عندما أذهب إلى البقّال أو اللحّام ينظر إليّ الناس بإشمئزاز ويتكلّمون عنّي فيما بينهم لأنّني بنظرهم إمرأة سيّئة.
ربّما هم على حقّ ولكن ما عسايَ أن أفعل وفي رقبتي أطفالاَ عليّ إطعامهم؟ كان لي زوج يوماً ولكنّه فضّل تركنا والذهاب إلى حيث الحياة أفضل فهاجرَ إلى بلد بعيد ولم يرجع ولم أسمع عنه منذ ذلك اليوم. ووجدتُ نفسي وحيدة مع ثلاث أولاد وكلّ ما أردته هو أن أتابع معهم حياتي. ولكنني لم أكن مؤهّلّة لفعل شيء فلم أتابع دراستي والزواج بالنسبة لي كان هدفاً قد بلغته فلم أفكّر سوى ببناء عائلة. وبعد رحيل زوجي عانيتُ كثيراً لإيجاد المال لدفع إيجار الشقة ومدرسة الصغار ناهيك على المأكل والملبس. عملتُ في محل للألبسة وكان الأجر الذي أتقاضيه بالكاد يكفي لشراء الأكل والشرب. ولحسن الحظ أخبرني أحد أنّ هناك مكاناً شاغراً في ملهى ليلي وأنّ كل ما عليّ فعله هو تقديم المشروب للزبائن. كانت هذه فرصة لأسدد الديون التي بدأت تتراكم عليّ والتي كانت ستؤدي إلى طردنا من الشقة وإيقاف تعليم الأولاد.
وعندما دخلتُ ذلك الملهى شهقتُ من كثرة الزبائن ومعظمهم رجالاً ومن العتمة التي كانت تسود في هذا المكان فبالكاد يستطيع المرء إيجاد طريقه بين الطاولات. أعطوني مريولاً وطلبوا منّي إيصال المشروبات إلى الزبائن. ومنذ اليوم الأوّل كل شيء جرى على ما يرام فكنتُ مصرّة أن أنجح على الأقل بسبب أولادي.
ولكن هذا العمل لم يكن يقتصر على حمل الصينية وأخذها إلى الطاولة بل علمتُ في اليوم التالي أنّ عليّ الجلوس مع الزبائن والتكلّم معهم وحثّهم على طلب المزيد. لم أجد شيئاً مشيناً في هذا ما دامَ بقٍ ضمن إطار الأخلاق حتى أن طُلِبَ مني إرتداء فساتين قصيرة تحت المريول ووضع المساحيق.
وهذا ما فعلته لأنّه كان جزءاً من عملي وكنتُ بحاجة إلى مدخول يؤمن لنا الطمأنينة.
وبدأتُ أساير الرجال وأضحك لأخبارهم وأشعرهم أنّهم مهمّين وأنّني أهتمّ لأمرهم وهم في دورهم كانوا يطلبون قناني الخمر ليبقوا وقتاً أطول معي. وكان مدير الصالة ممنوناً جداً مني ويشجّعني على المتابعة. وهناك إلتقيتُ بربيع. كان قد جاء مع أصدقائه وعندما جلسوا على الطاولة رأيته وأُعجبتُ فوراً به فطلبتُ من زميلتي أن تسمح لي بخدمة هؤلاء الرجال لكونهم جالسين في قسمها. قبِلَت معي فأسرعتُ لأخذ الطلبية منهم. نظرَ إليّ وإبتسم وقال:
- أنا آتي إلى هنا دائماً ولكن هذه أوّل مرة أراكِ فيها... عادةً هناك نادلة أخرى... هل هي مريضة اليوم؟
- أأ... نعم... أقصد لا... هي مشغولة بعض الشيء. هل لديكم مانع أن أسهر معكم الليلة؟
- بالعكس... أنتِ أجمل منها بكثير!
وأمضيتُ السهرة جالسة معهم نتساير ونضحك وللحظة نسيتُ كل متاعبي وتخايلتُ أنني إمرأة عاديّة خرجَت مع أصدقائها لتمضي الوقت. ولكن حان وقت رحيل ربيع ورجعتُ إلى الواقع. وقبل أن يخرج قال لي:
- أين يجب أن أجلس في المرة القادمة لتكوني معي؟
- هناك...
وعادَ في اليوم التالي وكلّ يوم. وأخبرتُه قصّتي وحزنَ كثيراً لوضعي:
- إٍسمعي ليلى... أنا رجل متزوّج ولي أطفالاً أحبّهم كثيراً... آتي دائماً إلى هنا لأنني لا أحبّ العودة إلى منزلي ورؤية زوجة باردة ومتسلّطة. وجدتُ فيكِ ما أبحثُ عنه في المرأة. هل لي أن أساعدكِ قليلاً؟ أنا رجل أعمال ناجح وأنا قادر على تخفيف ألمكِ شرط أن تكفّي عن العمل في هذا المكان وأن تصبحي صديقتي الحميمة. فكّري بالأمر فأنا إنسان لطيف ورقيق وأظنّ أنّ كلانا بحاجة للآخر.
لم أنم تلك الليلة وأنا أفكّر بعرضِه. لم لا يكون لي صديق؟ فزوجي تركَني وأصبحتُ كأي إمرأة عزباء. صحيح أنّه متزوّج ولكنّه أفضل من كل هؤلاء الذين يأتون إلى الملهى. فقبلتُ معه وتركتُ العمل وأصبحنا نتواعد في بيتي حيث كان يأتي محمّلاً بالهدايا للأولاد ولي وبالمأكولات الطيّبة. لم أفكّر بالناس ولكنّهم كانوا يرون كل شيء وبدأوا يتكلّمون عنّي بالسوء. وبدأتُ أتعّلق بربيع حتى أن وقعتُ بحبّه وباتَ أهمّ إنسان في حياتي من بعد أولادي وإعتقدتُ أنني سأعيش معه قصّة جميلة. ولكن في يوم من الأيّام قالَ لي أنّه مغادر إلى بلد آخر وسيسكن فيه بصورة دائمة. وفي تلك اللحظة إنهار عالمي. كيف كنتُ سأعيش من دونه عاطفيّاً وماديّاً؟
وتركني لوحدي. بعثَ لي بعض المال في الفترة الأولى ثم إنقطعَت أخباره كليّاً. وعدنا إلى الفقر فقررتُ الرجوع إلى الملهى حيث إستقبلني المدير بحرارة. وكنتُ قد تعلّمتُ الدرس وصممتُ ألا أقع في الحب مرّة أخرى مع أيّ من الزبائن ولبل الإستفادة منهم قدر المستطاع لأنّهم أناس أنانيين لا يفكّرون سوى بنفسهم. فتعرّفتُ على رجل آخر ثم ثاني ثم ثالث تتالوا إلى بيتي وجلبوا لي ولأولادي كل ما كنتُ أطلبه منهم مقابل لحظات متعة.
هذه هي حياتي اليوم وكم كنتُ أتمنى ألا تكون هكذا. قريباً أنوي الإنتقال إلى مكان آخر بسبب موقف الناس منّي والمضايقات التي تحصل لأولادي في المدرسة وأرجو أن تكون حياتنا أفضل هناك وأن ألتقي بمن يحبّني فعلاً لأستعيد نفسي.
حاورتها بولا جهشان