كنت أبحث عن خاتمي فوجدت ما قَلب حياتي كلها!

أطلقتُ صرخة مزَّقَت هدوء البيت حين أدركتُ أنّني أضعتُ خاتمي، الخاتم نفسه الذي أهداه لي زوجي يوم خطبَني. كنتُ قد أبقَيتُه في إصبعي منذ ذلك الوقت لأُذكِّر نفسي بالفرَح الذي أحسستُ به. فالحقيقة أنّ تامر كان شابًّا وسيمًا ومُحاطًا بالمُعجبات، والإرتباط به رسميًّا عنى الفوز على كلّ الفتيات. أنجَبنا ولدَين وكبّرناهما وسفّرناهما إلى الخارج ليحظيا بمستقبل أفضل. وهكذا بقينا نحن الإثنَين في شقّتنا الجميلة، وأعترفُ أنّني أحببتُ فكرة العودة إلى ما قبل أن نصبَح أبوَين وتغمرُنا الهموم.

وها أنا أفقدُ فجأة رمز حبّنا، أيّ الخاتم، فإمتلأ قلبي بخوف شديد، إذ لطالما كنتُ أُعطي تفسيرًا ما ورائيًّا للأحداث، الأمر الذي أثارَ ويُثيرُ سخرية تامر. فتّشتُ عن الخاتم في كلّ مكان، ورجوتُ الله ألا يكون ذلك نزير شؤم. هل كان سيموت تامر أو يحصل له مكروه؟!؟ لا! كلّ شيء إلا هذا! أقنعتُ نفسي بأنّني أفكّرُ بسخافة فهدأ قلبي قليلاً.

 

أين ذلك الخاتم؟!؟ ثمّ تذكّرتُ أنّني أفرغتُ بقايا الغداء في كيس قمامة حزمتُه ثمّ رمَيتُه في المُستوعَب المُخصّص للمبنى. أجل، قد يكون هناك! ركضتُ إلى أسفل المبنى قبل أن يهبط الليل، لأُفتّش في الكيس. ولَم أنسَ أن أرتدي قفّازات ومئزرًا، فالمُستوعب مليء بالأوساخ والجراثيم. سألَني زوجي أين أنا ذاهبة، ولَم أجِب فعلاً بل تمتمتُ بضع كلمات غير مفهومة، وخرجتُ ركضًا إلى أسفل السلالم. إقتربتُ مِن المستوعب الكبير وبدأتُ أفتّشُ عن كيسنا الذي كان أزرق اللون على خلاف باقي الأكياس. بعد دقائق، أطلَّت إحدى جاراتنا وسألَتني عمّا أفعلُه، فأجبتُها بأنّني أبحثُ عن شيء أضعتُه، وتابعتُ عمَلي.

 

وجدتُ أخيرًا كيسنا الأزرق إلا انّني رأيتُ آخر مِن اللون نفسه. أيّهما كان لنا؟ لَم أكن مُتحمّسة لفكرة فتح كيس أناس آخرين، فمدّ يدي في داخله كان كافيًا لإثارة إشمئزازي. فكلّنا نعلَم ماذا نرمي في أكياسنا مِن قذارات.

قرّرتُ أن أفتَحَ الكيسَين الزرقاوَين وأنظرُ فقط إلى محتواهما، فلا بدّ لي أن أتعرّفَ إلى الذي يخصّنا. أذكرُ أنّ آخر ما رمَيتُه في الكيس كانت علبة محارم وغلاف جبنة وبقايا الغداء.

 

فتحتُ أوّل كيس ولَم يكن لنا فأقفلتُه على الفور. عادَت جارتنا إلى شبّاكها وصرخَت: "هل ستفتحين كلّ الأكياس!؟!". أجبتُها بالنفي وطلبتُ منها العودة إلى الداخل وتركي بسلام. سمعتُها تشتمني بصوت خافت وقرّرت توبيخها لاحقًا.

 

 

أدخلتُ يدَيّ الإثنتَين في كيسنا، وأخذتُ أُقلِّبُ النفايات في داخله بمحاولة للوصول إلى قعره لإيجاد الخاتم. لا شي! أعدتُ المُحاولة، فلَم أكن لأستسلم أبدًا! بدأ الليل يهبطُ ولَم أعُد أرى جيّدًا. يا لَيتني جلبتُ معي مصباحًا! جالَت أصابعي في أنحاء الكيس كلّه مِن دون نتيجة، وحين سحبتُ إحدى يدَيّ منه، علِقَ شيء بها لَم أعرف ماهيته على الفور. كان شيئًا لزِجًا يمغطُ بين أصابعي. ثمّ استوعبتُ أنّني مُمسكة بواقٍ ذكريّ! ماذا؟!؟ لا، أنا حتمًا مُخطئة، فلا سبب لوجود واقٍ في كيسنا، فلَم نستعمله يومًا لأنّني آخذ حبوبًا لمنع الحمَل يوميًّا. جلستُ على الحافة قرب المُستوعب لأُفكّر مليًّا بالذي وجدتُه. فلَم يكن في الشقّة إلا أنا وزوجي ولَم نستقبل ضيوفًا. فذلك يعني... يا إلهي... لا، لابدّ أنّ هناك تفسيرًا منطقيًّا لذلك الواقي. والطريقة الأنسب للحصول على جواب هي أن أسأل تامر. وتصوّرتُ غضبه منّي لو فعلت، وتهكمّه عليّ ومُلاحظاته المُزعجة بالنسبة لخيالي ومخاوفي وتصوّراتي. لكن كان عليّ أن أحصل على تفسير ما! عدتُ وتأكدّتُ مِن أنّ الكيس هو فعلاً لنا، إذ وجدتُ علبة المحارم وغلاف الجبنة وبقايا الأكل. ولَم يكن مِن الممكن أبدًا أن يكون أحد جيراننا قد استعمل الأصناف والطعام نفسه! ونسيتُ خاتمي الحبيب وفترة الخطوبة، وإنشغَلَ بالي بذلك الواقي وحسب.

وتفاجأتُ بزوجي قرب المُستوعَب:

 

ـ ماذا تفعلين؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟

 

ـ لا... لا... بل أضعتُ خاتمي، ذلك الذي خطبتَني به، وأظنّ أنّه في كيس القمامة.

 

ـ هيّا إصعدي إلى البيت حالاً، فلقد اتّصلَت بي جارتنا حين رأَت ما تفعلينَه... المبنى بأسره يضحكُ عليكِ!

 

ـ لا أرى أحدًا عند النوافذ! أُريدُ خاتمي!

 

شدَّني تامر إلى داخل المبنى وإلى شقّتنا، وأمرَني بأن أستحمّ فورًا لأزيل عنّي رائحة القمامة. إمتثلتُ لأمره بحزن لأنّ عامليّ النظافة سيأتون في الصباح لإفراغ المُستوعب مِن أكياسه وسيختفي الخاتم إلى الأبد.

لَم أسأله عن الواقي الذكريّ فكان مِن الواضح أنّ الوقت غير مُناسب. دخلتُ الحمّام ونظّفتُ نفسي جيّدًا، وحين خرجتُ بعد نصف ساعة كان زوجي جالسًا في الصالون يُشاهد التلفاز. حضّرتُ له العشاء وأكلنا بصمت، فهو كان مُستاءً منّي وأنا مشغولة البال بما وجدتُه في كيس القمامة. دخلنا غرفة النوم وقبّلَني تامر على جبيني كعادته، ليتمنّى لي ليلة سعيدة وغرِقَ في النوم بسرعة.

لَم تغمُض لي عَينٌ، فإنتظرتُ ساعة كاملة ثمّ لبستُ روبًا فوق قميص النوم وأخذتُ مصباح يد وتسلّلتُ بصمت خارج الشقّة. نزلتُ السلالم على رؤوس أصابع قدمَيّ وقصدتُ المُستوعب. أجل، فأنا إنسانة عنيدة، وذلك الإصرار يُزعجُ زوجي... حين أكون على حقّ.

لكنّني تفاجأتُ بإيجاد كيس أزرق ليس إلا! أين اختفى الآخر؟ فتحتُ الكيس الموجود وإذ بي أكتشفُ أنّه ليس الذي يخصُّنا. لكن مَن... مهلاً... هل يُعقَل أن يكون تامر قد نزِلَ إلى المُستوعَب حين كنتُ أستحمّ؟!؟ وهل فعَلَ ذلك لإخفاء الواقي الذكريّ؟ لا، لا يمكن ذلك! قرّرتُ التفتيش عن كيسنا الأزرق، فلا بد أنّه ليس بعيدًا عن المُستوعب. وبالفعل وجدتُه، فهو كان مُخبّأً في فتحة تهوية ليست ببعيدة. هكذا إذًا... فكان مِن الواضح أنّ كيسنا لَم ينتقّل بنفسه إلى مكان آخر، بل أنّ زوجي خافَ مِن محتواه. فتحتُ الكيس وأخذتُ أفتشُ مُجدّدًا عن الخاتم، ولَم أنسَ أخذ الواقي معي في محرمة ووضعه في جَيبي. لَم أجِد خاتمي على الإطلاق، وحزنتُ أن أكون أضعتُه في اليوم نفسه الذي أكتشفُ فيه مِكر زوجي. هل كانت تلك علامة؟

 

عدتُ إلى شقّتنا وسريرنا بصمت فائق، ولَم يشعُر تامر بأنّني خرجتُ على الإطلاق. غريب كيف أنّ البعض يستغبي الآخرين ويحسبُ نفسه أذكى منهم!

لَم أستطِع النوم على الإطلاق لأنّ رأسي كان مشغولاً بالتحليل، وجَمع المُعطيات الجديدة والقديمة لربطها ببعضها بغية الوصول إلى إستنتاج ما. ومِن بين تلك المُعطيات، جملة قالَها تامر لَم أنتبِه إلى معناها الفعليّ: "لقد اتّصلَت بي جارتنا". فكيف لها أن تعرف جارتنا رقمه؟ فنحن لسنا على علاقة مُباشرة مع أيّ مِن جيراننا خاصّة مع تلك الأرملة المُتعجرفة. وإن كنّا نُريدُ شيئًا مِن بعضنا كنّا ندقُّ بابهم. هل تامر على علاقة معها هي بالذات؟ إنتظرتُ إلى أن إستفاقَ وشرِبَ قهوته حتى قلتُ له:

 

ـ لقد وجدتُ الكيس الذي أنتَ أخفَيتُه في فتحة التهوئة بينما كنتُ في الحمّام. وها هو الواقي الذي لَم ترِدني أن أراه. أعرفُ أنّكَ على علاقة مع الجارة التي رأتني أُبعثرُ القمامة والتي أنذرَتكَ. أتجلبُ إمرأة إلى بيتنا وتُمارس الجنس معها في سريرنا، أيّها الحقير؟!؟

 

ـ أنتِ حقًّا مجنونة!!! يجبُ عرضكِ على طبيب نفسيّ! لطالما وجدتُكِ غريبة الأطوار، لكنّني لَم أتصوّر أن يصل جنونكِ إلى هذا الحدّ! سأُطلعُ ولدَينا على حقيقتكِ ليعرفا كَم أُعاني معكِ.

 

ـ لا تُهدّدني يا عزيزي فستكون الخاسر الأكبر. فهذا الواقي هو إثبات قطعيّ لخيانتكَ لي.

 

ـ وكيف ستثبُتين أنّه لي يا شاطرة؟

 

وهنا اخترعتُ سيناريو لإفزاعه لَم أنوِ تنفيذه فعليًّا:  

ـ الأمر سهل جدًّا. سآخذه إلى مُختبر حيث سيفحصون حمض النوويّ ويُقارنوه مع الشعر الذي جمعتُه مِن فرشاة شعركَ وريقكَ الذي على فرشاة أسنانكَ. وها هم في هذا الكيس!

 

ـ مجنونة أنتِ! مِن أين جئتِ بهذه الأفكار؟!؟ ربمّا عليّ ترككِ بكلّ بساطة!

 

ـ جئتُ بها مِن المسلسلات الذي أحضرُها أثناء غياباتكَ العديدة عن المنزل يا عزيزي، فلا يجدرُ بأيّ رجُل أن يتركَ زوجته لوحدها مُطوّلاً. وحين تأتي نتيجة المُختبَر، سأرفعُ دعوى طلاق وسآخذُ منكَ كلّ ما تملك! وسنرى حينها مَن منّا هو المجنون!

 

ـ ماذا تُريدين؟

 

ـ أُريدُ إعتذارًا منكَ وإعترافًا ليس فقط بخيانتكَ بل بتفوّقي العقليّ عليكَ. فلقد سئمتُ مِن مُلاحظاتكَ البشعة لي لتحجيمي. وأريدُ أجمَل خاتم أختارُه بنفسي والذي سيُمثّل بالنسبة لي بداية حياة جديدة إذ سأكون إنسانة جديدة أيضًا. وأُريدُ أن تقطَع علاقتكَ بتلك المرأة أو بأيّة إمرأة أخرى وأن أعرِفَ بالساعة والدقيقة عن تواجدكَ. تستطيع تركي إلا أنّ الأمر سيُكلّفكَ مبالغ كبيرة. وأُريدُكَ أن تنام في غرفة الولدَين وليس بالقرب منّي، فلَم أعُد أطيقُ حتى سماع صوت نفَسكَ قرب أُذني أو شمّ رائحتكَ، أيّها الخائن.

 

ـ كلّ هذه المطالب مِن أجل علاقة بسيطة؟!؟

 

ـ علاقتكَ التي تصفُها بالبسيطة إسمها خيانة، أيّ غشّ وكذب وتخطيط وقلّة إعتبار لكياني وكرامتي. ماذا لو قرّرتُ أنا أن أٌقيمَ "علاقة بسيطة" مع أحد جيراننا؟

 

ـ لن أسمحَ بذلك!

 

ـ وأنا لن أسمحَ لكَ بذلك أيضًا! فكونكَ رجُلاً لا يعني أنّ لدَيكَ كرامة أكبر مِن كرامتي، أو عنفوانًا لا أملكه أو شعورًا يُجرَح أكثر.

 

ـ سأقتلُكِ إن فعلتِ!

 

ـ قد أقتلكَ قبل ذلك على الذي فعلتَه يا عزيزي.

 

ـ سأتركُ البيت وأرحل.

 

ـ مع ألف سلامة!

 

أخَذَ تامر أمتعته وتركَ البيت وشعرتُ بإرتياح شديد. لكنّني ذقتُ طعم الانتصار حين هو دقّ باب الشقّة بعد أسبوعَين على التمام. لَم أقُل له شيئًا وهو سألَني:

ـ هل لي أن أضَع أغراضي في غرفة الولدَين؟

 

ومنذ ذلك الحين، لبّى تامر كلّ طلباتي، لكنّني أُعاملُه وكأنّه ضيف وليس زوجًا. نعيشُ بسلام وهدوء وهو لا يُبارحُ البيت إلا للذهاب إلى عمله. لكنّني خسرِتُ الحلم الذي غذّى قلبي لسنوات طويلة، الوَهم الذي عشتُ فيه إلى حين صحوتُ على الحقيقة المُرّة. لَم يعرِف ولدانا بشيء على الإطلاق، بل نُمثّلُ أمامهما دور الثنائيّ المُلتحِم حين يأتيان لزيارتنا خلال الأعياد. أليست الحياة تمثيليّة كبيرة؟ سيأتي يوم ويُسدَل الستار، ويعودُ الممثّلون إلى حقيقتهم ويختفي الحلم!

 

حاورتها بولا جهشان         

المزيد
back to top button