على إعطائي زيادة في الراتب.
كنتُ سعيدة جداً لأنّني كنتُ قد وجدتُ مورد رزق يناسبني تماماً، فلم أكن مجبرة على التواصل الفعلي مع أحد، بل فقط عبر الإنترنيت. ثمّ طلبوا منّي أن أدير صفحات بعض الشركات على الفيسبوك، أدعو الناس للإلتحاق بها وأجب على أسئلتهم. أُعجبتُ بهذا المفهوم الحديث الذي يسمح لي بالتحدّث مع الآخرين، فكنتُ قد بدأتُ أعاني من تلك الوحدة التامّة. وهكذا بدأتُ أتواصل مع الزبائن بفضل كتيّب بعثوه لي يمكّنني من الإجابة عن جميع التساؤلات. وكان هناك زبون يُدعى وليد ولم يكن راضٍ عن إحدى المنتوجات وخدمة ما بعد البيع، فأخذتُ أساعده. ولكثرة إمتنانه بدأ يرسل لي رسائل شكر ومع الوقت أصبحنا مقرّبَين. أعطاني عنوان بريده الشخصيّ وبدأ يخبرني عن نفسه.
كان في الثلاثين من عمره، كان يعمل في شركة كبيرة وكانت وظيفته تأخذ كل وقته، فلم يكن لديه الفرصة للإختلاط كثيراً وعند إنتهائه من الشركة، كان يعود إلى منزله ليرتاح. فكان بيننا أمور مشتركة وأُعجبتُ بلطافته وأفكاره العميقة. ولكنّني أطلعته على رغبتي بإبقاء علاقتنا كما هي، أيّ أنّني لن أقابله شخصيّاً على الإطلاق وقبِل معي. وهكذا أصبحنا نروي لبعضنا كلّ شيء، فكان سهل جداً أن أخبره ما أشاء طالما كان سيبقى وراء شاشته بعيداً عني. وعلِمَ بشأن مخاوفي وإنعزالي عن العالم وعَمِلَ جهده على مشاركته معي بكل ما يختصّ بالعالم الخارجي لكيّ أشعر أنّني معه أينما ذهب ومهما فعل. ووجدتُ نفسي أنتظر رسائله بفارغ الصبر وأستاء إن تأخّر بالكتابة لي. وبعد أشهر على هذا النحو، تجرّأ وليد على طلب رقم هاتفي لِيضع صوتاً على رسائلي وبعد التفكير العميق أعطيته إيّاه، فلم يكن لديّ ما أخشاه وكنتُ أنا أيضاً أريد سماع صوت الذي بات يعرف عنّي كل شيء. وعندما سمعتُ أوّل كلمة تفوّه بها، بدأ قلبي يدقّ بقوّة وأعترف أنّني وجدتُ هذا الشعور لذيذاً، فلم أكن أتخيّل يوماً أنّني سأغرم بأحد. أحبّ وليد صوتي كثيراً وشعرَ بوجودي قربه ولكثرة إنفعاله، تلبّكَ ولم يعد يعرف ما يقوله لي:

 

- لستُ معتاداً على التكلّم معكِ بل على الكتابة... حتّى هذه اللحظة كنتِ أحرف على شاشة ولكن الآن أصبحتِ حقيقيّة أكثر...

 

- هذا ما أحسّ به أيضاً...

 

وصرنا نتهاتف يوميّاً ونتكلّم عن أمور كثيرة وشعرتُ أنّ العالم أجمل وأنّ حياتي أصبح لها معنى. وبعث لي وليد بصورة له، فحتّى ذلك الوقت لم أكن أعلم كيف هو شكله وحين فتحتُ الصورة علِمتُ أنّني مغرمة به. وأنا بدوري بعثتُ له صورتي وأُعجِبَ بي أكثر من الأوّل. ولكن بعد فترة أعرب وليد عن رغبته بلقائي شخصيّاً وعندما سمعته يقول هذا رجِعت مخاوفي كلّها:

 

- لا! كنتُ صريحة معكَ منذ الأوّل وأنتَ قبِلتَ معي... ما بالكَ تغيّر رأيكَ الآن؟

 

- أعلم أنّني وعدتكِ بألّا أطلب رؤيتكِ أبداً ولكن هذا كان قبل أن... قبل أن أغرم بكِ... أصبحتِ كلّ ما أفكّر به وحياتي تغيّرت بسببكِ... ولكنّ حبّي لكِ لن يكتمل إن بقيتي بعيدة عنّي... أحلم بأن أقابلكِ... لقد حلمتُ بهذه اللحظة مراراً وتخيّلتُ لحظة رؤيتكِ والنظر إلى عينيكِ الجميليتين... أرجوكِ...

 

- هذا لن يحصل أبداً... أنا آسفة ولكنّني لا أستطيع فعل هذا... لم أغشّكَ يوماً... أرجوكَ أن تنسى الموضوع.

 

- وإن لم أستطع؟

 

- إذاً عليكَ نسياني.

 

وبعد تلك المحادثة، بدأت الأمور تتغيّر بيننا، فأصبحَت مكالماته لي قليلة وقصيرة. شعرتُ بحزن عميق لأنّني كنتُ أدرك أنّني قد أخسره وأنّه كان على حقّ. ولكنّ خوفي كان أقوى من كلّ هذا. وفي النهاية أخبرَني أنّه لن يتّصل بي مجدّداً لأنّه كان يعاني من هذا الحبّ العقيم ومن الأفضل أن نبتعد عن بعضنا. وقبل أن يقفل الخط قال لي:

 

- لديكِ رقمي... إن شعرتِ يوماً أنّكِ مستعدّة لرؤيتي... دعيني أكمل... وإن وجدتِ أنّني برهنتُ لكِ كفاية أنّني لا يمكنني أن أؤذيكِ يوماً وإن شعرتِ أنّني أستاهل أن تعطيني الفرصة لأحبّكِ كما يجب... إن حصل هذا فأرجوكِ أن تتصّلي بي وسأكون أسعد رجل في العالم... وإن لم تفعلي فسأكون قد فوّتُّ قصّة حب جميلة... الوداع.

 

وحين أقفل الخط، شعرتُ أنّ العالم ينغلق عليّ. بكيتُ كثيراً على نفسي وعلى حالتي التي تمنعني من العيش كباقي الناس، لأنّني كنتُ أعلم أنّني لن أحظى يوماً بحياة طبيعيّة. كان وليد الإنسان الوحيد الذي فهمَني وقدّرَني ومن دونه شعرتُ بوحدة عميقة. ومِن بعده لم يعد لي رغبة في العيش، فتركتُ عملي وجلستُ وحيدة أنتظر الموت. وفي هذه الأثناء، لاحظ وليد أنّني لم أعد أدير صفحات الإنترنيت، فحاول الإتصّال بي للإطمئنان عليّ ولكن كنتُ قد أقفلتُ خطّي. حينها شعرَ أنّني لستُ على ما يُرام، فإتصّل بصديق له يعمل في شركة الهاتف وبعد أن توسّل إليه كثيراً، قبِلَ الرجل أن يعطيه عنواني وركض يدقّ بابي. عندما نظرتُ من الناضور خفتُ كثيراً ورفضتُ أن أفتح له. طلبتُ منه أن يرحل ولكنّه أكّد لي أنّه سيبقى واقفاً وراء الباب الوقت اللازم. وأمام إصراره، قرّرتُ أن أفتح له وحين فعلتُ ركضَ وعانقني بقوّة. خفتُ كثيراً وحاولتُ الإفلاة منه ولكنّه قال لي:

 

- لا تقاومي... أغمضي عينيكِ وإسمعي دقّات قلبي... 

 

وبقينا هكذا متعانقّين وقتاً طويلاً وعلمتُ حينها أنّني سأكون سعيدة معه حتى آخر حياتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button