كنت غير محظوظ في الحب

هل أنا رجل ساذج بِما يخصّ الأمور العاطفيّة، أم أنّنا نعيش في غابة تسودها قوانين غرائزيّة بحتة؟ كنتُ أخالُ أنّ الناس تشبهُني، أي أنّهم يتمتّعون بالأخلاق والقيَم ويعملون جهدهم لِتفادي أذيّة أخيهم الإنسان. والحقّ يقَع حتمًا على تربيتي، فأبوايَ لَم يُحصّناني ضدّ ذلك الأذى، بل صوّرا لي الحياة وكأنّها ورديّة اللون ومليئة بالحبّ والتآخي لأنّهما كانا ربمّا مثاليَّين.

فلقد خطبتُ مرّة وتزوّجتُ مرَّتَين، بحثًا عن الصبيّة أو السيّدة التي ستعرفُ كيف تردُّ لي حبّي لها. فشلتُ في ذلك فشلاً ذريعًا، وطلبتُ أن تُكتَب قصّتي لِمعرفة رأيكم بالذي جرى معي. هل الذنب ذنبي أم أنّني ضحيّة ظروف تلاقَت ببعضها، وحملَتني على الوقوع على مَن هنّ غير مُناسبات لي؟ هل لي أن أُحاول مِن جديد أم أنّ عليّ الرضوخ لِمصيري وأشيخ لوحدي؟

كلّ شيء بدأَ حين كنتُ لا أزال تلميذًا جامعيًّا. وقعتُ في ذلك الوقت في حبّ فتاة جميلة إسمها أميرة وهي قالَت إنّها تُحبُّني أيضًا. طلبتُ منها أن تنتظرني حتى أحصَل على شهادتي، وأجِدَ عملاً يُؤمّن لها حياة كريمة، وهي قبِلَت وأهلها بذلك. لكن تلك الصبيّة لَم تكن تتحلّى بِميزة الصبر، بل تزوّجَت مِن أوّل عريس تقدَّمَ لها وكأنّني لَم أكن موجودًا بتاتًا في حياتها. وأبشَع ما في الأمر هو أنّ أميرة تزوّجَت مِن دون أن تُعلمني بذلك، بل كنّا على موعد في ذلك اليوم. وحين انتظرتُها في المقهى لِساعة كاملة، قرّرتُ أن أقصد بيت أهلها للإطمئنان عليها. لَم أجد أحدًا طبعًا إذ كانوا جميعًا في الفرَح، إلا أنّ أحد الجيران زفَّ لي الخبَر الذي ظلّ يُطاردُني لِسنوات طويلة. عدتُ إلى البيت مهزومًا وفي قلبي وجَع تمنَّيتُ لو يخفّ ولو قليلاً، حين تُقدّمُ لي أميرة عذرًا لِما فعلَته. لكنّ حبيبتي لَم تتكبّد عناء إعطائي سبب لزواجها مِن غيري أو حتى الإعتذار.

حاوَلَ أهلي مواساتي لكنّ ذلك لَم ينفَع. وقرّرتُ أنّ عليّ الإبتعاد قدر المُستطاع عن الأمكنة التي تُذكّرنُي بأميرة، ففضَّلتُ الهجرة. بكَت أمّي كثيرًا وامتلأت عَينا والدي بالدموع، يوم ودّعتُهم للذهاب إلى فرنسا حيث يسكنُ إبن عمّي الذي دبَّرَ لي عملاً. سكنتُ عنده لِفترة ومِن ثمّ استأجرتُ لِنفسي ستوديو صغيرًا.

 


أحببتُ ذلك البلد ووجدتُ نفسي فيه خاصّة أنّ وائل إبن عمّي إهتمّ بي كثيرًا. إخترتُ سكَني الجديد في منطقة يسكنُها أناس شرقيّون، فلَم أشعر أنّني ابتعدتُ كثيرًا عن موطني. لا تنسوا أنّني كنتُ آنذاك في الثانية والعشرين مِن عمري، أيّ كنت شابًا صغيرًا.

مرَّت سنوات على غربتي، وصرتُ موظّفًا في شركة فرنسيّة كبيرة وأتقاضى راتبًا جيّدًا ساعدَني على الإنتقال مِن مسكني الصغير إلى شقّة جميلة. كنتُ قد أخذتُ قرضًا مِن البنك، لأنّني أرَدتُ شراء تلك الشقّة وليس استئجارها، فحياتي كانت في فرنسا وليس في بلدي.

جلبتُ والدَيّ لتمضية بعض الوقت عندي وليُبَاركا لي. لكنّ أمّي بدَت لي حزينة فسألتُها عن السبب وهي قالَت: "أدعو الله أن يُوفّقكَ يا بنَيّ، فأنتَ شاب نشيط وجدّيّ... لكنّ تلك الشقّة تنقصُها زوجة ولاحقًا أولاد... دعني أجدُ لكَ التي ستُسعدُكَ."

للحقيقة لَم أكن أنوي الزواج بل التركيز على استقراري، خاصّة بعدما حصلتُ على الجنسيّة الفرنسيّة. إلا أنّني لَم أشأ إزعال والدَيَّ. إلى جانب ذلك، وجدتُ أنّني كنتُ حقًّا بحاجة إلى رفيقة.

بعد ثلاثة أشهر، طلبَت أمّي منّي الذهاب إلى البلد لأنّها وجدَت لي الزوجة المُناسبة. كنتُ أثِقُ بحكمها على الناس، إلا أنّني نسيتُ أنّها ترى الخير في كلّ مكان... قبل الشرّ. فتلك العروس لَم تكن أبدًا الإنسانة المثاليّة التي ستُسعدُني... بل العكس. فقد كانت سلمى أنانيّة بامتياز لا تفكّرُ سوى بِمنفعتها الخاصّة.

عندما رأيتُ سلمى إبتسَمتُ لها لأنّها كانت جميلة وأنيقة، ووجدتُ أنّنا قد نُشكلّ معًا ثنائيًّا جميلاً. حديثها كان مُمتعًا ونظراتها مُغرية، أي أنّها كانت شبه كاملة. أطلعتُ والدتي على موافقتي على العروس، شرط أن أخرج معها بضع مرّات قبل أن أتقدّم لأهلها.

قضيتُ وسلمى أيّامًا لطيفة ثمّ خطبتُها، ووعدتُها بأن أعود قريبًا لرؤيتها مُجدّدًا. كنتُ أريدُ أن أتأكّد ليس فقط مِن عواطفها تجاهي بل أيضًا أنّني تمكّنتُ مِن نسيان خذلاني مِن أميرة، فالأمر كان أثَّرَ بي للغاية. زرتُ البلد وسلمى أربع مرّات قبل أن أتزوّجها، وأستطيع القول إنّني لَم أجد أيّ مانع لأن تصبح تلك الفتاة زوجتي، بل العكس. وبعد أن جهزَت أوراقها، وافَتني سلمى إلى فرنسا.

هل أسعدَتني زوجتي؟ للأسف لا، بل كانت جافّة معي وكثيرة المطالب. ردَدتُ الأمر إلى عدَم معرفتها بي جيّدًا، وإلى وضعها وأهلها المادّيّ إذ كانوا مِن عائلة قليلة الدخل. عملتُ جهدي لِتلبية رغباتها، لكن مِن دون نتيجة فهي كانت دائمًا تُريد المزيد. كانت سلمى تُمارس عليّ تهديدًا مُستمرًّا بعدَم القيام بواجباتها الزوجيّة إن لَم أكن أُعطيها ما تُريد، الأمر الذي أتعبَني كثيرًا. وأدركتُ بعد فترة أنّ زوجتي لَم تكن تُحبُّني بل تزوّجَتني لِغاية في رأسها. وتأكّدتُ مِن ذلك حين رحلَت سلمى بعد أربع سنوات، أي حين حصلَت على الجنسيّة الفرنسيّة. لَم نُنجِب، والحمد لله، فهي بقيَت تُرجئ الأمر لأنّها كانت تعلَم أنّها ستتركني ولَم ترِد إرباك نفسها بأولاد.

لَم أحزَن بل غضبتُ، لأنّني كنتُ قد أمضَيتُ أربع سنوات أحاولُ إرضاء امرأة لا يُرضيها شيء، ومثّلتُ على ذويّ دور الزوج السعيد. نسيتُ سلمى بسرعة، إلا أنّني حمِلتُ استيائي في قلبي وحياتي لمدّة عشر سنوات، بعد أن أقسمتُ على البقاء عازبًا والإكتفاء بعلاقات عابرة لا معنى أو هدف لها.

 


ماتَ والدي وحضرتُ دفنه وقلبي ينزف. ولحِقَت به أمّي بعد سنتَين فصرتُ وحيدًا. وحدَه إبن عمّي كان يسألُ عنّي وكنتُ أشعرُ معه وكأنّني لا أزال مُرتبطًا ولو بعض الشيء بعائلتي. فالغربة، مهما كانت جميلة، هي قاسية على مَن هاجَرَ لينسى.

كنتُ قد وصلتُ إلى مركز مرموق في الشركة، ولدَيّ كلّ ما يطلبُه أيّ إنسان، لكنّ قلبي كان ليس فقط فارغًا بل مغمورًا بِمرارة بما يخصّ النساء.

ويوم عيد ميلادي الخمسين، حضَّر لي وائل مُفاجأة لَم أتوقّعها. فهو دعاني إلى العشاء للإحتفال، وجلَبَ معه إمرأة فائقة الجمال إسمها شيرين. لَم أسمَح لنفسي بالتعبير عن إعجابي بها إذ أنّني خلتُها حبيبة إبن عمّي إلى حين أخذَني جانبًا ليشرحَ لي أنّ شيرين سيّدة مُطلّقة ومِن بلدنا، وأنّه كلّمها كثيرًا عنّي وهي وافقَت أن تتعرّف إليّ شرط أن أكون إنسانًا جدّيًّا، لأنّ جمالها جلَبَ لها المتاعب وخيبات الأمل. وفي غضون لحظة نسيتُ أميرة وسلمى وما فعلَتا بي، وتصوّرتُ نفسي أعيشُ مع شيرين أجمَل حياة. عُدنا إلى طاولة المطعم واستطعتُ التأمّل بِضيفتنا على سجّيتي، والإفتخار بعمَلي وأحوالي كما يفعلُ الرجال عندما يُريدون إبهار سيّدة.

بدأتُ وشيرين نتواعد ووجدتُ رفقتها مُمتعة للغاية فهي، إلى جانب جمالها، كانت إنسانة ذكيّة ومُثقّفة. تحدّثنا كثيرًا عن أمور الزواج وطلبتُ منها أن تُبقي في بالها، لو تزوّجنا، أنّني أريدُ أولادًا. هي الأخرى كانت تُريدُ ذلك، خاصّة أنّها خسِرَت ولدًا في ما مضى بعد ولادته بأيّام. بارَكَ لنا وائل وعقَدنا زواجنا بحضور شاهدَين فقط.

عشتُ مع زوجتي أيّامًا جميلة حتى بدأَ موظّفو الشركة بالتهامس حولي، الأمر الذي لَم يكن مِن الصعب مُلاحظته. لَم يخطر بِبالي السّبب الحقيقيّ ولَم أكن لأعرف شيئًا عن الموضوع، لو لا تلك السكرتيرة التي أشفقَت عليّ وقالَت لي ذات يوم حين كنّا في استراحة:

 

ـ أنتَ رجل طيّب يا سيّدي والكلّ يحبّكَ هنا، ونعرفُ أنّ يومًا سيأتي وتصبح مدير الشركة... لِذا مِن الأفضل أن تعلمَ حقيقة زوجتكَ.

 

ـ زوجتي؟ ما بها؟ بالكاد رأيتِها مرّتَين في مناسبات نظّمَتها الشركة.

 

ـ هناك مَن تعرّفَ إليها و... أخبرَنا عن مهنتها الأساسيّة.

 

ـ مهنتها؟ هي كانت موظّفة مصرف قبل زواجنا... وما الغريب في ذلك؟

 

ـ بل كانت تعمل في مكان... غير مناسب... أقصد كباريه... وزميلنا كان يتردّد إلى هناك في ما مضى، وأكَّدَ لنا أنّها كانت تُرافق بعض الزبائن إلى بيوتهم بعد انتهاء دوامها.

 

ـ ما هذا الكلام السخيف! حتى لو أنّ ذلك الشاب يقولُ الحقيقة عن مُمارساته، فلا بدّ أنّه أخطأ بالتعرّف إليها. لا أريدُ أن يتكلّم أحد عن زوجتي بعد الآن!

 

ركضتُ إلى وائل لأستفسر عن الأمر، فقد كانت شيرين غامضة بعض الشيء في ما يخصّ ماضيها وأنا احترمتُ إصرارها على خصوصيّتها.

إعترَفَ لي إبن عمّي أنّه تعرّفَ إلى شيرين في الكباريه، لكنّه أكَّدَ لي أنّها سيّدة طيّبة تبحثُ حقًّا عن شريك جدّيّ لِتخرج مِن نطاق عملها. حينها سألتُه سؤالاً ندِمتُ على طرحه لاحقًا:

 

ـ هل سبَقَ أن عاشَرتَ شيرين، يا وائل؟

 

وبعد سكوت طويل قال لي:

 

ـ أجل... أنا آسف.

 

عندها لَم يعد بِمقدوري إبقاء شيرين إلى جانبي. كنتُ لأُسامحها على ماضيها، لكنّ العَيش معها وأنا أعرفُ ما حصَلَ بينها وبين وائل كان مُستحيلاً. على كلّ حال، لا أدري إن كانت شيرين ستبقى وفيّة لي على مرّ الزمَن أو تعود إلى عادتها القديمة، فتغلّبتُ على حزني لأعود إلى وحدتي السابقة.

تأثَّرَت علاقتي بوائل، فلَم أُسامحه على إقحامي بهكذا زيجة، مع أنّني مُتأكّد مِن أنّ نواياه كانت صافية، على الأقل بِمفهومه الخاص.

عُيّنتُ مديرًا للشركة كما كان مُتوقَعًا. لكن فور بلوغي سنّ التقاعد بعتُ كلّ شيء وعدتُ إلى وطني لأشيخ فيه، فلَم أرِد أن أموت يومًا على أرض ليست أرضي. أزحتُ نهائيًّا فكرة الإرتباط مُجدّدًا بعد أن نلتُ نصيبي مِن الخذلان.

هذه قصّتي... ما رأيكم بها؟

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button