كان لِزوجتي المرحومة سرُ

أحببتُ جومانا حتى الجنون وقصّتي معها كانت شبيهة بالتي عاشها العشاّق الشهيرين والتي خلّدها الكتاّب في قصصهم. أحببتُها لأنّها كانت جميلة ورقيقة وعاملَتني بحبّ وحنان وهي أحبَّتني لأنّني حاوطتُها وحميتُها وأعطيتُها نفسي كلّها. ولكنّ حادثاً مروّع أخذها منّي ودفنتُها والدموع تنهال مِن عيوني كالأنهر وعدتُ إلى منزل فارغ وصامت. وعزلتُ نفسي مع ذكراها رغم محاولات عائلتي وأصدقائي لإخراجي مِن حزني العميق. ولكنّني رفضتُ نسيانها لكيّ لا أخون الذي كان بيننا. فكرّتُ حتى بإنهاء حياتي متأمّلاً بأن يجمعنا الله مِن جديد ولكنّني لم أستطع خوفاً مِن أن أذهب إلى مكان لن تكون موجودة فيه، ففضّلتُ البكاء بِصمت على التي ملأت حياتي بالفرح.

وبما أنّنا لم نعش طويلاً معاً، فلم ننجب أطفالاً لأنّها كانت دائماً تردّد: "وما العجلة؟ لدينا العمر بأسره لنكوّن عائلة!" وكانت آنذاك على حق لأنّنا قضَينا أوقاتاً ممتعة سويّاً ولكنّني وبعد وفاتها تمنيّتُ لو بقيَ منها ذِكراً حيّاً تحت شكل ولدأً أو بنتاً.

ولأنّ حياتي أصبحَت موحشة قرّرتُ جلب هرّ إلى المنزل لأهتمّ به ويهتمّ بي هو الآخر أيضاً. وأسميتُه بسبوس وأخذ يلعب في البيت وخاصة خارجه في الحديقة التي تحيط بنا والمزروعة بشتىّ الأشجار والورود. وكان ذلك هو مكان جومانا المفضّل خاصة في السنة الأخيرة وكانت تقضي هناك ساعات طويلة حتى أنّني قلتُ لها في ذاك يوم:"بدأتُ أغار مِن زهوركِ." وكانت تضحك على هذه الغيرة البريئة.

وفي أحد الأيّام عدتُ مِن عملي ولم أجد بسبوس في أيّ مكان وعندما خرجتُ إلى الحديقة وأخذتُ أناديه ظهرَت مِن وراء الجدار الذي يفصل بيننا وبين المنزل المجاور إمرأة في الثلاثين مِن عمرها وقالَت لي:"إنّه هنا معي... يزورني هرّكَ مِن وقت إلى آخر وأطعمه..." ضحكتُ ومددتُ يداي وأعطَتني بسبوس. شكرتُها وعدتُ إلى البيت. وبعد ذلك أصبحتُ أعرف مكان هرّي عندما يغيب عن أعُيني وكنتُ مسروراً أنّه وجدَ مَن يسلّيه أثناء تواجدي في العمل.

 

 

ومرَّت الأيّام وبدأتُ أتبادل الكلمات مع جارتي التي لم أكن حتى أعلم بوجودها لأنّني لم أكن أخرج مِن قبل إلى الحديقة إلاّ نادراً تاركاً هذا المكان لِجومانا. وكانت تلك المرأة تُدعى سعاد وكانت لطيفة جدّاً وكانت متزوّجة مِن رجل يذهب دائماً إلى خارج البلاد للعمل فكانت تقضي أوقاتاً طويلة لوحدها. وبما أنّنا كنّا وحيدَين وُلِدَت بيننا صداقة وإستطعتُ فتح قلبي لها وأخبارها عن حزني العميق لِفقدان زوجتي الحبيبة. وكنتُ أقضي ساعات بالتكلّم عنها مِن وراء الحائط وكانت هي تهزّ برأسها وتستمع إليّ بصمت. وأخبرَتني بدورها عن زوجها الذي لم يكن يهتمّ كثيراً لأمرها ويفضّل أشياء كثيرة عليها وكيف فكرَّت جدّيّاً بتركه ولكنّها فضّلَت البقاء والصبر متأملّةَ أن يتغيّر شيئاً. وفي ذات يوم سألتُ سعاد:

 


ـ صحيح أنّني لم أرَكِ قبل حادثة إختفاء بسبوس ولكنّ زوجتي كانت تقضي وقتها هنا... ولم أسمعكِ يوماً تتكلّمين عنها أو هي عنكِ... ألم تتعرّفي إليها؟

 

ـ زوجتكَ؟ بلى... رأيتُها... مراراً... ولكنّني لم أتكلّم معها.

 

ـ أمر غريب... كانت جومانا تحبّ الناس ولديها سهولة بالإختلاط معهم...

 

ـ ربمّا أنا السبب... لستُ مثل زوجتكَ... تنقصُني الشجاعة للتعرّف على الآخرين... وأظنّ أنّ لولا بسبوس لم نكن لنتكلّم سويّاً الآن.

 

ولكن بعد أيّام إختفَت سعاد وإنشغلَ بالي عليها كثيراً فذهبتُ أقرع بابها لأوّل مرّة. وفتحَ لي الباب رجل لم أرَه مِن قبل وتبيّنَ أنّه زوجها. ومِن أوّل نظرة لم أشعر تجاهه بأيّة مودّة فكان شكله فظّ ونظراته قاسية. وحين سألتُه عن جارتي أجابَني أنّها في الداخل ولكنّه لم يدعوني للدخول. عندها أدركتُ أنّ عليّ التعريف عن نفسي لكيّ لا يظنّ أنّ هناك شيئاً بيني وبين زوجته فقلتُ له:

 

ـ عذراً... أنا يوسف... جاركم...


عندها تغيّرَت ملامحه وإنتابه قلقاً واضحاً:

 

ـ أجل... أهلاً وسهلاً... جاري يوسف... أجل... ماذا تريد مِن سعاد؟ ما الأمر؟

 

ـ لاشيء... لا تقلق أرجوك... ولكنّني تعرّفتُ إليها في الحديقة وأخذنا نتحدّث...

 

ـ عمّا تحدّثتما؟؟؟

 

ـ لا شيء مهمّ... عن أنفسنا وعن المرحومة زوجتي...

 

عندما قلتُ ذلك أقفلَ الرجل الباب بوجهي بقوّة فائقة وبقيتُ واقفاً مكاني لِشدّة إستغرابي. ثم عدتُ إلى بيتي ألعن الساعة التي قرَعتُ فيها باب جيراني. وبعد حوالي يومَين عادَت سعاد إلى وراء حائط الحديقة وإعتذَرَت بشدّة عن تصرّفات زوجها:

 

ـ أنا أسفة ولكنّه هكذا... أعني أنّ طباعه حادّة...كان أفضل عندما تزوّجنا ولكن بعد سنتين تغيَّر... أظنّ أنّه شعرَ بالملل معي خاصة بعدما مات إبننا عندما كان طفلاً ولم أقبل أن أنجب غيره خوفاً مِن أن أفقده هو الآخر... يرحل زوجي إلى الخارج ويعود لِبضعة أيّام... وها هو قد رحلَ الآن... الأحوال تحسّنَت بعض الشيء بيننا... اصبح أكثر لطافة معي منذ...

 

ـ منذ ماذا؟

 

ـ منذ فترة... أظنّ أنّ بغياب التأثيرات الخارجيّة بدأ يستوعب أنّني أحبّه كثيراً.

 

ـ أيّ تأثيرات خارجيّة؟

 

ـ أعني... أعني أنّ كان له عشيقة و... إنتهَت العلاقة الآن...

 

ـ وكيف سكتّي عن الذي كان يحصل؟

 

ـ لم أسكت ولكنّها كانت أقوى منّي... كانا يخطّطا أن يرحلا سويّاً... كان ينوي أخذها معه إلى حيث يعمل... علِمتُ بذلك عندما وجدتُ بِحوذته تذكرة سفر بإسمها.

 

ـ وما الذي حصل؟ لِما لم ينفّذا خطّتهما؟

 

سكتَت سعاد مطوّلاً ونظرَت إليّ بخوف ومِن ثم أضافَت:

 

ـ لأنّها ماتَت.

 


وإختفَت مِن خلف الحائط وأخذَت الأفكار تتخبّط في رأسي وبعد دقائق بدأَت الأمور تتوضحّ. وربطتُ مكوث جومانا في الحديقة طوال الوقت بِعدم رغبتها في الإنجاب. وجاءَت تفاصيل أخرى لتُضاف عليها كصداع زوجتي الدائم الذي كان يمنعها مِن معاشرتي وذهابها مع "صديقات" لها للتسوّق ساعات طويلة وعودتها بكيس صغير مِن المشتريات. أيُعقل أنّني كنتُ مُغفّلاً إلى هذه الدرجة؟ هل كانت جومانا تنوي تركي ومغادرة البلد مع ذلك الرجل الفظّ؟ أم كانت سعاد تختلق القصص لتعكّر ذكرى إمرأة كانت سعيدة بزواجها على خلافها؟

ولكن ورغم إرادتي بِعدم تصديق الخبر كان الشكّ قد أحتلّ عقلي، فركضتُ إلى غرفة نومنا وبدأتُ أفتّش بأمتعة زوجتي التي تركتُها كما كانت منذ وفاتها. وفتحتُ الخزانة والأدراج ولم أجد شيء يدلّ على خيانة ما. وتذكرّتُ الهاتف الجوّال الذي كان بحقيبة يدها لحظة الحادث والذي أعدَته لي الشرطة. وفتحتُ ملف الرسائل والإتصالات ووجدتُ رقماً طويلاً مع رمز إلى الخارج يتكرّر عدّة مرّات في اليوم وبدأ قلبي يخفق بقوّة فحملتُ الهاتف وركضتُ إلى سعاد. وعندما فتحَت لي الباب مستغربة صرختُ لها:

 

ـ ما هو رقم هاتف زوجكِ؟

 

ـ لماذا؟

 

ـ أجيبيني!

 

وأجابَت على سؤالي ونظرتُ إليها بِحزن عميق وتمتمتُ:

 

ـ لماذا لم تُخبريني بالأمر مِن قبل؟

 

ـ عندما تعرّفتُ إليكَ يوم أضعتَ الهرّ خطرَ على بالي أن اقول لكَ الحقيقة إنتقاماً لما كان زوجي وزوجتكَ ينويان فعله ولكنّني نظرتُ إلى عينيكَ ورأيتُ الحزن العميق الساكن فيهما فتراجعتُ. وكلماّ إلتقينا وأخبرتَني عن حبّكَ لِجومانا شعرتُ أنّ مِن واجبي ترك ذكرياتكَ عنها ومعها كما أردتَها أن تكون... فما المنفعة مِن تشويه صورتها عندك؟ فلقد ماتت ولن ترجع... سامحني لأنّني أوحيتُ لكَ بما جرى... كان يجدر بي أن أصمت إلى الأبد.


ـ لا... بل فعلتِ حسناً... لو لم أعلم بالحقيقة كنتُ سأبقى عبداً لحبّ لم يكن موجوداً على الأقل مِن ناحيتها... هل أخطأتُ معها لكي تخونَني وتخطّط لتركي؟

 

ـ لا... كما لم أخطئ مع زوجي... هناك أشخاصاً لا يقدّرون ما عندهم ولا يترّدون على إذاء مَن كرّثَ حياتهم لهم...

 

ـ وماذا ستفعلين بشأن زوجكِ؟

 

ـ لا أعلم بعد... إن شعرتُ أنّه على علاقة مع أحد مرّة أخرى سأتركه دون تردّد... وسأطلب منه عندما يعود أن يختار بيني وبين السفر... سنرى جوابه... وأنتَ؟

 

- أنا؟ سأبكي وأتألمّ كثيراً في أوّل فترة طبعاً ولكنّني سأعزّي نفسي لأنّني كنتُ زوجاً طيبّاً ووفيّاً... وسأتحسّن وسيأتي يوم وأنسى حزني وألمي وقد أستطيع أن أحبّ ثانية... 

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button