كاد كلام الناس يقتلني أنا وابنتي

لم نكن نملك الكثير، ولكنّنا كنّا عائلة متماسكة ومتناغمة وفوق كلّ شيء كنّا سعداء. ولكنّ الغيرة لا تتوقّف عند الثراء، بل عند أيّة ذرّة فرح لا يملكها صاحبها. أتكلّم عن عمّي، أخ أبي الذي كان يعيش أفضل منّا بكثير. فقد حَقَد علينا بسبب إبنته الوحيدة التي كان بودّه تزويجها. وكان ذلك الرّجل معدوم المحبّة والأخلاق، على عكس أبي الذي لطالما كان مسالمًا ولكن ضعيف الشخصيّة خاصة أمام أخيه الأكبر.

كنّا نشعر بامتعاضه تجاهنا، ولكنّنا لم نفهم السبب إلا بعد أن تزوّجَت أختي الكبيرة التي بسنّ إبنته وخطبتُ بدوري. عندها كبر حقد الرجل تجاهنا، وقرّر إطلاق الإشاعات البشعة بحقّي على أمل إلا يتم زواجي. ونجَحَ بذلك لأنّه تجرّأ على إخبار خطيبي شخصيًّا أنّ ابنة أخيه فتاة منحلّة أخلاقيًّا وأنّ الزواج منّي خطأ جسيم. ولأنّ الشاب الذي كنتُ أنوي الإرتباط به لمدى الحياة لم يكن يُحبّني كفاية، فقد صَدَّق عمّي وفسَخَ الخطوبة وحطَّمَ قلبي.

وتكرّرَ السيناريو نفسه مع كلّ مَن خَطَر بباله التقرّب منّي، حتى صار مصيري هو البقاء عزباء حتى آخر أيّامي. ولكن ما أحزَنني أكثر هو موقف أبي مِن أخيه، فلم يُوبّخه أو يُحاسبه أو يُحاول ايقافه عند حدّه وذلك لضعف شخصيّته. هكذا كان الرجل الذي حسبتُه سيقف إلى جانبي ويحميني ويحمي شرفي، هكذا كان أبي.

وبعد محاولات عديدة، وجدوا لي أخيراً عريساً عن طريق معارف لأمّي. كان أسعد مِن بلد مجاور ومقيم بيننا. وبالطبع أسرعتُ بالموافقة عالمة تمام العلم أنّني لن أحظى بغيره طالما بقيَ عمّي يُشوّه سمعتي. وتزوّجتُ مِن ذلك الشاب بسرعة فائقة لأهرب مِن أجواء صارَت لا تطاق.

ولكنّ سبل التواصل بيني وبين أسعد كانت مقطوعة، أوّلاً بسبب طبعه الحاد وثانياً بسبب الفروقات اللغويّة والبيئيّة.

 


وسرعان ما بدأت المشاكل والمشاجرات وتلَتها الإهانات والضربات. ولم أسلم حتى مِن اغتصابه لي كلّ ما رفضتُ أن يقترب منّي.

كيف لي أن أتقبّل لمسات رجل بعد أن يكون أبرحَني ضرباً؟

وهربتُ. عدتُ إلى بيت أهلي ولكنّني اكتشفتُ أنّني حامل. حينها كرهتُ زوجي إلى أقصى درجة لأنّني شعرتُ أنّني بحملي أصبحتُ سجينته إلا إذا حمَتني عائلتي. ولكنّ مجتمعنا ظالم، وعائلاتنا تخاف منه وتتأثّر بكلامه حتى لو كلّف ذلك حياة أحد أفرادها. وعند بلوغي الشهر السّابع مِن حملي أجبَرَني أهلي على العودة إلى جلاّدي. فما عسايَ أفعل سوى الإنصياع؟ أين وإلى مَن ألتجئ؟ وعدتُ إلى أسعد والحزن والخوف يملآن قلبي. وكنتُ على حق. ففي الليلة نفسها، أراد زوجي معاشرتي وبالقوّة كعادته، وحين رأى أنّني لم أكن موافقة إنهالَت عليّ الضربات. ولكن في تلك المرّة كان فعلاً ينوي القضاء عليّ. ضرَبَني بوحشيّة لا توصف، وركَلَني على بطني حتى أنّني فقدتُ الوعي. وتركَني بعدما ظنّ أنّني متُّ. وبقيتُ الليل بأسره فاقدة الوعي، حتى جاء أخوه ليأخذني إلى المشفى بعدما أخبره أسعد خائفاً بالذي فعله.

وفور وصولي قسم الطوارئ، رفضوا معالجتي بعدما رأوا حالتي، وفضّلوا انتظار وصول الشرطة خوفاً مِن الملاحقات. وأدليتُ بإفادتي وقدّمتُ بلاغًا ضد زوجي وأدخَلوني قسم العناية الفائقة.

 

وفي تلك الأثناء، فضَّل أسعد الهرب إلى بلده بعد أن باع بسرعة كلّ ما استطاع بيعه مِن محتويات البيت إلى مجوهراتي وحتى ملابسي. ولم ينسَ أخذ كلّ أوراقي الشخصيّة والثبوتيّة.

 


وبالطبع لم يسأل زوجي عنّي أو عن مصير الجنين الذي ركَلَه بقوّة جنونيّة، ولم يعرف أنّني بقيتُ 21 يوماً في غرفة العناية الفائقة قبل أن أولِد بنتي قيصرياً. المسكينة كانت غير مكتملة بعد، لأنّها جاءَت قبل أوانها لذا وضعوها في جهاز التحضين لمدّة شهرَين.

ونسيتُ ألمي لِكثرة الهمّ على إبنتي. فلم أكن أدري إن كانت ستعيش أم لا، وحتى لو لم تمت فماذا ستكون آثار الضرب التي تلقَّته وهي في بطني؟ وبدأتُ أذهب يومياً إلى المشفى لرؤيتها، وأقطع المسافات بدون مال أو أوراق شخصيّة بعد أن وقّعتُ سندات للمشفى تلزمني بالدّفع لاحقاً. وبكيتُ وصرختُ وتساءلتُ واستنكرتُ، ولمتُ أهلي والناس حتى جفَّت دموعي وغرِقتُ بالإكتئاب. كنتُ قد قرأتُ عن نساء مرَرنَ بتجارب مماثلة، ولكنّني لم أتصوّر أبدًا أن يحصل لي ذلك أنا أيضاً. فكيف لي أن أتكهنّ بأنّ حياتي ستنقلب إلى جحيم، بسبب خوف عمّي مِن أن تبقى ابنته عازبة، وخوف أبي مِن إيقاف أخيه عن هدم سمعتي، وأنّني سأقبل بأوّل عريس لم يسمع بتلك الأقاويل البشعة عنّي؟ كيف لي أن أعلم أنّ الذي تزوّجته سيكون وحشاً ضارياً لا يعرف سوى ضرب وشتم مَن هو أضعف منه؟

ولكنّ الله لم يُرد لي أن أستسلم لحزني، فخَرَجَت إبنتي الحبيبة مِن المشفى متعافية، وأخَذتُها إلى بيت أهلي لنهتمّ بها ونعوّض لها عن وحدتها في جهاز التحضين. ووعدتُها أن أحميها مِن أيّ أذى، وأن أعلّمها الدّفاع عن نفسها والوقوف شامخة أمام كلّ مَن سيُحاول التقليل مِن احترامها.

ولأنّ كلّ ظالم سينال يوماً جزاءه، أصيبَ عمّي بجلطة شلَّته نصفياً، وأدركَ حينها أنّه قَهَرَ أناساً كثر ومِن بينهم أنا وأختي الصغيرة التي نالَت نصيبها مِن غضبه بعد زواجي. وجاء إليّ معتذرًا، ولم أقبل إلا ان يُبرّئني أمام الجميع. وحتى بعدما فعل، بقيتُ أكنّ له كرهاً عميقاً بالرّغم من أنّني أوحَيتُ إليه أنّني سامحتُه. ثمّ طلّقتُ أسعد وبدأتُ حياتي الجديدة، بعد أن وجدتُ عملاً يُشعرني بأنّني منتجة ومستقلّة.

ومرّت 3 سنوات على هذا النحو، وإذ بزوجي السّابق يتصل بي طالباً منّي التنازل عن الشكاوى المقدّمة ضدّه تحت ذريعة أنّه يُريد رؤية إبنته، ولكنّه لا يستطيع المجيء بسبب حظره مِن دخول البلد. وبالرّغم مِن إصراره على أنّه اشتاق لصغيرتي، فلم أقَع بفخّه بعد أن تعلّمتُ الدرس جيّداً.

أقفلتُ الخط بعد أن قلتُ له:

 

ـ لن أدعَكَ تُفسد حياة إبنتي أو حتى حياتي... صحيح أنّ الكدمات التي خلّفَها ضربكَ لي قد اختفَت، ولكنّها بقيَت محفورة في روحي ولن يمحوها شيء... إيّاكَ أن تقترب منّا... إنسَ أنّكَ تزوّجتني يوماً وأنّكَ من اغتصابكَ لي يوماً أنجَبت بنتًا... وإلا سأريكَ جانبًا منّي لم تتخيّله موجوداً.

 

واختفى أسعد، ولا أظنّ أنّني سأسمع منه مجدّدًا لأنّه أدركَ أنّني لم أعد تلك المرأة الضعيفة أو الخائفة، بل صِرتُ أمًّا قويّة لا يردعها شيء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button