كنّا قد حضّرنا كلّ ما يلزم للزفاف، وكان باقٍ أقلّ مِن أسبوع للموعد المذكور حين وقعتُ وكسرتُ رجلي. بكيتُ كثيرًا على تلك المصيبة التي ستؤدّي إلى تأجيل زواجي مِن رجل حياتي. فكّرتُ أن أتزوّج ورجلي بالجبص، إلا أنّ المشهد لن يكون جميلاً بتاتًا وحتى حركَتي كانت لتصير مُضحكة للحضور وفي الفيديو. لِذا اضطرِرنا للتأجيل والإعتذار مِن المدعوّين الذين تفهمّوا الوضع برحابة صدر.
للحقيقة، كَسر رجلي والأحداث التي تلَت كانت بالفعل أمور مُباركة شكرتُ ربّي عليها. فلطالما كنتُ أسمعُ الناس تقول: "لا تكره شيئًا لعلّه خير لك" لكنّني اعتبرتُ ذلك تعزية لِمَن أصابَه مكروه.
نشّفتُ دموعي وأخذتُ أنتظرُ بفارغ الصبر مرور شهر لأفكّ الجبص عن رجلي، وأُعاود السَير بطريقة طبيعيّة وسط دَعم عائلتي وخطيبي مراد الذي أبدى تفهّمًا كبيرًا لأنّه كان يُحبّني أكثر مِن أيّ شيء في العالم ولا يتحمّل فكرة إصابَتي بأيّ مكروه. كَم كنتُ محظوظة به! فبينما كانت صديقاتي تعانينَ مِن أزواجهنّ، كنتُ قد وجدتُ الرجل المثاليّ! اليوم أعرفُ تمام المعرفة أنّ ذلك الرجل هو سراب، فالإنسان لا يستطيع بلوغ الكمال مهما فعَل.
مرَّ الشهر أخيرًا وذهبتُ إلى الطبيب الذي قصّ الجبص عن رجلي، وأعطاني تمارين لتسريع شفائي ودعا لي بالتوفيق في زواجي. كنتُ أسعَد الفتيات وخرجتُ مِن العيادة وبسمة عريضة على وجهي. لهذا السبب لَم أرَ الدرّاجة الناريّة التي صدَمَتني وألقَتني أرضًا كاسرةً رجلي الثانية! صرَختُ صرخةً عالية وركضَ الناس وحمَلوني إلى الطبيب نفسه الذي هزَّ برأسه أسفًا عليّ. لِحسن حظّي لَم يكن الكسر بليغًا، أي أنّني لَم أكن لأحتاج عمليّة جراحيّة بل فقط... إلى الجبص! جاءَت أختي هناء لتقلّني إلى البيت وقالَت لي ونحن في طريقنا:
- يا أختي... أشعرُ وكأنّ النحس يُطاردُكِ... كيف لذلك أن يحصلَ لكِ؟ هل مِن الممكن أنّ أحدًا ألقى عليكِ سحرًا ما؟
- لا تكوني سخيفة! ليس هناك مِن سحر مِن أيّ نوع... إنّها صدَف وليس أكثر، فلو انتبهَتُ كما يجب لدى قطعي الطريق لمَا صدَمَتني الدرّاجة. سأكون بخير قريبًا، سترَين.
بقيتُ في البيت أبكي سرًّا ليلاً على هكذا حظّ سيئ. ولَم تكفِ تطمينات مراد لي، الأمر الذي أزعَله فوصَف ردّة فعلي بالولاديّة. أسِفتُ لأنّني تصرّفتُ كالطفلة وأسرعتُ بإرضائه.
لَم تكتفِ هناء بشرحي لِما حصَلَ لي، بل جلبَت إلى البيت سيّدة يُقال عنها إنّها قادرة على فكّ السحر عن أيّ إنسان. غضبتُ كثيرًا عند مجيئها فطردتُها على الفور. أنا إنسانة مؤمنة بالله وأعلَم بأنّ ما جرى هو إمّا صدفة بحت أو مُخطّط أعدَّه لي الخالق لسبب ما. وتلك الفترة الأخيرة بالذات حمَلَتني لأسأل نفسي إن كانت عدَم قدرتي على الزواج مِن مراد لمرّتَين مُتتاليتَين هي إنذار لي. لكنّني لَم أجد سببًا وجيهًا، فكما ذكرتُ سابقًا كان مراد إنسانًا رائعًا. بالرغم مِن ذلك، وربمّا بسبب الملَل الذي سكنَني وأنا مُلقاة في البيت، أخذتُ أحلّل أمورًا عديدة وأربطُها ببعضها. فكان خطيبي دائم الإنشغال، خاصّة مساءً بسبب طبيعة عمله أي في البورصة العالميّة، الأمر الذي كان يُجبره على المكوث أمام حاسوبه لمُتابعة الأسواق التي كانت تبقى مفتوحة ليلاً بسبب فارق الساعة. كان ذلك الشيء الوحيد الذي استطعتُ إيجاده وضحكتُ على نفسي لكثرة غبائي. فمراد كان يفعلُ جهده لتأمين حياةً هنيئة لي، خاصّة بعدما رفَضَ رفضًا قاطعًا أن تُساعدُنا عائلتي ماديًّا لأنّنا نملكُ الكثير، على خلافه.
الغريب في الأمر هو أنّني رأيتُ في تلك الليلة في حلمي مراد وهو جالس مع إمرأة لَم أرَ وجهها وكانا يضحكان سويًّا عليّ. إستيقظتُ فجأة لأجد دموعًا على خدَّيَّ. كانت مخاوفي الباطنيّة قد ظهرَت أثناء نومي وخجلتُ مِن نفسي، فكيف لي أن أشكّ هكذا ومِن دون سبب بالرجل الذي لطالما أحبَّني وقرَّرَ ربط حياته بحياتي؟
شعَرَت أختي بأنّني رأيتُ حلمًا مُزعجًا، فحثَّتني على التكلّم ورويتُ لها الحلم. لَم أعلَم حينها أنّها ستأخذ المسألة على محمل الجدّ. عُدتُ إلى النوم بعد أن طمأنَتني وأكّدَت لي أنّ الأحلام لا تمتُّ للواقع بأيّ صلة.
في اليوم التالي، أخذَت هناء على عاتقها التحقّق مِن صحّة حلمي مِن دون اطلاعي على ما يدور في رأسها، فبدأت بالتقصّي عن مراد. كان أهلي قد سألوا طبعًا عن خطيبي لكن ليس بطريقة مُعمّقة، ونالوا أجوبة مُطمئنة لِذا قبلوا به بالرغم مِن الفارق الإجتماعيّ بيننا. إلا أنّه بدا لهم شابًا طموحًا ومُجتهدًا وذا مستقبل واعد، وما هو أهمّ أنّني أحبُّه للغاية.
لكن تحرّيات هناء جاءَت بنتائج غير مُتوقّعة، فهي اكتشفَت أنّ مراد لا يعمل في البورصة بل في شركة صغيرة كمُحاسِب بسيط. لا شيء مُشين بذلك، عدا كذبه عن نوعيّة عمله الحقيقيّ. لكن ما الذي كان يفعله ليلاً حين يدّعي أنّه يُراقب الأسواق العالميّة؟ لَم تفصح لي أختي عمّا اكتشفَته، بل تابعَت إستقصاءاتها وذهبَت إلى أبعَد مِن ذلك: مُراقبة المبنى الذي يسكنُ فيه خطيبي.
في تلك الأثناء، لَم يشكّ فؤاد بشيء، لأنّني، بسبب عدَم معرفتي بكذبته، بقيتُ أتصرّف معه كالمُعتاد.
تحجّجَت هناء بأنّها تسجّلَت لدروس ليليّة في أحد المعاهد لتُبرّر غياباتها المسائيّة. فَمِن السهل إيحاء أمور بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة مِن دون أن تُثار شكوك أحد. كَم انّ الكذب سهل!
إنتظرَت هناء مقابل مبنى مراد لليالٍ مُتتاليّة، وهي لاحظَت أنّ امرأة تدخلُ ذلك المبنى كلّ ليلة في الوقت نفسه وتختفي في الردّهة. لَم ترَها تخرج أبدًا، فلَم تكن أختي قادرة على الإنتظار حتى ساعات مُتأخّرة، الأمر الذي حمَلَها على الإعتقاد بأنّ المرأة الغامضة تقضي الليل عند خطيبي. لكن كان على هناء التأكّد مِن أنّ الزائرة تقصدُ مراد بحدّ ذاته، وليس شخصًا آخرًا أو حتى شقّة تكون هي مالكتها. لكنّ شيئًا ما أقنَعَ أختي بأنّها عشيقة مراد.
لِذا قصدَت هناء ناطور المبنى حاملةً معها مبلغًا مِن المال كافيًا لِدفع أيّ كان على الكلام. حاوَلَ الناطور تفادي الإجابة على أسئلة أختي ليعود ويستجيب لها فور رؤيته المال. وهذا ما قالَه لها:
- السيّد مراد رجل مُحترم لا يُحدِثُ أي ضجّة أو مشاكل ويعودُ مِن عمله في الساعة الخامسة مِن كلّ يوم. ثمّ يُعاودُ الخروج لساعة أو إثنتَين ليرجع إلى بيته... لينتظر زوجته.
كتمَت أختي صرخةً لدى سماعها ذلك. هكذا إذًا... يأتي مراد ليرى خطيبته ومِن ثمّ ينتظر عودة زوجته مِن عملها ويقضي السهرة والليل معها كسائر الأزواج. وقد يخترعُ لها حجّة ما حين يخرج مع خطيبته للعشاء أو لحضور حفل.
لكنّ الحقيقة كانت بعد أبشَع مِن ذلك.
شكَرت هناء الناطور على معلوماته، وقرّرَت فضح مراد لدى زوجته ليجد نفسه مِن دون زوجة... وخطيبة! لِذا انتظرَت أن تعود الزوجة مِن عملها واستوقفَتها قبل دخولها المبنى:
- مهلاً سيّدتي! أُريدُ التكلّم معكِ في أمر بغاية الأهميّة.
- ماذا يجري ومَن أنتِ؟
- أنا شقيقة خطيبة زوجكِ!
قالت ذلك مُنتظرةً ردّة فعل قويّة مِن جانبها إلا أنّها قالَت لها :
- نعم... وماذا تُريدين؟
- أقولُ لكِ إنّ مراد زوجكِ خطَبَ غيركِ وسيتزوّجُها بعد أسابيع قليلة.
- أعلَمُ ذلك. دعيني أدخل الردهة مِن فضلكِ.
- ألستِ مُستاءة؟ وكيف تقبلين بذلك؟
- وكيف تُريدينا أن نُحقّقَ أحلامنا لولا المال الذي سيحصل عليه مراد مِن أختكِ؟
- أيّ مال؟ فهو طالما رفَضَ مُساعدة أهلنا.
- هذا الآن، أمّا لاحقًا... هيّا إذهبي فأريدُ أن أرتاح.
- سأقولُ لأختي الحقيقة ولن تحصلا على قرش واحد. كيف لكِ أن تُخبريني بما ينوي مراد فعله؟
- هاهاها... هي مُتيّمة به ولن تصدّقكِ... وهو سيُنكرُ كلّ شيء وستكونين الأخت الغيورة التي لا تُريدُ أن تجِد أختها الحبّ والسعادة. فزوجي بارع في التلاعب بمشاعر النساء!
- بل أجادَ التلاعب بمشاعركِ، فها أنتِ تقبلين بأن يتزوّجَ مِن غيركِ... أيّ إمرأة ترضى بذلك؟
- هو يحبُّني صدقًا لأنّني الوحيدة التي سكنَت فعلاً قلبه.
- أختي تقولُ الكلام نفسه. يا لغبائكِ! سرعان ما سيجد مراد إمرأة أخرى ويتخلّص منكِ... سترَين. أمّا بالنسبة لتصديق أختي للخبر، فكوني على يقين مِن أنّنا عائلة مُتماسكة تسودُها الثقة، فالدماء لا تنقلبُ إلى ماء!
عادَت هناء إلى البيت مُنفعِلة وبالكاد إستطعتُ تهدئتها. مِن ثمّ روَت لي كلّ ما حصَل. رأيتُ في عينَيها الخوف مِن ألا أٌصدّقُها لكنّني كنتُ ولا أزال واثقة مِن حبّ أختي لي غير المشروط. ففي آخر المطاف، كان مراد إنسانًا غريبًا عنّي إلتقَيتُ به ذات يوم. على كلّ الأحوال، إن ساورَتني الشكوك، كان بإمكاني أن أقصد مراد ليلاً للتأكّد مِن صحّة أقوال هناء.
لَم أحتَج للتأكّد مِن رواية أختي، فمراد نفسه فسخَ خطوبته بي بعدما أدركَ أنّ خطّته فشِلَت بسبب طول لسان زوجته. لَم أزعَل كثيرًا لأنّني فهمتُ أنّ الله يرعاني عن كثب وجنّبَني بواسطة كَسر رجلَيَّ الوقوع في فخ ذلك الوضيع. أمَلي بالمستقبل كبير وأعرفُ أنّ الرجل الذي سألتقيه يومًا سيكون المناسب.
حاورتها بولا جهشان