كم عانيتُ من جنون أمّي!

عندما كنتُ صغيرة، لم أكن أعلم أن أمّي مضطربة نفسيّاً ولا أظنّ أن أحد بمن فيهم هي، كان يشكّ أن هذه المرأة كانت تتجه ببطئ نحو الجنون. أنجبَتني وندِمَت، فلم تعاود المحاولة مع أنّ أبي كان يريد عائلة كبيرة. ولكنّه شكرها ضمنيّاً بعد بضعة سنوات، عندما بدأت المشاكل بينهما وقرّر الرحيل. فكان من الأسهل له ترك بنتاً واحدة وراءه. وعندما سألتُ أمّي عن مكان تواجد والدي، أجابتني بغضب: "رحلَ بسببكِ... كل شيء حصل بسببكِ... يا ليتني لم أنجبكِ!"

فتصوّروا مدى شعوري بالذنب بعدما سمعتُ هذه الجملة وحملتُ معي هذه الخطيئة التي لم أقترفها لسنين طويلة. ومنذ ذلك اليوم، أصبحَت أمّي عدوّتي وعمِلَت جهدها لتُدفّعني ثمن رحيل زوجها. وأوّل خطوة لها، كانت أنّها منعتني من الخروج من البيت ولم أعد أرى أصدقائي سوى في المدرسة. وخلال مكوثي في البيت، كانت تجبرني على القيام بكامل الأعمال المنزليّة قبل ان أنهي واجباتي المدرسيّة، لذا لم أكن أخلدُ إلى النوم قبل منتصف الليل. ومن جرّاء هذا ولكثرة تعبي، بدأَت علاماتي تتراجع وفي تلك السنة رسبتُ صفّي. أمّا هي فكانت تجلس طوال النهار تشاهد التلفاز أو تنام أو تشرب الكحول. لم نكن نأكل جيّداً لقلّة المال. صحيح أنّ أبي كان يرسل لنا مبلغاً شهريّاً ولكنّه لم يكن كافياً وكان يذهب معظمه على شراء الويسكي والنبيذ لوالدتي. والذي سرّع غوص أمّي في الجنون، كان غياب الأهل والأصدقاء. لو كان أبويها على قيد الحياة أو أخاها كان يعيش في البلد وليس في المهجر، أنا متأكدّة أنّ الأمور لم تكن لتبلغ هذا الحد. لم يكن عندها سواي ولم أكن ناضجة كفاية لإستدراك الأمور.

لا أدري إن كان السبب هو حاجتها للمال أو نقصها للعاطفة ولكنّها سرعان ما بدأت تواعد رجالاً وتأتي بهم إلى المنزل. وكانت هذه اللحظات هي الأصعب عليّ. كنتُ أركض أختبئ في آخر زاوية في المنزل أو أهرب عند جارتنا، التي كانت تنظر إليّ بأسف وتقدّم لي الشوكولا الساخنة والكعك. وبعد أن يرحل "أصدقائها" كانت والدتي تذهب إلى الحمام تغسل نفسها لوقت طويل وتتمتم شتائم تجاه الرجال وصنفهم الوسخ. بقيَ الوضع هكذا، حتى أن أصبحتُ في سنّ يمَكّنني من العمل على الأقل في فترة العطلة الصيفيّة. لم تمانع والدتي بسبب المال الذي كنتُ سأجنيه. وجدتُ عملاً في مخيّم صيفي وهناك رجعَت لي الحياة والبسمة. تعرّفتُ إلى أناس كثر وشعرتُ أنني أستطيع إسعاد هؤلاء الأطفال الصغار، فكنتُ أعتقد أنني لا أجلب سوى الأذى والحزن لمن هم حولي. وكانت فرحتي كبيرة، لأنني لم أعد أرجع إلى البيت إلا لأنام ولا أرى وجه أمّي سوى لساعة أو إثنين. كانت تأخذ مني كل معاشي الصغير ولا تترك لي شيء ولكن لم يكن يهمّني ذلك، فالحريّة التي بدأتُ أتذوقّها لم يكن لها ثمن. والغريب في الأمر، أنني ورغم محاولاتي العديدة، لم أكن أحبّ تلك المرأة ولا أشعر تجاهها بشيء حتى الكره. كانت موجودة في حياتي وأعيش معها لأنني كنتُ مجبرة على ذلك. فعندما وجدتُها في ذات يوم مُغمى عليها على أرض الحمام، وقفتُ أنظر إليها بشيء من الشفقة ومرَّت دقائق طويلة قبل أن طلبتُ الإسعاف. لا أنكر أنني تمنيتُ أن تبقى أطول مدّة ممكنة في المستشفى ولكنّها عادت بعد يوم واحد، فلم أستمتع بالهدوء الذي ساد في البيت أثناء غيابها. ولكن بعد عودتها بقليل ساءت حالتها بسرعة، فبدأت ترى أشياء وأناساً غير موجودة وتقضي وقتها مختبئة في غرفتها خوفاً من تلك المخلوقات التي تنوي إيذائها. وعلمتُ حينها أنني لم اعد أستطيع التعامل معها وقررتُ أن أتّصل بالذي تركني أعيش هذا الجحيم لوحدي. في البدء حاول أبي التهرّب من المسؤولية، خاصة أنّه كان قد تزوّج وأنجبَ أولاداً ولكنني وجدتُ القوّة لأصرخ به:

- ألا تخجل من نفسك؟ تركتنا ورحلتَ وألقيت العبء كلّه على فتاة صغيرة! حان الوقت لتقوم بواجباتكَ تجاهي! تعال وأخرجني من هذا الجحيم!

وجاء ورأى بأيّة حالة كانت أمّي، فقرر إدخالها إلى مصحّ عقليّ، حيث يعلمون كيف يتعاملوا معها. عرضَ والدي عليّ بخجل أن أذهب وأعيش معه ومع عائلته الجديدة ولكنني رفضتُ. لم أكن أريد أن أصبح ضحيّة من جديد وفضّلتُ العيش في البيت لوحدي. كل ما طلبتُ منه كان بعض المال لأتعلّم وأعيش. قَبِلَ بسرعة، مسروراُ أنني لم أذهب وأخرّب هناء حياته. لم أنزعج من العيش لوحدي وكلّما إحتجتُ لشيء، كانت جارتي تساعدني وتسهر عليّ وكأنّها هي أمّي. لم أذهب كثيراً لزيارة والدتي في المصح، فبالنسبة لي كانت تمثّل ذكريات أليمة كنتُ أودّ أن أنساها.

وبعد خمس سنوات وبعد أن فقدَت عقلها بالكامل، إتّصلوا بي من المصحّ، ليخبروني أنّها ماتت. هل بكيتُ؟ لا. حزنتُ على إنسانة ضعيفة ومضطربة، دمّرَت حياتها وحياة من حولها وأسفتُ على نفسي لأنني ولدتُ منها وليس من إمرأة غيرها. ووعدتُ نفسي أن أصبح يوماً أمّاً جيّدة وزوجة محبّة. وحافظتُ على وعدي، فاليوم لديّ ولدين رائعين، أحبّهما من كل قلبي وأفعل المستحيل لإسعادهما وإسعاد أبيهم، الذي إخترته ليكون شريك حياتي حتى آخر يوم.

حاورتها بولا جهشان 

المزيد
back to top button