كم كنت فخورة بأهلي!

أعمالنا لا تذهب سدىً، فهناك عدالة إلهيّة تسهر علينا ليأخذ كلّ إنسان نصيبه. فلولا سمعة أبي ونقاوة قلب أمّي، لما ركَضَ الناس لمساعدتنا وانتشالنا مِن حياة كانت ستكون بائسة بعد موت مُعيلنا الوحيد.

ذكرياتي عن أبي قليلة ومُبهمة، فقد كنتُ لا أزال في الخامسة مِن عمري عندما دخَلَ علينا أحد أقاربنا وقال لنا إنّ أبي مات. مَن أطلقَ أوّل صرخة؟ بالتأكّيد أمّي، ومِن ثم تتالَت صّرخات أخواتي إلى أن ضممتُ صوتي إليهنّ مِن دون أن أستوعب فعلاً ما حصل.

 

وخفنا على الجنين الذي كانت تحمله أمّي في أحشائها، ولكنّ أختي السّابعة وُلدت ميتة. وربّما كان ذلك أفضل لها لكثرة عذابنا المعنويّ والفعليّ الذي واجهناه لاحقًا. فكيف لنا أن نستمّر بدون مدخول؟ فالمسكينة والدتي لم تكن قادرة على العمل لقلّة تحصيلها العلميّ، ولم يترك لنا والدي سوى قطعة أرض صغيرة. وأفكّر أحيانًا بأختي الميّتة، وأسأل نفسي إن كانت في مكان جميل مع أبي وأحسدها لأنّها بين الملائكة وبين ذراعَين لم أشبع مِن دفئهما. ولكن في ذلك الوقت كان همّنا الوحيد مستقبلنا غير الواضح. ورغم سنّي الصغير سمعتُ أمّي تسأل الله عاليًا عن مصيرنا.

 

وعندما رأيتُ عدد السيّارات في جنازة أبي، أدركتُ أنّه كان محبوبًا مِن الناس وأنّ لا بدّ لأحدهم أن يلتفت إلينا. وهذا ما حصل، فبدأ المحسنون يدقّون بابنا أو يبعثون إلينا بالمال أو المواشي لتربيتها والإستفادة منها أيّام الأعياد كي لا نشعر أنّنا متروكين.

 

لقينا مساندة مِن غالبيّة أهالي البلدة ومِن أهل أمّي الذين سهروا علينا. أمّا مِن جانب أبي فبقيَت عائلته صامتة وغائبة وكأنّنا مع رحيل إبنهم إختفَينا مِن الوجود. كنتُ أوّد أن أرتمي بحضن جدّتي أمّ أبي ولكنّها لم تمكث معنا مطوّلاً. هي لم تتفق مع أمّي وفضّلَت الرحيل.

 

ودخلنا المدارس، وحثّتنا أمّي على الإجتهاد كي يكون لنا مستقبل بعيد عن العوز، وكانت تقسو علينا إن عدنا بعلامات متدنيّة صارخة فينا: "ألا ترَين ما يحصل عندما يبقى الإنسان مِن دون علم؟ أنظرنَ إليّ! هيّا إلى الدراسة!"

كم أنّكِ عظيمة يا أمّي... ربّيتِنا على محبّة الناس وعلى الأمل... نسيتِ نفسكِ مِن أجلنا، نحن بناتكِ الستّ... لم نسمعكِ يومًا تتذمّرين مِن تعبكِ أو تمنّنينا على الذي تفعلينَه لأجلنا... كنتِ تبكين على حبيبكِ بصمت، وتمسحين دموعكِ بسرعة كي لا يتملّك الحزن قلوبنا الصغيرة...


وكبرَت أخواتي، واستطَعنَ المساعدة قليلاً إلا أنّ الأيّام بقيَت صعبة. فقد كنّا كثر في ذلك البيت وعشنا بالقلّة ولكن بكرامة.

 

تمنّيتُ كثيرًا أن أتذكّر ولو القليل عن أبي، ولكنّني كنتُ جِدّ صغيرة عندما رحل لذا كنتُ أسأل الأكبر منّي عنه. ولكن هنّ أيضًا كنّ قد بدأنَ بِفقدان الذكريات بعد أن جاءَت الأيّام وغطَّتها بغبار النسيان. عندها كنّا نلتف حول أمّي ونطلب منها أن تروي لنا تلك القصّة التي سمعناها مرارًا والتي كانت رابطنا الوحيد مع الذي خلّف وراءه سمعة طيّبة بقيَت لسنين طويلة. وكانت أمّي تأخذ نفسًا طويلاً وتقول:

ـ قبل موت أبيكم بقليل قلتُ له: أشعر وكأنّ شيئًا بشعًا سيحصل.

ـ ماذا تعنين؟

ـ أنا خائفة مِن الولادة... بقي لي القليل ولكنّ قلبي غير مطمئن... أشعر أنّ مصيبة ستحلّ... قد أموت...

ـ لا تقولي ذلك! لن أقبل أن تموتي... أنتِ حبيبتي وعمري... إن كان لا بدّ أن يموت أحد فأفضّل أن أسبقكِ إلى دنيا الحق.

ـ وأنا أيضًا لن أقبل أن تموتَ قبلي... إن حصل ذلك فكيف سأتدبّر أمر عائلتنا الكبيرة؟

ـ أنتِ قويّة وحنونة... أنا على يقين مِن أنّكِ ستجدين طريقة ما... ولكن إن متِّ أنتِ فقد يأتي يوم وأتزوّج... الرّجل على

خلاف المرأة لا يعرف كيف يُدير بيته وأولاده... وستأتي امرأة قد تسيء معاملة حبيبات قلبي... وإلى جانب حزني وحيرتي سيتكلّم عنّي الناس ويقولون "أنظروا كيف سمَحَ أن تهان بناته!" ولن أتحمّل ذلك... لقد بذلتُ جهدي طوال حياتي لملء قلب أهلي وعائلتي بالفخر... لن أقبل أن أخذل أحدًا... ولكن دعينا مِن هذا الكلام الآن... لن يحصل شيء... سترَين... ستولَد إبنتنا السّابعة وستكون جميلة كأخواتها، وسنرعاها ونحبّها ونعيش جميعًا سويًّا لوقت طويل".

ـ وتوفّيَ أبوكنّ المسكين بعد أسبوعَين، ولكن ما تركه لي يا بناتي، أكبر وأثمن مِن مئة ثروة."


وكانت على حق. فمِن فقرنا تعلّمنا معنى العطاء، مِن أبينا تعلّمنا النزاهة والصّدق ومِن أمّنا تعلّمنا التضحيّة والقوّة. وكم تلك الدروس ثمينة... لقد كبرنا وفي قلبنا قطعة ذهب تلمع حتى في الليالي الأكثر ظلامًا لتنير طريقنا وتعطي لحياتنا طعم الإكتفاء. فإطعام الرّوح أهم بكثير مِن إطعام الجسد. الأكل ممكن إيجاده بأيّة طريقة، أمّا القوّة والعزّة والمحبّة فهي كنوز يُفتّش عنها البعض طوال حياتهم مِن دون جدوى.

 

لأمّي وأبي وأخواتي ولكلّ مَن وقَفَ إلى جانبنا، أقول: "شكرًا لكم... أنتم مَن صنَعتم المرأة التي تكلّمكم الآن والتي بدورها تعمل لصنع جيل صالح على مثالكم."

 

أنجبتُ إبنًا جميلاً وأعطيتُه إسم أبي. وهذه طريقتي الوحيدة لتكريمه وإعطائه حياة فقدها مبكرًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button