بعد أن شخّص لي الطبيب إلتهاباً رئويّاً، نصحَني بالدخول إلى المستشفى للمعالجة ورغم خوفي الشديد من تلك الأماكن، رضختُ للأمر الواقع. أنجزتُ المعاملات اللازمة مع الضمان الإجتماعي وأدخلوني كما ينصّ القانون في الدرجة الثانية أي أنني كنتُ سأتقاسم غرفتي مع مريضة أخرى. حاولتُ الإنتقال إلى الدرجة الأولى ولكنّ الفرق في السعر كان شاسعاً، ففضّلتُ البقاء حيث أنا. عندما دخلتُ الغرفة وجدتُ إمرأة شابة نائمة في السرير ورأسها ملفوف بالشاش وبالكاد ردّت عليّ التحيّة. وضعتُ أمتعتي في القسم المخصّص لي وإنتظرتُ قدوم الطبيب لنبدأ المعالجة. وبعد ساعة تقريباً، بدأَت تفيق جارتي ونظرَت إليّ بدهشة وسألَتني من أكون. عرّفتُها عن نفسي وقلتُ لها لأيّ سبب أنا في المستشفى وسألتُها بدوري عن نفسها. قالَت لي:
- إسمي هناء... قصّتي طويلة... سأخبركِ عنها لاحقاً... أنا تعبة الآن وأريد أن أنام...
تركتُها ترتاح وفتحتُ كتاباً وبدأتُ بالقراءة. في هذه الأثناء دخلَت إمرأة في الخمسين من عمرها نظرَت إليّ ثم توجّهَت إلى خزانة هناء وبدأَت تفتّش في أمتعتها ثم رحلَت دون أن تتفوّه بكلمة واحدة أو حتى تلقي ولو نظرة إلى المريضة. وعندما إستفاقت هناء قلتُ لها أنّ أمّها جاءَت ثم رحلَت.
- أمّي؟ هنا؟ أمّي ماتَت منذ سنين طويلة... كيف كان شكل تلك المرأة؟"
وصفتُها لها فأجابَت:
- لا بدّ أنّها حماتي... تقولين أنّها فتّشت أمتعتي؟ هل أخذَت شيئاً؟
- لا أدري... لا أستطيع رؤية كل شيء من سريري.
ثم سكتَت المريضة وأغمضَت عينيها ورأيتُ دموعاً تكرج على خدّيها. دخلَت ممرّضة وأخذَت ضغطي وحرارتي ونظرَت إلى هناء وقالت "المسكينة" ثم خرجَت من الغرفة. عندها شعرتُ بالحاجة إلى معرفة المزيد عن الموضوع. وسألتُ هناء:
- ألن يأتي أحد لزيارتكِ؟
- لا... لا أظنّ ذلك...
- زوجكِ ربما؟
- لن يأتي... أنا متأكّدة أنّه لن يأتي لأنه...
وقبلَ أن تنهي جملتها، دخلَ شاب وسيم وركضَ إلى سريرها ومسكَ يدها وقبّلها والدموع في عينيه:
- جئتُ بسرعة... كيف حالكِ... ماذا قال الأطباء... ماذا حصلَ لكِ؟؟؟
- أنا بخير... الآن أنت بقربي فكل شيء سيكون على ما يرام.
إستنتجتُ أن ذلك الرجل زوجها وأنّها لم تتوقّع قدومه وفرحتُ كثيراً لها لأنّها لن تكون وحيدة بعد الآن. وتابعتُ القراءة والبسمة على وجهي. ولكن فرحتي لم تدم، فبعد دقائق دخلَ رجلان ووقفا أمام سرير هناء وقالوا أنّهما من الشرطة. وبعد أن رآني سحبوا الستار الذي يفصلنا وطلبوا من الشاب الخروج. وتابعا الحديث بصوت منخفض ولكنني إستطعتُ سماع كل ما قالوه:
- لدينا بعض الأسئلة... نعلم أنّكِ ما زلتِ ضعيفة ولكن التحقيق يجب أن يأخذ مجراه... هل لكِ أن تخبرينا بما حدث؟
- أجل... ولكنّني لا أعرف الكثير فأنا لم أستفق إلا من ساعتين...
- أخبرينا ما تتذكّرينه. لِمَ لا تبدأي من البداية؟
- حسناً... عندما تعرّفتُ إلى زوجي خليل، قال لي أنّه يعيش مع أمّه وأنّه متعلّق بها جدّاً خاصة بعد وفاة والده عندما كان ما زال صغيراً وأكّد لي أنّه إذا قرّر أن يتزوّج يوماً، سيعيش مع زوجته في بيت والدته لكي لا تبقى وحيدة. وأحببتُه وقبلتُ معه أن أسكن مع حماتي. في البدء كل شيء كان جيّداً، فعاملَتني معاملة حسنة وأكّدت لي أنني البنت التي لم تحظَ بها وأنا إعتبرتُها أمّي الثانية، فلقد فقدتُ والدتي منذ سنين طويلة. كان خليل فرحاً جدّاً لأنّ أهمّ إمرأتين في حياته تعيشان في إنسجام تام. ولكن بعد فترة، بدأتُ ألاحظ أنّ زوجي وأمّه لهما أسراراً عديدة، فكانا يجلسان مطوّلاً سويّاً ويتحدّثان بصوت خافت ويسكتان عندما أدخل المكان. أعلم أنّني كنتُ ما زلتُ غريبة بالنسبة لهما ولكنّني كنتُ زوجته وأحمل إسمه وعليه إطلاعي على بعض الأمور على الأقل. ولكن لم يدخّلاني في أمورهم وبدأتُ أستاء للوضع. وعندما تكلّمتُ مع خليل في الموضوع قال لي:
- ما بيني وبين أمّي شيء لن تفهمينه أبداً... وهذا ليس من شأنكِ... أرجوكِ أن تهتمّي بشؤونكِ الخاصة.
وجدتُ جوابه جافاً ولم أفهم هذه اللهجة العدائيّة ولكنّني سكتتُ وتحمّلتُ حيادهما عنّي. ولكنّ الأمر لم ينتهي هنا وللحقيقة وجدتُ صعوبة بتصديق عينيّ وحاولتُ حتى التشكيك بنفسي. لاحظتُ أنّ علاقتهما لم تكن تقليديّة. أعني بذلك أنني شعرتُ أنّهما أشبه بزوج وزوجة وليس بإبن وأمّه. فالنظرات واللمسات التي كانا يتبادلانها، كانت تذكّرني بأيّامي مع خليل قبل الزواج عندما كان يغازلني. هناك أشياء يشعر بها المرء دون أن يستطيع تحديدها وهذا ما حصل معي. وقبل أن ألقي تهمة كبيرة كهذه على زوجي، فضّلتُ السكوت ومراقبتهما حتى أتأكّد من شكوكي أو أعدل عنها. وأصبح هذا الموضوع شغلي الشاغل أحلّل كل حركة وكل كلمة من حولي وأصبحتُ فعلاً بِحيرة من أمري. وعندما بدأتُ أيأس من إيجاد جواباً على تساؤلاتي، حصل شيء مريع لم أتوقّعه حتى في أبشع تخيّلاتي. في ذات يوم عدتُ من زيارة صديقة لي أبكر من اللازم ورأيتُ زوجي وأمّه في السرير يمارسان الجنس. لن أستطيع أبداً وصف إندهاشي وغضبي وقرفي لما رأيتُه رغم شكوكي، فكنتُ دائماً أكّذبُ نفسي ولكن في تلك اللحظة تأكّدتُ أنني للأسف كنتُ على حق. خرجتُ من المنزل بسرعة وركضتُ إلى صديقتي أخبرها بالأمر. نصحَتني أن أترك خليل فوراً وهذا المنزل البغيض وألا أعود أبداً. ولَيتني سمعتُ منها. ولكن بسبب غضبي الشديد، رجعتُ إلى البيت. وجدتُ زوجي جالساً في الصالون وحماتي في المطبخ وكأنّ شيئاً لم يكن. طلبتُ أن أتحدّث معه على إنفراد فقال لي أنّه ليس لديه أسرار ويمكنني التكلّم علناً. عندها قلتُ له:
- ليس لديك أسراراً؟؟ والذي يحدث بينكَ وبين أمّكَ ليس سرّا؟ً أم أنّكَ تعتبره شيئاً طبيعيّاً؟ لم أرَ شذوذاً كهذا بحياتي!
- ما الذي رأيتِه؟
- دخلتُ عليكما الغرفة ورأيتكما سويّاً! ماذا سيقول عنكما الناس؟
- لن يصدّقكِ أحد... أنا متأكّد من ذلك.
عندها كذبتُ عليه وقلتُ له:
- سجّلتُ المشهد على هاتفي... ما رأيكَ بهكذا الدليل؟
وفي تلك اللحظة بالذات شعرتُ بألم شديد في رأسي وأغميَ عليّ. وبعد لحظات بدأتُ أستفيق ووجدتُ نفسي ملقاة على الأرض وحماتي تمسك مقلاة كبيرة في يدها وتقول لإبنها:
- هيّا... فتّش عن الهاتف... قالت أنّها سجّلتنا عليه...
وبينما أخذ بالتفتيش عن حقيبتي التي تركتُها بسيّارتي، إستطعتُ الخروج من الشقّة وطلَب النجدة من الجيران. وقبلَ قليل قالَت لي المريضة التي خلف الستار أن إمرأة جاءت عندما كنتُ نائمة وفتحَت الخزانة وبحثَت في أمتعتي. أنا متأكّدة أنّها حماتي تبحث عن الهاتف.
عندها قال المفتّش:
- ألقينا القبض على زوجكِ ولكنّنا لم نجد والدته. لن تذهب بعيداً وسنعثر عليها قريباً جداً. سنضع شرطي خارج غرفتكِ في حال عادت لإيذائكِ. لا تخافي سنقبض عليها وستُرمى في السجن هي وابنها. من المؤكّد أنّهما كانا سيقضيان عليكِ للحفاظ على سرّهما. لقد نجوتِ من الموت.
وفُتح الستار وذهبا ونظرتُ إلى هناء وإبتسمتُ لها. عندها سألتها:
- والشاب الذي في الخارج؟
أبتسمَت وقالَت:
- إنّه أوّل حب في حياتي وكان يجدر بي أن أتزوّجه بدل ذلك الشاذ الذي كان يودّ قتلي... عند وصولي إلى هنا طلبتُ من ممرّضة أن تتصل به. وهذه المرّة لن أدعه يرحل.
حاورتها بولا جهشان