كم من إمرأة عانت كأمي من العنف...

كم مِن مأساة تدور وراء جدران المنازل، وكم مِن دموع تُذرَف بِصمت وكم مِن آمال تُبنى وتُهدم مِن أجل الناس والعائلة. هذه قصّة أمّي التي ضحَّت وصبرَت وتأمَّلَت وخضعَت ومرضَت. قصّة امرأة لم تختر رجل حياتها وتحمّلَته لتحافظ علينا وعلى ماء الوجه. الوجه نفسه الذي كان يتلوَّن بالكدمات التي كان يُخلّفها الطاغي الذي اسمه أبي.

لِنعد إلى الماضي لنفهم ظروف زواج أمّي. كانت قد ولِدَت وسط عائلة فقيرة مؤلّفة مِن أولاد كثر كما يحدث غالبًا عند الفقراء، وكانت تقوم المسكينة منذ صغرها بالأعمال المنزليّة وتهتمّ بإخوتها وتجد أعمالاً صغيرة لجني بعض المال. ولكنّها بقيَت تذهب إلى المدرسة لكثرة حبّها للعلم. وفي عمر السابعة عشرة، تحدّد مصيرها حين عاد جدّي برفقة ضيف "مهمّ" كان قد التقى به في الحانة. وعندما رأى ذلك الرجل أمّي، أُعجِبَ بها على الفور وأعرَبَ عن نيّته بالعودة مرّة ثانية. وبالطبع قبِلَ جدّي، فمَن كان ليرفض رجلاً ميسورًا وذا نفوذ خاصة عندما يُمثّل تذكرة خروج مِن الفقر؟

 

وعاد العريس مع الهدايا والطيّبات ومع خالته وبعض الأقارب لطلب يد الصبيّة الجميلة. ورفضَته أمّي أوّلاً لأنّها كانت تريد غيره، وثانيًا لأنّ أبي كان يكبرها بعشر سنوات، وثالثًا لأنّها لم تُعجَب به على الأطلاق. والجدير بالذكر أنّ أمّي لم تحبّ أبي يومًا، لا في البداية ولا حتى أيّامنا هذه.

 

ويوم الزفاف، هَرَبت والدتي مِن المنزل واختبأت عند قريبة لها. ولكن سرعان ما أعادوها وحضّروها للحياة البائسة التي كانت تنتظرها.

 

وبعد الزفاف بأيّام قليلة بدأ يظهر وجه أبي الحقيقيّ. كان ذلك الإنسان مجبولاً بالكذب والغضب والعادات السيّئة. فالخالة والأصحاب الذين رافقوه لطلب أمّي، لم يكونوا سوى غرباء جلبَهم والدي ليُمثّلوا دور أفراد عائلته. وأتَضحَ أنّه كان يشرب كثيرًا ويلعب بالقمار ويُحبّ النساء. إضافة الى ذلك، كان مِن هؤلاء الذين يصبّون غضبهم على مَن هو أضعف منهم. وتحمّلَت المسكينة كل ذلك لأنّها حَملت بأوّل ولد وتأملَّت ككلّ امرأة مغبونة ومعنّفة أنّ مجيء الأطفال يُغيّر هؤلاء الرجال. وبالطبع كانت على خطأ، فَمَن يهين ويضرب لا يوقفه مخلوق صغير بل يُغضبه أكثر.

وهكذا لم يعد أبي يتواجد في البيت إلا نادرًا. كان يذهب بعيدًا لأيّام طويلة ليعود صارخًا ومهدّدًا. وفكّرَت أمّي بالطلاق خاصة بعدما وجَدَت أنّ الإنجاب لم ينفع، وأنّه بعد 3 أولاد أصبح الرجل أكثر عدائّية وإهمالاً. ولكنّ أهلها رفضوا رفضًا قاطعًا، واستعملوا الشعار الشهير الذي أتعَسَ ويُتعس آلاف النساء المقهورات:" الطلاق مرفوض عندنا".


وعادَت والدتي إلى صمتها المقرون باليأس وإلى حياة سوداء لا يُلوّنها سوى وجود أطفالها.

 

ولم يعد لجنون أبي حدود. فكان يترك لنا بالكاد ما يلزمنا لنأكل، ويأخذ عشيقاته إلى الخارج ويصرف عليهنّ مبالغ طائلة مِن المال. وأذكر أنّ والدتي كانت تحرم نفسها مِن الطعام لتؤمِّن لنا ما نحتاجه، وتتحجّج بأنّها أكَلت قبل وصولنا مِن المدرسة، وبقيَت تلبسنا أجمل ثياب كي لا نشعر بالذي يحصل. ولكنّنا كنّا نرى وجهها المزرقّ وعينَيها المسودّتين بعد عودة والدي.

 

وذات يوم بعد أن كَسَر أبي أنفها ورحَلَ يُلاقي أحبابه، ولكثرة إلحاحي عليها، أخَذنا سيّارة أجرة لرؤية طبيب في المشفى. وحين صعدنا في المركبة، عَلِمَ السائق فورًا أنّ أمّي امرأة معنّفة رغم زعمها بأنّها وقَعَت. كان إسمه جاسر وكان مِن عمر أمّي. إنتظرنا حتى انتهينا مِن المعاينة والعلاج، وأعادَنا إلى البيت بِصمت. كانت عينَاه حزينتَين وهو ينظر إلى والدتي في المرآة وهو يقود. وحين وصلنا، أعطانا رقمه لنتصل به كلّما أردنا التنقّل.

 

وبعد أيّام إتصَلَت أمّي بجاسر ليقلّنا إلى منزل جدّي. وفي ذلك النهار دارَت أحاديث طريفة في السيّارة وضحكنا كثيرًا. كان السائق قد أخَذَ على عاتقه الترفيه عن التي تعاني مِن رجل متسلّط وعنيف. وهكذا بدأنا ننتظر قدوم "عمّي جاسر" لأنّه كان لطيفاً ومحبّاً. وبالرّغم مِن أنّني لم أكن سوى في السابعة مِن عمري، لاحظتُ إعجابًا متبادلاً بينه وبين أمّي، ولكنّني وجَدتُ الأمر طبيعيًّا لا بل إيجابيًّا فقد كان تلك أولى المرّات التي أرى والدتي سعيدة. وكنّا نعتبر جاسر أبًا حقيقيًّا لنا لكثرة لطفه واهتمامه بنا وبراحتنا، على عكس والدي الذي لم يُشعرنا يومًا بالعطف والأمان.

 

وكلّما غاب أبي، كنّا نغتنم الفرصة للقاء جاسر حتى ننعم بلحظات سعادة حُرِمنا منها. ولن أنسى ذلك النهار حين أخَذَنا جميعنا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع عند شقيقته التي استقبلَتنا بذراعين مفتوحين. كان قد أخبرَها عنّا وعن نيّته الزواج مِن أمّي. وكان مستعدًّا لرعايتنا واعتبارنا عائلته. ولكنّ والدتي لم تقبل. بالنسبة إليها كان موضوع الطلاق أمرًا صعبًا خاصة مِن رجل بقساوة أبي. كانت تخاف أن ينتقم منها ومنّا. ولأنّ جاسر كان لا يزال عازبًا، لم تشأ والدتي أن يقضي حياته بانتظارها. لِذا وضَعَت حدًّا لأحلامه بعد سنوات على أوّل لقاء.

 

وعُدنا الى حياتنا المملّة، ورغم ادّعاء أمّي أنّها تخطّت أمر جاسر كان مِن الواضح أنّها لم تفعل. عادَ الحزن إلى عينَيها وفقدَت قدرتها على تحمّل تجاوزات أبي.

 

وبعد فترة تغيّر شيئًا في حياة أبي لم نعرف حتى اليوم ماهيته. فبين ليلة وضحاها أصبَحَ أهدأ ولم يعد يغيب كالأوّل. قد يظنّ المرء أنّه تاب وأدرك أخطاءه ولكنّه لم يفعل. ولأنّ أخي كان قد كبر وصار يمنعه مِن رفع يده على أمّي خفَّت الضربات والإهانات.


ولكنّ المسكينة لم تنعم طويلاً بهذا الإنقلاب المفاجئ لأنّها اصيبَت بمرض خبيث، وأنا متأكّدة مِن أنّ السنوات التي قضَتها بالحزن والإهانة كانت السبب في حالتها المرضيّة. ولبرهة رأينا الحزن في عينيّ والدنا، وخلنا أنّه سيغتنم الفرصة للتعويض عمّا فعلَه ولكنّها كانت مجردّ لحظة عاد مِن بعدها إلى جفائه المعهود.

 

والجدير بالذكر أنّ والدي لم يُرافقها يومًا إلى المشفى لتلقى جلسات علاجها المؤلم، ولم يسألها عن حالتها وآلامها. وعندما أنظر إلى ذلك الرجل الجالس بصمت، أسأل نفسي كيف لإنسان أن يكون مجرّدًا مِن الإحساس هكذا؟ ولم أفهم يومًا لماذا أراد الزواج وتأسيس عائلة إن لم يكن يملك لا النيّة أو القدرة على الحبّ.

 

هل سامحتُه على الحياة التي عشناها معه؟ سؤال صعب. جزء منّي يشفق عليه لأنّه انسان تعيس هدَرَ عمره وماله سدىً، والجزء الثاني يكرهه على الإساءات التي عانَينا منها خاصة أمّي. في الوقت الحاضر، أراقبه وهو يُلاعب أولادي، الشيء الذي لم يفعله معي أو مع أخوَتي. هل أنّه يُعوّض ما فاتَه؟ هل يشعر بالذنب؟ لم أفهم يومًا ذلك الرجل ولا أظنّ أنّ أحداً إستطاع فهمه.

 

لم أعرف معنى الأبوّة إلا مِن خلال "عمّي جاسر"، ولكنّها كانت لحظات غير كافية لبناء توازن نفسيّ سليم لأيّ منّا. والتقَيتُ به في أحد الأيّام. كان ذلك الرجل الطيّب واقفًا جنب سيّارته أمام مدخل جامعتي. ركَضتُ إليه وتعانقنا مطوّلاً. وخلال تلك الدقيقة المليئة بالحنان، استرجعتُ شعوراً غاب عنّي لسنين. سألتُه عن أحواله ولكنّه بقيَ مبهمًا، ربما كي لا يُشعرني بالحزن الذي تركه غيابنا عنه. إعترفَ لي أنّه بحث عنّي وسأل ليجدني، كان بودّه الاطمئنان علينا وعلى أمّي. لم أخبره عن مرضها لتبقي بذهنه صورة المرأة المتعافية والنشيطة. ومِن ثمّ رحل وعلِمتُ أنّه لن يعود.

 

لا تزال والدتي تتعالج وأنا على يقين من أنّها ستتعافى. عليها أن تتعافى مِن أجلنا ومِن أجل أحفادها الذين يدعون لها بالصحّة والعمر الطويل في كلّ لحظة.

 

طلبتُ أن تكتب هذه القصّة لتقرأها والدتي وتعلم أنّ ما جرى لها لم يعد سرًّا تحمله في قلبها وعلى كتفَيها. وكم مِن امرأة عانَت بِصمت مِن إساءَة زوجها خوفًا مِن مجتمع يُفضّل أن تُضرَب النساء وتهان وتُقهَر على أن يُفضحَ أمر الرجال وخطأ الأهل؟ فكم مِن عائلة أمَرَت إبنتها بالسكوت تجنّبًا لشماتة الناس بها؟ متى ستفهمون يا ناس أنّ الإنسان أغلى مِن أن يُدفَن حيًّا باسم التقاليد والإعتبارات السائدة؟ وماذا عن الأطفال الذين يربون على العنف أو التجاهل؟ كيف سيتمكّنون مِن بناء حياتهم وعلى أيّ مثال سيؤسّسون عائلة بِدورهم؟

 

أنا متأكّدة مِن أنّ أبي أصبح على ما هو عليه بسبب خلل في عائلته، ولو تربّى في جوّ مِن التفاهم والحبّ لكان استطاع أن يُحبّ بدوره.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button