كان مِن المفروض أن أموت

كم مِن الصعب أن يعلم المرء بِموعد موته ويفقد الأمل وطعم العيش. هذا ما حصَلَ لي عندما قال لنا الطبيب أنّني مصابة بداء خبيث وفتّاك وأنّ كل ما تبقّى لي كانت سنة على الأكثر. ورغم حزني العميق على فقدان حياتي فأوّل شيء فعلتُه هو إخفاء الأمر عن أولادي الثلاثة بعدما جلستُ مع زوجي وأهلي لنتباحث في الموضوع.

عندها أعطيتُهم توصياتي الأخيرة وذهبتُ أبكي لوحدي في غرفتي لأنّني أردتُ الحفاظ على صورة المرأة القويّة لكي لا تنهار معنويّات كل مَن مِن حولي. وأذكر كم شكرتُ ربّي على الدعم الذي لاقيتُه مِن قِبَل ذويّي خاصة مِن زوجي شادي الذي أكّدَ لي أنّه سيعمل على جهده لجعل سنتي الأخيرة أسعد مِن كل اللوات سبقَتها وأقسمَ لي أنّه سيهتمّ بأولادنا كما كنتُ أفعل وأنّ لا شيء سينقصهم. لِذا إطمأنّ بالي مع أنّني كنتُ أعلم أنّ الأولاد سيصابون بصدمة كبيرة عند رحيلي بسبب تعلّقهم بي وأنّهم سيتأثّرون بذلك مهما حاوَل شادي فعله مِن أجلهم. ورتّبتُ أموري الخاصة فبدأتُ أوزّع أمتعَتي لكلّ مَن شاء أن يأخذها وإنتظرتُ الموت.

وفي هذه الأثناء كان زوجي قد دبّرَ لي أن أذهب في رحلة على متن تلك البواخر الكبيرة قبل أن تمنعَني أوجاعي مِن ذلك فحَجَز لي غرفة مع شرفة لأزور مدن الساحل المتوسّط وأقنعَني أنّ ذلك سيفيد حالتي ويلهيني عن فكرة الموت التي باتَت حاضرة في كلّ ثانية مِن كل يوم. وقبِلتُ أن أقوم بتلك الرحلة ووضّبتُ أمتعَتي وقبّلتُ أولادي وأخذتُ طائرة إلى إيطاليا حيث كانت تنتظر الباخرة. وأعترف أنّ مشهد كل هؤلاء الركاّب وهم يدخلون سويّاً هذه المدينة المتحرّكة كان مهولاً وشكرتُ زوجي على هكذا هدية فريدة مِن نوعها.

وأبحَرت ورأيتُ مدى البحر وطيوره الجميلة وشاهدتُ الشمس تطلع وتغيب وشربتُ قهوتي في الصباح على الشرفة ونحن نقترب مِن اليابسة لزيارة كل بلد نتوقّف عنده. وعلى متن الباخرة أمضيتُ وقتاً ممتعاً أرقص وأغنّي مع منظميّ الرحلة وتعرّفتُ إلى أناس كثر مِن شتّى أرجاء العالم. وكنتُ قد قرّرتُ ألاّ أفكرّ كثيراً بمَرضي وبعائلتي مدركة أنّ تلك الأوقات السعيدة كانت الأخيرة قبل أن أعود وأكمل علاجي المؤلم وأضطرُّ إلى الرسوب في الفراش.

 


ومَضَت حوالي العشرة أيّام هكذا ونسيتُ حزني وعدتُ مفعمة بالحيويّة والتفاؤل. وعندما لاقاني زوجي في المطار عانقتُه بقوّة وقبّلتُه شاكرة وتوجّهنا إلى المنزل حيث كانوا أولادي ينتظرونني بِشوق كبير. وبدأتُ بالبكاء لأنّني تذكّرتُ أنّني وبالرغم عنّي سأخذلهم بموتي. وكنت قد بقيتُ على إتصال مع الركّاب الذين رافقوني وبدأنا نتبادل الرسائل الإلكترونيّة والتواصل عبر الفيسبوك. وعندما أخبرتُهم عن حالتي الصحيّة عملوا جميعهم على رفع معنويّاتي وأعطوني نصائح عديدة للتخفيف مِن آلامي وتوتّري وزوّدوني بعناوين مواقع على الإنترنت تتباحث في حالات مشابهة لحالتي. وبفضل كل مَن حاوَطني شعرتُ بِقوّة فائقة فعندما ذهبتُ إلى طبيبي قلتُ له:

 

ـ هيّا... هات علاجاتكَ... أنا مستعدّة!

 

ـ أجل سيّدتي ولكن... تعلمين وضعكِ... إنّه متقدّم جدّاً وقد لا نستطيع فعل أي شيء.


ـ أجل أعلم ذلك... ولكنّني لن أستسلم فالحياة جميلة ولن أتركها أو أترك كل مَن أُحبّ بهذه السهولة... سأموت وأنا أناضل!

 

ومرَّت الأيّام وكانت صعبة جدّاً وكل ما كنتُ أفكرّ به كان أنّ عليّ أن أحاول التمسّك بالحياة مِن أجل أولادي وزوجي وكل أصدقائي الجدد الذين وعَدتهم بأن نقوم برحلة ثانية حالما أتحسنّ. ومرَّت السنة ولم أمت وإعتبرتُ ذلك أوّل إنتصار لي وإستعدّيتُ للسنة الثانية بشراسة. والكّل هنّأني على نضالي إلاّ شخصاً واحداً وهو شادي. فلاحظتُ عليه علامات يأس ممزوج بِغضب. وعندما سألتُه ما به ظانة بالطبع أنّ لديه مشاكل في العمل هذا ما قاله لي:

 

ـ لاشيء... ولكن الوضع بات صعب عليّ... أعني وضعكِ.. أرجوكِ ألاّ تسئي فهمي ولكنّ خبر موتكِ القريب تأجّلَ وعليّ الإنتظار بخوف شديد لحظة رحيلكِ.

 

وبالطبع فهمتُ قصده فلم يكن يريدني أن أموت ولكنّ الضغط النفسي كان كبيراً عليه. والمضحك كان أنّني كنتُ التي واسَته ورفعَت معنويّاته وتمنيّتُ بجديّة أن أشفى نهائيّاً لكي نستعيد جميعاً حياتنا السابقة. وبعد ستّة أشهر على مرور أوّل سنة أخبَرَني الطبيب أن الورَم تقلّصَ وأنّني على ما يبدو على طريق الشفاء. كم كنتُ سعيدة! في البدء لم أصدّق أذنيّ وجعلتُ الطبيب يكرّر ما قاله لأتأكدّ مِن صحّة الخبر. ولكنّني رجَوته ألاّ يخبر أحداً لأنّني لم أكن أريد أن تصاب عائلتي بالإحباط في حال إنتكسَت صحّتي مِن جديد.

 

وغادَرتُ العيادة وأنا أغنّي لأنّني كنتُ سأرى أولادي يكبرون ويتزوّجون ومَن يدري قد أصبح جدّة لأولادهم. ولأنّني بدأتُ أشعر بتحسّن جسديّ ومعنويّ بدأتُ أرى أشياء لم أكن ألاحظها مِن قبل لكثرة إنشغالي بِمرضي. فمثلاً لم أكن ألاحظ كيف كان شادي يخفي هاتفه عني ويأخذه معه حتى إلى الحمّام أو تلك الرسائل التي كانت ترِده بالرغم أنّه كان يخفت صوت الهاتف ولا حتى تأخرّه في العمل كل نهاية أسبوع. وبِدافع الفضول وليس لأنّني كنتُ فعلاً أشكّ به قرّرتُ أن أتابع الموضوع عن كثب.

وبعد فترة أصبحتُ على يقين أنّ زوجي يخفي عنّي أشياء وأنّه قد يكون على علاقة مع إحدهنّ. وبالرغم مِن حزني حاولتُ تفهّم الموضوع فقط لأنّه كان مِن المفترض أن أموت. ولكن ما لم أستطع تقبّله هو ما سمعتُه في ذاك ليلة.

 


كان شادي قد أخذَ كعادته هاتفه إلى الحمّام ظانّاً أنّني نائمة وأقفلَ الباب وراءه. ولكنّني لحقتُ به وألصقتُ أذني على الباب وسمعتُه يتكلّم مع إمرأة ويقول لها:

 

ـ وما دخلي أنا إن كانت لا تزال على قيد الحياة؟ كان مِن المفروض بها أن تموت مِن أشهر... أجل أحبّكِ وأريد أن أتزوّجكِ ولكن... قالوا لنا أنّها ستموت وستموت! إصبري بعض الشيء فأنا متأكدّ أنّها مسألة أسابيع.

 

وشعرتُ بأنّ قلبي قد توقّف عن الخفقان. كنتُ سأتقبّل فكرة أنّ زوجي يخرج مع إمرأة لإشباع رغباته لأنّ بحالتي لست قادرة على فعل ذلك ولأنّه يشعر بالخوف واليأس على رحيلي ولكن أن يخطّط للزواج وأنا لا أزال حيّة؟ وأن ينتظر بفارغ الصبر أن أموت؟ فلا! وبدأتُ أسأل نفسي إن كان قد أحبّني يوماً أو كان يكذب عليّ مِن الأوّل.

دخلتُ سريري وإدّعيتُ النوم ولحِقَ بي الخائن بعد دقائق. وبالطبع لم أستطع إغماض عينيّ طوال الليل وأنا أفكرّ بالذي علِمتُ به وإنتظرتُ بفارغ الصبر طلوع النهار لكي يذهب شادي إلى عمله فلم أعد أطيق رؤية وجهه. وبعد أيّام طويلة مِن التفكير في الموضوع قرّرتُ إخباره بأنّني لن أموت بل أنّني باقية ولمدّة طويلة.

وحاولَ زوجي أن يبدو سعيداً لسماع ذلك ولكنّه لم يكن مقنعاً. لذا أخبرتُه أيضاً أنّني أعلم بمشروعه وبعد أن أنكرَ صحّة الخبر إعترفَ أخيراً بالحقيقة وبأنّه أرسلَني إلى تلك الرحلة ليتسنّى له أن يخرج مع إمرأة كان قد تعرّفَ إليها عبر الإنترنِت بعدما عَلِم أنّني سأموت لأنّه لم يكن يريد أن يجد نفسه وحيداً. عندها قلتُ له:

 

ـ وكانت تلك الرحلة هي التي أعطَتني معنويّات وحوافز لأن أتعافى... لم تنجح خطّتكَ... إسمع... كل ما يهمّني هو الحفاظ على أولادي وأن أتمتعّ بالحياة التي كنتُ سأُحرَم منها... أنتَ لم تعد تهمّني لأنّكَ نوَيتَ إستبَدالي بسرعة وإنتظرتَ موتي بفارغ الصبر... سنبقى سويّاً إلى حين أشفى كليّاً ومِن ثم نتطلّق.

 

ـ إسمعي... ما دُمتِ ستعيشين...

 

ـ ألم تسمع ماقلتُه لكَ؟ لم أعد أريدكَ! ولن تستطيع تغيير رأيي مهما فعلتَ... لن أعيش مع خائن يعدّ الأيّام المتبقّية لي... هذا ليس حبّ...ولا أحسد عشيقتكَ عليكَ! المسكينة لا تعلم أنّكَ لا تحبّ سوى نفسكَ... سأذهب لرؤية محامياً بدءً مِن الأسبوع المقبل وأنصحكَ بأن تفعل مثلي لأنّني أنوي الحصول على المنزل ونفقة لي ولأولادي...

 

ـ سأعطيكِ ما تريدينه...

 

ـ لماذا؟ لأنّكِ على عجلة مِن أمركَ وتريد التخلّص منّي بسرعة؟

 

ـ لا... لأنّني تصوّرتُ ما قد يكون شعوري لو عكسنا الأدوار... أنتِ محقّة... أنا أنانيّ ولِشدّة همّي الا أجد نفسي وحيداً خسرتُ كلّ شيء...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button