بعدما فقدَت أمّي عملها بسبب مرض أصاب نظرها وتركها شبه عمياء، لم يعد راتب أبي الضئيل يكفينا. فأوقفتُ دراستي لأنّ أخي الصغير لم يكن فالحًا إلاّ باللهو، وأصبح مِن واجبي إدخال المال إلى البيت. وبالرّغم مِن فقرنا، كان الله قد أنعمَ عليّ جمالاً فائقاً وذوقاً رفيعاً، مما سهّل عليّ إيجاد عمل جيّد. وقبِلً بي على الفور صاحب محلّ مخصّص بِبيع المجوهرات الفخمة. وبفضل ذكائي، إستطَعتُ تعلّم كلّ ما يلزم لتلبية زبائن رفيعي المستوى. إلى جانب ذلك، تعلّمتُ بعض المصطلحات الأجنبيّة التي أوحَت بأنّني أكملتُ دراستي الجامعيّة.
مضى على وجودي في المحل حوالي الستّة أشهر، حين دخَل ذات يوم أحد زبائننا، وتوجّه إليّ طالبًا منّي أن أساعده على اختيار سوار مِن الماس:
ـ إنّها هديّة لفتاة جميلة ومتحفّظة... أريد أن يلمع السوار بقدر لمعان عَينَيها عندما ينظران إليّ."
ضحكتُ لهذا التشبية، وأرَيته مجموعة جميلة. سألني الرّجل:
ـ أيّها تختارين لو كنتِ تلك الفتاة؟
ـ هذا... فَشغله رقيق والحجر يلمع بدون أن يؤذي العين."
وأشترى الزبون السّوار وخرَجَ ممنونًا. ولكنّه عاد إلى المحل بعد دقيقَتين وعلى وجهه بسمة مُحرَجة. عندها سألتُه إن كان هناك مشكلة، أجاب:
ـ ستعلمين بالأمر عاجلاً أم آجلاً... آنستي هل تقبلين منّي هذه الهديّة الصغيرة؟".
واحمرّ وجهي ورفضتُ الهديّة بتهذيب. عندها استدار نحو مالك المحل وقال له:
ـ موظّفتكَ أحرجَتني كثيرًا وقد لا أعود إلى هنا... ماذا ستفعل بهذا الشأن؟"
ونظر إليّ المالك بِغضب:
ـ آنسة رولا! ليس مِن مصلحة أحد أن نخسر زبونًا كالسيّد كمال!"
وفهمتُ الرسالة، ولم أكن مستعدّة أبدًا أن أخسر عملي الذي كان يُؤمِّن لي ولِعائلتي حياة أفضل.
فقبلتُ الهديّة على مَضَض واعدةً نفسي أن أجد طريقة أردّ له ولو قليلاً مِن الذي قدّمه لي بدون أن يُؤثّر ذلك على علاقة ذلك الزبون بالمحل.
ولم أخبر أهلي عن السوار، بل خبأتُه في مكان آمِن أنظر إليه بإعجاب كلّما سنحَت لي الفرصة. فلم أحلم يومًا أن أمتلك قطعة بهذا الجمال.
وعاد كمال مرارًا إلى المحل لّيلقي التحيّة عليّ وليراني، حتى أنّه تجرّأ لدعوَتي إلى العشاء. وقبلتُ فورًا لأنّني كنتُ فعلاً معجبة به وبلياقته.
وأخَذَني كمال إلى مطعم لم أرَ مثله سوى في الأفلام. وكي لا أحرج نفسي، أخذتُ أراقب رفيقي وهو يأكل لأتعلّم منه استعمال الشوَك والسكاكين العديدة الموضوعة جانبَي الطبق.
وبعدما خرجنا سويًّا أشهر عدّة، طلبَ كمال منّي أن أتزوّجه. وكيف لي أن أرفض؟ كانت الحياة قد أهدَتني رجلاً وسيمًا ومهذّبًا ومحبًّا وثريًّا، أي الرجل المثاليّ. وفوق ذلك كان قد سدّدَ ديون أبي وفتحَ كراجًا لأخي!
وتزوّجنا. وكان فرحنا خياليًّا لشدّة جماله وشياكته وكأنوا مدعوّونا مِن خيرة المجتمع. شعرتُ وكأنّني في حلم جميل.
وفي الليلة نفسها، سافرنا إلى إحدى الجزر الجميلة لقضاء شهر عسلنا. وكنتُ جدّ مهمومة بما يخصّ ليلة الزفاف، لأنّني لم أكن أعلم الكثير عن الأمور الجنسيّة. والشيء المُطَمئن هو أنّ كمال كان رجلاً ناضجًا يعلم حتمًا كيف يتعامل مع فتاة مثلي. ولكن كلّ مخاوفي تبخّرَت عندما نِمنا بدون أن يحدث شيئٌ بيننا. فتمدّد كمال إلى جانبي في السرير وطبع قبلة على جبيني ونام. حسبتُ أنّه كان تعبًا مِن الزفاف والسفر أو أنّه لم يكن يُريد إخافَتي. ونمتُ بِدوري وغصتُ بنوم مليء بالتساؤلات.
وعندما استيقظت في الصباح، لم أجد زوجي إلى جانبي بل كان جالسًا على الشرفة ينظر إلى البحر. كان قد طلبَ الفطور وينتظرني ليتناوله معي. أكلنا ثمّ مشينا في الجزيرة وقصدنا الشاطئ حيث سبحنا. وفي المساء، تناولنا العشاء في مطعم جميل ومِن ثمّ عدنا إلى الغرفة.
وتكرّر سيناريو الليلة السابقة: لم يلمسني كمال بل أكتفى بتقبيلي على جبيني قبل أن يُدير لي ظهره لينام. وسكنَني الهم. لماذا لم يكن يرغب بي زوجي؟ هل فعلتُ أو قلتُ شيئًا أغضبَه أو جعَلَه ينفر منّي؟ كنتُ أكيدة مِن حبّه لي ولم أجد أجوبة لأسئلتي العديدة. لذا قرّرتُ أن أسأله في الصباح عن سبب تصرّفه الغريب. فأجابَني:
ـ حبيبتي... كم أنتِ رائعة... بالطبع أريدكِ ولكن هناك جزءً منّي لا يتجاوب مع رغبتي بكِ.
ـ ماذا تقصد؟ لم أفهم.
ـ سأقولها كما هي: أنا عاجز".
كان قد قال تلك الكلمات بهدوء وكأنّه شيئ طبيعيّ، وذهِلتُ لسماع الخبر. وقبّلني على جبيني وقال لي:
ـ لنذهب إلى الشاطئ!".
وقضيتُ باقي النهار في حالة ذهول تامة أحاول استيعاب الأمر. وقضينا باقي شهر عسلنا وكأنّنا إخوة قبل أن نعود إلى البلد.
ولم يكن باستطاعتي إخبار أحد عمّا يجري أو بالأحرى عمّا لا يجري، بسبب دقّة الموضوع، ولأنّني قرّرتُ إعطاء زوجي بعض الوقت آملة أن يتغيّر الوضع.
ولكنّ الأشهر مرَّت وبدأتُ أفقد الأمل. وكانت حياتنا الجميلة خدعة كبيرة. فوسط كلّ ذلك الرخاء، وبالرّغم مِن سفراتنا العديدة والمناسبات الجميلة التي حضرناها، لم أذق طعم السعادة. وكيف أفعل والرّجل الذي برفقتي لم يكن يشعر تجاهي بأي رغبة؟
وبدأَ الناس يتساءلون عن سبب تأخّري في الحمل. وأشاعَ كمال خبر عقمي ليُبعد عنه الشبهات، الأمر الذي أثار غضبي الشديد، فمِن ضحيّة أصبحتُ أنا المسبّبة لبقاء ذلك الرجل العظيم مِن دون وريث. ولاحظتُ النظرات والهمسات بشأني، ولم أعد أحتمل الوضع لذا قرّرتُ أن أتحدّث جدّيًا مع زوجي. فقال لي:
ـ ومّما تشتكين؟ لدَيكِ كلّ ما تتمنّاه أيّ امرأة! لم يكن لدَيكِ شيئ في بيتكِ الحقير. مَن كان ليُعطيكِ كلّ هذا؟ أبوكِ الذي كان بالكاد يجلب لكم الطعام، أمّ أمّكِ التي لا ترى شيئًا أو أخوكِ الفاشل؟ لقد جعلتُ منكِ سيّدة مجتمع... فعلتُ منكِ إنسانة!
ـ كيف تكلّمني بهذه الطريقة؟ ألا تحبّني؟
ـ أحبّكِ؟ كان يلزمني فتاة أتزوّجها للحفاظ على صورتي... لم تقبل الأخروات بي فقرّرتُ التفتيش عن أحد مثلكِ.
ـ أحد مثلي؟
ـ أجل... فتاة جميلة ولكن فقيرة لِتقبل بي مهما كانت الظروف... كان الناس قد بدأَوا يتساءلون عن سبب بقائي عازبًا، وهذا ليس جيّدًا لأعمالي... أوَتريدينهم أن يظنّوا أنّني مثليّ؟
ـ لقد اشترَيتني!
ـ لأنّكِ كنتِ للبيع!
ـ أبدًا! في البدء أعترف أنّني أُعجِبتُ كأيّ فتاة أخرى بِهداياك ولياقتكَ، ولكنّني أحببتُك فعلاً وكنتُ سأحبّكَ أيضًا لو كنتَ فقيرًا. تزوّجتُك لأنّك كنتَ تهتم بي، وهذا طلب كلّ إنسان. ولكن كلّ ما يلمع ليس ذهبًا... كان عليكَ إخباري بعجزكَ فلا يحق لك حرماني مِن الأولاد... كان عليكَ أن تتحلّى بالشجاعة الكافية لإعطائي الخيار... هذا الزواج ليس سوى أضحوكة... أفضّل الرحيل.
ـ لِتعودي إلى فقركِ؟ لقد ذقتِ الدّلال والعزّ والأشياء الجميلة والأماكن الفخمة... ستعودين إليّ ركضًا... سترَين!"
وخرجتُ مِن البيت بدون أن أنظر ورائي، فأنا لم أكن للبيع. وحصلتُ على الطلاق بسهولة فائقة بسبب عجز كمال، ولكنّ محاميه عمل جهده كي لا أحصل على شيء. ولم آبه بذلك، فبالرّغم مِن عودتي إلى الفقر، كنتُ محاطة بأناس محبّين وطيبّين. عدتُ إلى حريّة الإختيار وحريّة كسب عيشي بعرق جبيني، بدون أن أضطر لشكر أحد على كلّ لقمة آكلها.
حاورتها بولا جهشان