كادت أن تسرق مني زوجي وأولادي

لم أفكر يوماً بأنني سأحتاج لمن يربّي أولادي عنّي. فمنذ صغري وأنا أحلم بأن أصبح أماً. وعندما أخبرني الطبيب بأنني حامل، شعرت بسعادة لا توصف. ثم أنجبت ولدي الثاني واعتقدت أن حياتي أصبحت مثالية. لكن حادث سيارة مروع جعلني مقعدة مدى الحياة.

بعد مرور هول المفاجأة وفترة الانهيار، وجب عليّ التفكير في الناحية العملية من حياتي الجديدة. فكل شيء بات مختلفاً: من قضاء أبسط الحاجات اليومية إلى الأمور الأخرى المستعصية. ساندني زوجي قدر المستطاع لكن عمله كان يشغله كثيراً. توفيت والدتي منذ سنين وحماتي تسكن في منطقة بعيدة جداً، لذا لم يكن لديّ من يساعدني على تدبّر أموري، فارتأينا أنا وزوجي أن الحلّ الوحيد هو باستخدام مربية تعتني بأولادي وتساعدني في الأعمال المنزلية.

حضرت مرشحات عديدات للوظيفة، لكننا لم نجد أيّة مرشحة تناسبنا من حيث الثقافة والعادات. فعلى من ستقضي ساعات طويلة مع أطفالنا، أن تشبهنا وتفهم منهجنا. وعندما فقدنا الأمل في إيجاد طلبنا، جاءت رنين ابنة جارتنا. لم نفكّر بها لأنها كانت بالنسبة لنا الفتاة الصغيرة التي عرفناها في الماضي، لكنها كبرت الآن وأصبحت فتاة شابة مثقفة ولائقة، والأهم أنها تعرف أولادنا وتحبّهم وهم يحبونها أيضاً. كما أن مكان سكنها كان مناسباً جداً، المبنى نفسه حيث نسكن نحن، لذا فالمسافة التي ستقطعها ستكون قصيرة جداً في حال أرادت أن تزور أهلها من حين إلى آخر. بدأت بالعمل فوراً وأصبحت حياتي بعدها أسهل بكثير. كانت تجيد أيضاً الطهو وتدبير الأعمال المنزلية الصعبة. مرّت فترة وأنا أعيش حياة هنيئة وبدأت أرى الأمور من منظار مختلف، بدأت أرى بصيص الأمل الذي تكلّم عنه الجميع عندما حصل لي هذا الحادث المشؤوم.

يوم بعد يوم باتت رنين عنصراً أساسياً في البيت. اتّكل الجميع عليها لقضاء حاجاته ورأيها أصبح مهما جداً، ربما أكثر من اللزوم في بعض الأحيان. فكانت هي التي تقرر متى نأكل ومتى نذهب في نزهة، متى ننام ومتى نستفيق. كنت منزعجة من هذا الأمر لكنني لم أقل شيئاً لأنني كنت بحاجة إليها، فأنا لا أستطيع فعل شيء من دونها. شعرت بأنه لم يعد لي وجود فعليّ كسيّدة المنزل أو كأم. أصبحت كما لو أنني فرداً من عائلة رنين. عدت إلى اكتئابي وتقوقعت على نفسي أنفّذ أوامرها كالطفلة الصغيرة. وعندما كنت أبدي رأياً مخالفاً لرأيها كانت توبّخني كأنني ابنتها.

أكثر ما كان يؤلمني هو رؤية أولادي الاثنين يطيعونها وينظرون إليها وكأنها أمّهما الفعليّة، فكانا يستشيرانها ويرافقانها إلى مكان اللعب ويعودان وعلى وجههما علامات السعادة، في حين تبرز في عينيهما علامات الملل واللامبالاة حين يكونان معي. حتى زوجي أصبح مرحاً بوجودها، يقصّ لها ما حصل معه في العمل خلال النهار ويطلب رأيها حتى بما يتعلّق بأموره الشخصية. لكنني كنت أهدّىء نفسي كي لا أتفوه بأيّ كلمة يمكن أن تضايقها فتتركنا وترحل. كان يجدر بي أن أتصرف لأن وقاحتها بلغت حدّ الاستفزاز. فذات يوم طلبت من زوجي أن يرافقها إلى حفلة راقصة وألحّت عليه كثيراً بحجّة أنه ليس لديها رفيق وأن المكان المقصود لا يستقبل إلا الثنائي. لا أدري كيف أقنعته لأنه عادةً لا يحب هذا النوع من السهرات. رأيتهما يرحلان معاً في تلك الليلة وفي قلبي غصّة، أنا التي لم يعد بمقدورها الرقص. انتظرتهما حتى ساعة متأخرة من الليل، سمعت زوجي لدى عودتهما يفتح الباب وهو يغنّي من كثرة الفرح. بقيت في سريري متظاهرة بأنني نائمة. كانت تفوح منه رائحة الكحول وعطر رنين. بكيت بصمت تلك الليلة.

منذ ذلك اليوم بدأت أشعر بأن عائلتي ستفلت من يديّ، لم يعد أحد يصطحبني إلى أيّ مكان لأنني كنت بمثابة ثقل عليهم جميعاً، إلى أن جاءت صديقتي لتزورني. لم أرها منذ الحادث لأنها كانت مسافرة، عندما رأتني فوجئت بي لأنني كنت قد خسرت وزناً كبيراً والحزن ظاهرٌ عليّ. قالت لي:

- "ما الأمر؟ ماذا يحدث لك؟ تكلّمي!"

أخبرتها بكل شيء. استمعت إليّ بصمت، ثم قالت:

- - "أين سهى التي كنت أعرفها؟ هل ماتت في الحادث؟ أين المرأة الذكية التي تعرف كيف تتصرف وتتخذ القرارات الصعبة؟ كنتِ مثالاً لي ولصديقاتنا. عزيزتي أنتِ لم تموتي، أنت فقدت القردة على المشي لكنك ما زلت قادرة على تدبير أمورك وأمور عائلتك إنما بطريقة مختلفة عن السابق. صحيح أن هناك أمور أصبحت صعبة أو حتى مستحيلة، لكنك قادرة على إيجاد حلول بديلة. لقد اتكلت على هذه الفتاة أكثر من اللازم فأخذت منك عائلتك أمام عينيك. وأنتِ ماذا فعلت؟ لا شيء. أعطيت الجميع عذراً كي يبتعدوا عنك، أنت السبب في ذلك."

- "ما العمل؟"

-  "استرجعي نفسك أولاً ثم زوجك وأولادك. وارمي هذا الثعبان خارج منزلك! قومي بالأعمال السهلة، شاركي في الحياة الزوجية واليومية كما في السابق واجلبي شخصاً يهتم فقط بالأعمال المنزلية. فأنت الأم والزوجة ولا أحد سواكِ!"

حديث صديقتي أعاد إليّ الثقة بالنفس. كنت بحاجة لأن أستفيق من غيبوبتي، فلولاها كنت سأفقد كل ما لدي وأنا مسمّرة في كرسيّ.

في المساء، جمعت عائلتي وأخبرتهم أنني سأصرف رنين في الصباح. حاولوا منعي من ذلك لكنني قلت لهم بهدوء: "أنا ربة هذا المنزل وأفعل ما أراه مناسباً. منذ الآن سأعتني بكم كما كنت أفعل في السابق وستأتي سيدة لتقوم بأعمال التنظيف فقط. هذا قراري وهو نهائي." لم يجرؤ أحد على قول أيّ شيء. في اليوم التالي، عندما جاءت رنين أعطيتها شيكاً وقلت لها مشكورة لما فعلته. فتحت الباب وقلت لها وداعاً.

سألتني قبل أن ترحل:

- "هل يمكنني أن أمرّ من وقت إلى آخر؟"

- "أجل حبيبتي، مرّي ساعة تشائين ولكن كجارة وكضيفة فقط."

فهمَت قصدي، فذهبت ولم نرها إلا نادراً. منذ ذلك الحين، عملت جهدي لأعتني ببيتي وعائلتي ونجحتُ رغم ظروفي الصعبة. استرجعت مملكتي التي كادت أن تضيع منّي لأنني شعرت بالأسف على نفسي واستسلمت بسرعة.

حاورتها بولا جهشان

ساهمي بالتوعية عبر المشاركة
             

المزيد
back to top button