كادَت أن تقتلني إبنتي

أحكي لكم قصّتي اليوم لأشارك أكبر عدد منكم ما جرى لي. فلقد طغَت عاطفتي على عقلي ومنطقي، فلكَم أحبَبتُ إبنتي التي انتظرتُ مجيئها إلى الدنيا بعدما أكَّدَ لي الأطبّاء أنّني لن أنجِبَ يومًا. فحين وُلِدَت سمَر، أقسمتُ بالله أن أُعطيها نفسي حتى مماتي. لكن حين ولِدَ إبني سامر، كنتُ قد وظّفتُ عاطفتي كلّها في أخته، فأحببتُه حتمًا لكن ليس بالقدر نفسه. وأغرَب ما في الأمر هو أنّ سامر بذَلَ جهده مِن أجلي، على عكس سمَر التي استفادَت منّي بطريقة لَم أتصوّرها مُمكنة.

تزوّجَ ولَدايَ وأنا بقيتُ في البيت لوحدي بعدما ماتَ زوجي الحبيب. لَم أشتكِ يومًا مِن الوحدة لأنّ سامر كان يأتي باستمرار مع زوجته ولاحقًا مع أولاده لزيارتي. أمّا سمَر، فكانت دائمة الإنشغال، لكنّني لَم أستأ للأمر طبعًا.

سافَرَ سامر وعائلته إلى كندا وودّعتُه باكيةً وهو أوصى أخته وزوجها بي. وفور وصوله وبدئه العمل، صارَ يبعثُ لي المال بالعملة الصعبة كي لا أحتاج لِمَدّ يدي لِصهري.

أظنُّ أنّني كنتُ سأعيشُ سعيدة حتى مماتي لو لم أُطرَد مِن البيت مِن قِبَل المالك الذي أرادَ هَدم المكان لبناء مُجمّع تجاريّ. أعطاني الرجل بعض المال ورحتُ أسكنُ مع ابنتي وزوجها وولدَيهما الصغيرَين. ولأشعر أنّني لن أمثّل عبئًا عليهما، أعطَيتُهما المال الذي قبضتُه مِن إخلائي البيت.

لكن مِن الواضح أنّ ذلك لَم يكن كافيًا. ففور نفاذ المال، صارَ صهري يتذمّرُ مِن وجودي في بيته. وسمَر هي الأخرى لَم تكن ممتنّة مِن "جلوسي طوال النهار" مع أنّني كنتُ أُشرفُ على ما تقومُ به العاملة وأهتمُّ بنفسي بتحضير الطعام. وقد كان صهري وابنتي يجدان كلّ شيء جاهزًا عند عودتهما مِن عملَيهما في المساء. إلا أنّ سمَر قالت لي ذات يوم:

 

ـ لَم نعُد قادرَين على دفع مُرتّب العاملة، فالأحوال الإقتصاديّة مُتردّية... عليكِ المُشاركة بالإهتمام بالبيت والأولاد.

 


قبِلتُ بسرور مع أنّني كنتُ قد بلغتُ الخامسة والستّين مِن عمري وأُعاني مِن مشاكل في القلب منذ سنوات. فقد كنتُ أحبُّ التواجد قرب إبنتي الحبيبة وولدَيها الجميلَين. لكنّني لَم أتصوّر كَم سأتعبُ بل حسبتُ نفسي لا أزالُ بكامل نشاطي.

أخذتُ على عاتقي تحويل البيت إلى مكان رائع مِن حيث النظافة والترتيب والأكل اللذيذ، إلى جانب الإعتناء بالطفلَين وكأنّهما ولدَاي. لكنّني لَم أنتبِه حينها إلى أنّ مهما فعلتُ، كنتُ سأبقى مُقصرِّة في "واجباتي" بالنسبة لسكّان البيت.

مِن جهته، بقيَ سامر يبعثُ لي المال لأشتري به أدويتي وحاجاتي. لكنّ ذلك المبلغ كان محطّ أنظار صهري وابنتي وكأنّ عمَلي لدَيهما لَم يكن كافيًا. زوج سمَر هو الذي فاتحَني بالموضوع:

 

ـ حماتي... تعرفين كَم أقدّرُكِ ولقد فتحتُ بيتي لكِ... إلا أنّ والدتي تعيشُ لوحدها الآن ولا أستطيع جلبها إلى هنا بسببكِ...

 

ـ يا إلهي... لقد أشعَرتَني بالذنب الآن!

 

ـ لا عليكِ يا حماتي... أقولُ ذلك لأوضّحَ لكِ مدى محبّتي لكِ... وسأكونُ صريحًا معكِ... نحن في ضيقة ماليّة الآن ونحتاجُ لكلّ قرش، وأرى أنّ ابنكِ يُرسلُ لكِ المال مِن الخارج.

 

ـ أجل هو يفعل.

 

ـ وليس لدَيكِ حاجة إلى ذلك المال فنحن نؤمّن لكِ ما تُريدينه.

 

ـ سأُعطيكم المبلغ بكامله مِن الآن وصاعدًا.

 

يا لغبائي! لَم أفكّر للحظة قبل تجريد نفسي مِن كلّ شيء لكثرة حبّي لابنتي وعائلتها.

صحيح أنّ إبنتي كانت تؤمّنُ لي ما أحتاجُ إليه، لكن بعدما صِرتُ أُعطيهم ما يبعثُه لي سامر، صارَت هي تكتفي بشراء أدويتي ولكن توقَّفَت زيارتي للطبيب والفحوصات الدوريّة التي كنتُ أخضعُ لها مِن أجل الإطمئنان على قلبي. وكانت حجتّها وزوجها "أنّني أبدو لهما بألف خير". كنتُ أروي لإبني ما يحدثُ لكن ليس مِن باب الشكوى بل لأنّه كان يطرحُ عليّ ألف سؤال إلى أن طفَحَ كَيله منّي وأجبرَني على السفَر إليه. رفَضَ صهري بشدّة رحيلي حتى لو كان ذلك لبضعة أشهر، فبذلك كان سيضطرّ لِجلب عاملة جديدة أو جليسة أطفال، ويخسرُ أيضًا المبلغ الشهريّ الذي كان يتقاضاه منّي. لكنّ سمَر طلبَت منّي عدَم التوقّف عن إرسال المال لهما أثناء تواجدي في كندا، وقبِلتُ طبعًا لأنّني كنتُ أنوي فعل ذلك مِن تلقاء نفسي.

 


فور وصولي كندا، عرَضَ عليّ سامر أخذي إلى المشفى لإجراء فحوصات شاملة، إلا أنّني رفضتُ ذلك كي لا تغضَب منّي إبنتي وتعتقدُ أنّني أعتبرُها وزوجها بخيلَين. على كلّ الأحوال، لَم أكن أنوي البقاء مطوّلاً عند إبني بل أوهمتُه بذلك. كان قلبي مُعلّقًا بعائلة سمَر مع أنّ زوجة سامر فعلَت المُستحيل لإفراحي، واشترَت لي الملابس ومجموعة مِن الحلى الذهبيّة. بعد اسبوعَين، بدأتُ أُطالبُ إبني بإعادتي إلى بلدي إلى أن سئمَ أخيرًا منّي واستجابَ لطلَبي. بدا له الأمر وكأنّني أهربُ منه، فغضِبَ لأقصى درجة وأخبرَني صارخًا أنّه سيتوقّف عن إرسال المال لي لو رحلتُ. لَم يهمُّني الأمر ووصلتُ أخيرًا إلى بيت إبنتي وقلبي مليء بالفرح.

إستُقبِلتُ بالبسمة والبهجة، فكانت المُربيّة/الخادمة/الطاهيّة/المُموّلة قد عادَت! لكن سرعان ما تلاشى ذلك فرَح عندما أخبرتُ سمَر وزوجها أنّ سامر لن يدفَعَ لي قرشًا بعد الآن، فطالبَت إبنتي بالذهَب الذي اشترَته لي كنّتي في كندا كتعويض لها وزوجها. تعويض؟!؟ عندما أفكّرُ اليوم بهذه الكلمة أجدُ نفسي غبيّة لأقصى حدّ وأستحقُّ ما حصَلَ لي لاحقًا. أعطَيتُها طبعًا الحُلى فباعَتها وصرَفَت المال. بعد ذلك، لَم يعد أحدٌ يأتي لي بأدويتي بحجّة نفاذ المال مع أنّ صهري وابنتي لدَيهما أعمالاً جيّدة.

وذات يوم أُصِبتُ بأزمة قلبيّة سبّبَت لي شللاً نصفيًّا. تحسبون طبعًا أنّ ابنتي ركضَت تحملُني إلى المشفى، لكنّ الحقيقة أنّها وقفَت فوقي وأنا على الأرض تسألُني إن كان مِن الضروريّ أن أتلقّى علاجًا فوريًّا أم أنّني سأكونُ بخير. لكن عندما وجدَت أنّني لَم أعُد قادرة على الكلام أو التحرّك، أخذَتني على مضض إلى قسم الطوارئ. وأنا نظرتُ إليها بتعجّب وكأنّني أراها لأوّل مرّة، وأدركتُ في تلك اللحظة أنّ هذه الإنسانة لا تكنُّ لي ولَو بذرّة واحدة مِن الحبّ.

أثناء وجودي في المشفى، تتالَت ذكريات ما فعلتُه مِن أجل إبنتي وزوجها، وكيف هما جرّداني مِن كلّ شيء، فاتّصلتُ بسامر وطلبتُ منه الغفران وودّعتُه في حال لَم أنجُ، فكنتُ قد كرهتُ حياتي لأقصى درجة. هو بالكاد فهِمَ ما كنتُ أقولُه بسبب شللي النصفيّ، إلا أنّه ركِبَ أوّل طائرة وركضَ ليراني... ولينشلَني مِن عذابي. فعندما خرجتُ مِن المشفى كان هو الذي أخذَني إلى دار مُخصّص لأخضع لعلاج فيزيائيّ. في تلك الأثناء، راحَ يقولُ لأخته كلّ ما في قلبه وكادَ أن يتعارك مع صهره.

أنا اليوم في كندا بعد أن قرّرتُ أخيرًا الإبتعاد عن اللذَين كادا أن يقتلاني بإرهاقي ونَهبي وعدَم تأمين الأدوية لي أو أيّ علاجٍ كان. أنا مع إبني وزوجته الرائعة وأولادهما الجميلين. أخيرًا ذقتُ طعم الحنان والرعاية، وأعلَمُ، بل أنا على يقين، بأنّني بين أيدٍ أمينة وأنّ مُستقبلي مؤمَّن.

لقد قطَعت سمَر إتصالاتها بي بعد أن اتّهمَتني بأنّني أحبُّ أخاها أكثر منها، وبأنّني تركتُها تتخبّط في القلّة وزوجها. القلّة؟ أيّة قلّة؟ فقد علِمتُ لاحقًا أنّ صهري لوحده يجني أكثر مِن إبني وزوجته مُجتمعَين، لكنّه لَم يرَ وسمَر حاجة لِصرف قرش واحد عليّ. صحيح أنّني أخطأتُ بتربية إبنتي وقصّرتُ تجاه إبني إلا أنّ لِطبع الإنسان دورًا أساسيًّا.

أيّها الأهل، إن كنتم غير قادرين على إنصاف أولادكم، فأنجبوا ولدًا واحدًا أو لا تُنجبوا قطّ... فلا يحقُّ لكم أن تظلموا أيًّا منهم. على كلّ الأحوال، سينقلبُ السحر عليكم في آخر المطاف. فلولا حنان سامر تجاهي، لكان مصيري حتمًا بشعًا للغاية. وكونوا على يقين مِن أنّني كنتُ الآن في عداد الأموات.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button