كرَه أعمى

ما أكبر تأثير أهلنا علينا خلال فترة الطفولة، وما أكبر مسؤوليّتهم في إنشاء إنسان صالح أم شرّير. ويا ليت أمّي فهمَت ذلك، وأدركَت مدى خطر زرع الكره في قلوب أولادها.

هذه قصّة غضب نَما يوماً بعد يوم في أحشاء اخوَتي لينفجر أخيرًا على شكل مأساة. وأفظع ما في الأمر هو أنّنا لا نستطيع الرّجوع في الزمَن لإصلاح ما حدَث، فالذي حصل قد حصل ولا ينفع الندم.

 

كنتُ الإبنة الوحيدة بين ثلاثة شبّان، وحظيتُ بالدّلال والإنتباه مِن جميع أفراد العائلة. كان أبي رجلاً محبًّا، وكانت أمّي قاسية القلب تدير البيت بِيَد مِن حديد. كان الكلّ يهاب تلك المرأة ولم يجرؤ أحد على عصيان أوامرها، حتى أبي. كان المسكين يُرجئ موعد عودته إلى البيت في المساء كي لا يسمع توبيخاتها أو شكواها حول كلّ كبيرة وصغيرة، وكان يقضي وقت الفراغ عند صديق له. وسرعان ما بدأ والدي يلعب الميسر للتسلية في البداية، ومِن ثمّ لربح المال بعدما كبرنا وكبرَت معنا مصاريفنا وطلبات زوجته.

وأخفى والدي عن أمّي حقيقة ما كان يفعله لمدّة طويلة، لأنّه كان يعلم أنّ لعب الميسر حرام ولأنّه كان متأكّدًا مِن أنّها لن تسامحه على المخاطرة بمعاشه البسيط.

 

ولأنّه لم يكن يُحسن لعب الورق، كان يخسر دائمًا. وكشأن كلّ اللاعبين، كان يُؤمِن بأنّ حظّه سيتغيّر إن بقيَ يُحاول. وفي إحدى الليالي ولكثرة يأسه بعدما خسَرَ مبالغ كبيرة، فعَل أبي ما أسمّيه أكبر غلطة بحياته وهي اللعب مقابل قطعة أرض كانت كلّ ما تبقّى لنا. وعندما عادَ إلى البيت، إختلى مع أمّي في الغرفة وتعالَت أصواتهما. ركضتُ مع أخوَتي لنرى ما يحدث، ووجدنا أمّنا على الأرض تردّد: "ماذا فعلتُ لأحظى بفاشل مثلك؟ ماذا فعلتُ؟". ومِن منظر أبي، علِمنا أنّه اقتَرَف ذنبًا كبيرًا. خلنا في البدء أنّه تزوّجَ على أمّي، الأمر الذي قد يُفسّر ردّة فعلها، ولكنّنا سمعناهما يتكلّمان مِن بعدها عن الأرض.

 


ومنذ تلك الليلة تغيّرَت حياتنا إلى الأبد. ليس فقط بسبب خسارة أبي للأرض، بل بسبب ما حَصَلَ لاحقًا لها. فقد شاءَت الظروف أن يعرض الرجل الذي ربحَها مِن أبي الأرض للبيع. وشاءَت الظروف أيضًا أن يكون الذي اشتراها هو عمّي، شقيق أبي. لماذا فعَلَ ذلك؟ ربما كي لا يذهب رزق العائلة إلى غرباء. أنا متأكّدة من أنّ عمّي لم يقصد سوءًا عند شرائه لتلك القطعة، ولكن أمّي لم تكن مِن رأيي، بل رأت بذلك إهانة لا مثيل لها.

وبدأَت تدخل في عقل أبي شتّى الأفكار السيّئة عن أخيه، ونسيَت أنّ زوجها هو الذي لعبَ الميسر وخسر! وكانت تؤمِن فعلاً أنّ على عمّي أن يُعيد الأرض لنا ومِن دون مقابل. وأقنَعَت زوجها بأنّ عليه قصد أخيه والمطالبة بحقّه، فنفَّذَ رغبتها ليُسكتها لأنّه كان يعلم تمام العلم أنّ عمّي لن يقبل بالتنازل عمّا دفَعَ ثمنه.

وعادَ والدي خائبًا، وأنَزَلَت عليه أمّي شتّى اللعنات والشتائم. وفي اليوم التالي، إكتشفَت أبي ميتًّا في الفراش.

أقسم أنّني لم أرَ دمعة واحدة تنزل مِن عينَي أمّي، لشدّة غضبها الذي تحوَّلَ إلى كره لكلّ شيء ولكلّ الناس، وبصورة خاصة لعمّي.

وقبل أن تنتهي مراسم الدفن، جمعَتنا والدتي وقالت لنا:

 

ـ أتروَن ذلك الرجل الجالس هناك؟ هو الذي قتَلَ أباكم... نعم، عمّكم هو الذي يتّمكم... ولن يهدأ لي بال قبل أن يُعاقَب.

 

وباتَت تقصّ علينا يوميًّا حكاية "سرقة الأرض" مِن قِبَل عمّي وكيف تركَنا مِن دون شيء. ولكن ما لم تقله لنا، هو أنّه قصَدَها وعَرَض عليها مساعدة ماليّة شهريّة إلى حين يكبر اخوَتي ويتمكنّوا مِن العمل وجني المال. ولكثرة عنادها، رفضَت تلك المساعدة وفضّلَت العيش بالعوز لسنين طويلة.

فلقد باعَت ما كانت تملكه مِن ذهب، وعشنا مِن ذلك المبلغ الذي لم يكن ليكفينا سنة واحدة. ذقنا الفقر والحرمان، وكلّما شعرنا بالجوع كانت تقول لنا: "لا تشتكوا لي بل إشتكوا للذي كان هو السّبب... أنا متأكّدة من أنّه في هذه اللحظة يأكل شبعه هو وأولاده بعدما جوَّعَ أولاد أخيه... مَن سيأخذ لي حقيّ؟ مَن؟؟؟"

وارتحنا قليلًا حين بدأ أخي الكبير بالعمل ومِن ثمّ الثاني. ولكنّ ذلك لم يكن كافيًا لنعيش كباقي الناس، لأنّهما لم يُنهيا دراستهما وكان راتبهما ضئيلاً.

كنتُ أسمع اخوَتي يتكلّمون فيرما بينهم عن ماذا فعَلَه عمّي وكنتُ أتدخّل دائمًا لأقول لهم:

 

ـ أنسيتم أنّ الحق يقع على أبي؟ هو الذي لَعِبَ مقابل الأرض وخسرها!

 

ـ واشتراها عمّي!

 


ـ إشتراها نعم، أي أنّه دفَعَ ثمنها.

 

ـ كان يجدر به أن يُعيدها الينا.

 

ـ ولِماذا يفعل ذلك؟ هل ماله هو ملكنا؟ على الأقل هو يحترم عائلته ولا يلعب الميسر ويستثمر ماله لتأمين مستقبل لأولاده.

 

ـ لقد جوّعنا!

 

ـ أبي هو الذي جوّعنا وليس عمّي!

 

ولكن بالرغم مِن استعمالي للحجج والمنطق، لم أستطع تغيير رأي اخوَتي ولا الذي كان سيحصل. وأظنّ أنّ ما سرَّعَ بالأحداث هو بناء عمّي منزل على تلك الأرض اللعينة والملعونة.

وحين سمعَت أمّي بالخبر بدأَت تصرخ كالمجنونة وأُغميَ عليها. وعندما استفاقَت ورأتنا حولها، قالت لنا بصوت يرتجف مِن كثرة الكره:

 

ـ خذوا حقّكم مِن عمّكم... لا أريده أن يهنأ ببيته الجديد... أم أنّكم تريدوني أن أموت وأنا غاضبة منكم؟

 

وفور انتهاء والدتي مِن الكلام، نظَرَ أخوَتي إلى بعضهم وتوجّهوا إلى الغرفة حيث بنادق الصّيد. لحقتُهم وبدأتُ أصرخ بهم وأتوسَّل إليهم كي يعدلوا عن قرارهم. ولكنّهم لكثرة غضبهم لم ينظروا إليّ حتى، وأزاحوني جانبًا وهم في طريقهم إلى القتل.

 

جلَسَت أمّي على الكنبة والبسمة على وجهها. كانت تلك أوّل مرّة أراها تبتسم منذ سنين طويلة فلم يكن يُفرحها سوى الأذى. جلستُ في غرفتي أصلّي بحرارة لتمضي تلك الليلة على خير. وعندما عادَ اخوَتي علِمتُ أنّهم اقترفوا أكبر إثم في العالم: القتل.

وقفوا أمام أمّي وقال لها الأكبر:

 

ـ لقد أخذنا حقّنا... حَرَقنا قلب عمّي... قتلنا ابنه.

 

وغَمَرتهم والدتي مهنّئة وأنا ركضتُ أبكي في سريري. وبعد قليل، سمعتُ أخوَتي يجمعون أمتعتهم ليذهبوا ويختبئوا في مكان آمن تجنّبًا للشرطة. لم أودّعهم عندما قصدوا غرفتي بل أدَرتُ وجهي وأكملتُ البكاء.

في الصباح قلتُ لأمّي إنّني ذاهبة عند جدّتي لأعيش معها، فلم أكن مستعدّة لقضاء يوم واحد مع قاتلة. لم تحاول ردعي، ولم تقبّلني حتى قبل رحيلي.

أمّا أخوَتي فقبضت الشرطة عليهم بعد فترة قصيرة وسُجِنوا مدى الحياة. وبقيَت أمّي تزورهم باستمرار وتأخذ لهم المأكولات وتهنّئهم على عملهم البطولي. أمّا أنا، فذهبتُ مرّة واحدة لرؤيتهم، وتوّقعتُ أن أرى الندم والخجل في عيونهم ولكنّني لم أفعل. بدلاً مِن ذلك وجدتهم مقتنعين بما اقترفوه لا بل فخورين. لِذا قرَّرتُ قطع كلّ صلة بتلك العائلة المريضة وإكمال حياتي.

ماتَت أمّي بعد سنوات وبقيَ أخوَتي في السجن. ولا يزال عمّي يبكي إبنه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button