كرهت نفسي لما فعلت بوالدتي

لم أفكّر أبداً أنّني سأبكي بهذا القدر على موت والدتي. لقد تجاهلتها لسنوات طويلة، لا بل احتقرتها. لم تؤذني يوماً بل على العكس كانت زوجة وأماً مثالية. لكن إلى جانب والدي الوسيم والأنيق والذي يتحلّى بكاريزما مطلقة، سرعان ما صارت مغيّبة. أمّا هو فقد كنت معجبة به وأراه كالبطل. بالرغم من أنّ والدتي كانت جميلة للغاية كنت أنا أميرته وابنته الوحيدة وفخره!
كبرت وصرت فتاة عادية لا أتحلى بالجمال البالغ لكنّ ذلك لم يكن يهمّني ما دمت الأجمل في عينيه. في المقابل، تعلّمت أن ألبس ثياباً أنيقة وأحترم قناعاتي وأقوم بكل ما يلزم لمرافقة والدي إلى الحفلات فقد كان منخرطاً في ميدان السياسة وقد ساعدته الحفلات الاجتماعية على اتّخاذ مركز مهم له بين الشخصيات النافذة. أمّا والدتي التي تأتي من عائلة متواضعة فكانت ضعيفة الشخصية وتفضّل البقاء في المنزل للتنظيف والطهو والخياطة بينما أذهب مع والدي لإمضاء سهرات كاملة في الضحك والأكل والشرب والرقص.

كنّا نعود عند الفجر لنجد والدتي نائمة فنسخر منها ومن كسلها. من الواضح أنّها لا تستحق أن تكون زوجة رجل طموح ومليء بالحيوية مثل والدي. في كل الأحوال، لا أحد يستحق والدي سواي!

مرت السنون ولم نكن ننفصل البتة لدرجة أنّ مَن لا يعرفنا، يظنّ أنّنا حبيبان. وحين كانوا يسألونني إن كنت زوجته، كنت أحمرّ خجلاً وأنفي بأسف. وهو كان يقول مبتسماً: "لن أجد البتة امرأة مثلها". كنت الوحيدة التي يهتم لأمرها في الحياة بالرغم من نجاحاته الكثيرة. 

بدأت سمائي الصافية تتلبّد بالغيوم يوم طلب مني والدي أن أعرّفه إلى صديقتي الجالسة على طاولة بالقرب منّا. نفّذت طلبه وراحا يضحكان معاً ويتبادلان أرقام الهواتف. شعرت بألم في البطن وعلى طريق العودة التزمت الصمت وبدا واضحاً الاستياء على وجهي. فقال لي والدي:

 

- اسمعي يا سهام، عليك أن تفهمي أنّ عندي حياةً أعيشها! نحن شريكان ونستمتع معاً لكن إن كنت متضايقة فبإمكانك البقاء في المنزل مع والدتك، اتفقنا؟

 


- حسناً يا أبي، سأفعل ما تشاء لكن اسمح لي بمرافقتك على الدوام.

 

بالطّبع لن أقبل البقاء مع والدتي لا سيما بعد أن تذوّقت الحياة الحلوة إلى جانب والدي. منذ ذاك اليوم، صرت سمسارة عند والدي إذ يكفي أن يشير بإصبعه إلى امرأة ما حتى أفعل أنا الباقي وأكرّر السيناريو ذاته: الرجل الأرمل الكئيب. كنت أتوجّه لعند "المستهدفة" وأبدأ بإخبارها عن صفات والدي ووحدته القاسية بعد أن أمضى سنوات طويلة تحت أقدام والدتي المريضة وعن حزنه الشديد على موتها. وبعد أن ينتهي دوري لا يبقى عليّ سوى العودة إلى المنزل بسيارة أجرة فيما كان هو يذهب برفقة المرأة التي يختارها. كان ذلك أفضل من البقاء بعيدة عنه فأنا لا أحتمل الأمر. كان يعود متأخراً إلى المنزل ولم أكن أنام قبل أن أسمع صوت المفتاح في القفل.

لكن في إحدى الأمسيات، لم يعد، فتخيّلت الأسوأ لأنّ هذا لم يحصل يوماً. في اليوم التالي، جاء ليخبرنا بأنّه سيرحل وبألاّ ننتظره بعد تلك اللحظة. بالتأكيد عاش في الكذبة وصدّق أنّه أرمل وحر.

فجأةً، انهار العالم تحت قدميّ فقد خانني بطلي. كان لا بد من حصول هذا الأمر حتى أعرفه على حقيقته وأفهم والدتي وأقدّرها. بدا لي أنّني أراها للمرة الأولى، الآن بعد أن أصبحت كلتانا ضحية ذاك الوحش الأناني. كانت والدتي معتادة على إخفاء حزنها فنجحت في التظاهر بأنّها غير متأثرة لكنّني كنت أسمعها تبكي في غرفتها ليلاً. فعلت ما بوسعي لتهدئتها لكنّ الوقت كان قد تأخر.

بعد سنوات طويلة من الذل تدهورت صحتها وأصيبت بمرض خطر وماتت. لم أعد أرى والدي لكنّني علمت أنّه ترك المرأة التي تخلّى عنّا من أجلها، وذلك بسبب سيدة أخرى. بالتأكيد، ما من أحد قادر على إرضائه. لم أتزوج خوفاً من الارتباط برجل مثله أو من إنجاب أولاد يعيشون المأساة التي عشتها أنا. كرهت نفسي لما فعلت بوالدتي وشعرت بالذنب إلى أن قررت مساعدة المحتاجين إليّ. لم أتمكّن من إنقاذ والدتي فعلى الأرجح أستطيع تخفيف عذاب الأشخاص المتروكين.
هكذا صرت متطوّعة في دار للعجزة وأنا سعيدة بمساعدة الآخرين ومتأكدة من أنّ والدتي قد سامحتني على كل شيء. 

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button