قوّة اغراء المال

كان لا بدّ أن تنتهي علاقتي مع زوجي فنحن لَم نتّفق يومًا. والسبب الوحيد الذي أبقاني معه بالرغم مِن خياناته المتعدّدة، هو إصراري على تربية إبنتَيّ كما يجب.

فعندما طلّقني رمزي للمرّة الثانية، إرتحتُ كثيرًا لفكرة ابتعادي عن إنسان معدوم الأخلاق، لا يّحبّ سوى نفسه. وكانت سميرة وسعيدة قد بلغتا سنّ الرشد ولم تعودا بحاجة إلى رعايتي، على الأقل مباشرة. فقد كنتُ قد أنشأتهما حسب أفضل القيَم والقوانين وكانتا قادرتان على الإبتعاد عن الخطيئة.

قصدتُ بيت خالي الذي لم يسكنه أحد منذ مماته، ووضعتُ أمتعتي في الخزائن بعد أن نظّفتُ المكان جيّدًا. كنتُ متحمّسة جدًّا لفكرة تواجدي لأوّل مرّة في حياتي لوحدي، وتذوّقتُ أخيرًا طعم الحريّة التي كنتُ أتوق إليها منذ زمن بعيد.

سرعان ما وجدتُ عملاً بفضل شهادتي الجامعيّة وولعَي بالتعامل مع الناس. فبالرّغم مِن أنّني لم أعمل يومًا في حياتي، علِمَ مدير شركة العقارات تلك أنّني سأنجح بما سيوكله إليّ، أي التواصل مع الزبائن وأخذ المواعيد معهم، ومِن ثمّ اصطحابهم لرؤية العقار الذي ينوون امتلاكه. ولم يكن مخطئًا لأنّني برعتُ بالمهمّة.

مِن جهّة أخرى، كنتُ على اتصال دائم مع ابنتَيَّ، وكانتا تأتيان لزيارتي باستمرار وتنامان أحيانًا عندي. لاحظَت سميرة وسعيدة كم أنّني متألّقة وفرحتا مِن أجلي. واعتقَدتُ فعلاً أنّ صفحة رمزي طوّيَت إلى الأبد.

إلا أنّ ذلك الرجل الفاجر لم يتغيّر، بل زاد فسقًا لدرجة غير مقبولة إذ أنّه بدأ يأتي بعشيقاته إلى البيت وفي وضح النهار. علِمتُ بالأمر مِن ابنتَيَّ اللتين جاءَتا إليّ يومًا شاكيتَين وباكيتَين:

 


ـ البابا فقَدَ عقله! صحيح أنّه كان منذ البدء يهوى النساء، إلا أنّه لم يعد يحسب حسابًا لحرمة المنزل أو حتى لوجودنا!

 

ـ ما الأمر؟ ماذا حصل؟

 

ـ لو تتصوّرين يا ماما ما الذي باتَ يفعله! يأتي بالنساء إلى البيت ويقوم بعلاقات معهنّ علنًا!

 

ـ ماذا تقصدان بعلنًا؟

 

ـ يعني أنّه لا يلزم غرفة نومه، بل يقوم بما يقوم به في كل أنحاء المنزل... وحصل أن رأيناه عاريًا!

 

ـ يا إلهي! لم يفعل ذلك مِن قبل.

 

ـ صحيح يا ماما... وعندما صرَخنا لرؤيته هكذا، ضحكَ عاليًا وقال: "إن لم تعجبكم طريقة حياتي الجديدة، فيُمكنكم مغادرة المنزل والذهاب إلى أمّكما. هذا بيتي وأفعل فيه ما أشاء مع مَن أشاء."

 

كان الأمر يفوق التصوّر، وخفتُ حقًّا على إبنتيَّ وعرضتُ عليهما العيش معي، إلّا أنّهما رفضتا لأنّ حياتهما كانت هناك، قريبة مِن الجامعة والأصدقاء وكلّ شيء اعتادتا عليه منذ ولادتهما.

واقترحَتا عليّ أن أحاول تهدئة والدهما، الأمر الذي رفضتُه بعد أن اعتقدتُ أنّني لن أضطرّ لرؤية رمزي مجدّدًا. ولكن أمام يأس وإصرار سميرة وسعيدة، أُجبِرتُ على لقبول شرط أن تكون زيارة واحدة وحسب.

يوم دخلتُ منزل زوجي السابق، وجدتُ المكان رأسًا على عقب لكثرة الفوضى وقلّة النظافة. وكان مِن الواضح أنّ العيش في ذلك البيت لم يكن ملائمًا لصبيّتَيِن رقيقتَين. فبدأتُ بترتيب المكان وتنظيفه قبل أن يصل رمزي. عند عودته، نظَرَ إلى البيت وضحكَ قائلاً: "لمسة أنثى... لطالما كنتِ ستّ منزل ممتازة... إشتاقَ إليكِ البيت."

لم أجب، لكنّني كنتُ أودّ القول إنّني لم أشتَق له أو لبيته، وفضّلتُ الدخول في الموضوع مباشرة:

 

ـ وصلَتني أخبار "حفلاتكَ"... وأنّكَ إلى جانب ممارسة الجنس هنا في البيت مع غريبات، تتمشّى أيضًا فيه عاريًّا... هل فقدتَ صوابكَ؟ أيّ أب يفعل ذلك أمام ابنتَيه؟

 

ـ أفعل ما أشاء في بيتي... الحق يقع عليكِ... أنتِ غادرتِ.

 

ـ غادَرتُ لأنّكَ طلّقتَني ولأنّني لم أعد أحتمل خيانتكَ لي.

 

ـ كنتِ تعودين دائمًا.

 


ـ إلا هذه المرّة... عملتُ لنفسي حياة جديدة لا مكان لكَ فيها.

 

ـ إذًا عليكِ تحمّل مسؤوليّة كلّ ما أفعله... الذنب ذنبكِ!

 

خرجتُ غاضبة مِن هذا الكلام غير المقبول وعدَم مقدرتي على تغيير رأيه. ومِن ثم بدأَت إبنتايَ تأتيان لزيارتي باكيتَين وحاملتَين أخبارًا شنيعة جدًّا عن ممارسات أبيهما الذي أصبَحَ يُقيم حفلات خلاعة كلّ يوم تقريبًا. والأفظع مِن ذلك أنّ سميرة وسعيدة ألقيَتا اللوم عليّ لأنّني أرفض العودة إلى البيت.

والذي أجبرَني على القبول بالعودة، كان أنّ ابنتيَّ أخبرتاني أنّ الشرطة دقَّت باب البيت في إحدى الليالي بعد أن أشتكى الجيران ممّا يحدث في الداخل.

أخذتُ حقيبة صغيرة غير مُستعدّة للبقاء مطوّلاً، ودخلتُ وكر الوحش الذي كنت قد ارتحتُ منه أخيرًا. إستقبلَني رمزي ضاحكًا ومنتصرًا، ولم تختفِ بسمته حتى بعدما أكّدتُ له أنّني لن أمكث طويلاً. كان متأكّدًا مِن أنّني، كالمرّات السابقة، سأقع تحت تأثيره وأبقى معه أو حتى أربط مصيري به مجدّدًا.

هدأَت الأحوال في البيت فور رجوعي، وعاد كلّ فرد إلى حياته السابقة وكأنّ شيئًا لم يحصل. وحدي بقيتُ مضطربة وغير قادرة على التأقلم بعدما ذقتُ طعم الحريّة والعمل. بالطبع لم أقبل أن أنام في سرير رمزي أو حتى في الغرفة نفسها، ليفهم أنّني عدتُ فقط مِن أجل ابنتَينا.

وبدأ الكلام عن زواجي مِن رمزي، الأمر الذي لم أكن لأقبله أبدًا لأنّني لم أعد أحبّه وأريده، ولأنّني كنتُ أعلم أنّه سيرجع إلى عاداته السيّئة فور عودتي إليه رسميًّا.

كان مِن الصّعب جدًّا عليّ تجاهل إصرار ابنتيَّ أن أتزوّج أباهم مجدّدًا، خاصّة أنّهما طلبتا منّي ذلك حفاظًا على سلامتهما النفسيّة وعلى سمعتهما. فمَن كان سيتزوّج مِن ابنة رجل يُقيم حفلات دعارة في بيته وأمام الجميع؟

أعترفُ أنّني كنتُ سألين لولا ما حصَلَ في أحد الأيّام. فقد ذهبتُ لأري منزلاً لأحد الزبائن، فأنا لم أشأ ترك عملي، لكنّ الرجل لم يأتِ في موعده وعدتُ إلى البيت باكرًا. عندما دخلتُ، كان المكان هادئًا، ففتشّتُ عن سميرة وسعيدة ووجدتُهما في غرفة إحداهنّ مستلقيتَين على السرير. وهذا ما كان يدور بينهما مِن حديث:

 

ـ ما الخطوة القادمة برأيكِ؟ فالماما لا تزال ترفض الزواج مِن البابا.

 

ـ لا عليكِ... سنخترع شيئًا جديدًا لها... هي ليست بذكائنا، ألم ترَي كيف وقعَت في الفخ كالقطّة العمياء؟

 

ـ صحيح ذلك، لكنّ البابا بدأ يفقد صبره وأخافُ أن يتراجع عن وعده... كان واضحًا جدًّا... لا مال إن لم ننجح، وأنتِ تعلمين كم أنّه يبقى على قراراته.

 

ـ أعلم، أعلم... ماذا لو قلنا لها إنّه حاوَلَ التحرّش بنا؟

 

ـ لا يا بلهاء! عندها ستأخذنا معها بعيدًا! أنتِ غبيّة كأمّكِ!

 

عندها دخلتُ الغرفة قائلة بغضب:

 

ـ لستُ غبيّة يا آنسة! أنا أمّ وهذا إسمه عاطفة! الشيء الذي تفتقدان إليه لأنّكما كأبيكما! لم أتصوّر أنّكما قادرتان على غشّي هكذا ومِن أجل المال! تعرفان تمام المعرفة أنّني تعذّبتُ كثيرًا مع أبيكما وأنّني وجدتُ أخيرًا حياة أفضل... إلا أنّكما بعتماني بسهولة غير معقولة! وهذا الكم مِن الكذب! يا إلهي... لقد أنجبتُ شيطانتَين! لن تحصلان على قرش مِن ذلك الفاسق لأنّني راحلة على الفور. وإن حصَلَ وندمَت إحداكما، تعرفان أين تجداني... وإلا إبقيا بعيدتَين عنّي!

 

بكيتُ في طريق العودة على السنوات التي قضيتُها ألقّن ابنتَيّ مبادئ صحيحة وحميدة... سنوات ذهبَت سدىً أمام مغريات المال. لم يستوعب عقلي ما فعلَته بي سميرة وسعيدة، وحمدتُ ربّي أنّ لي عملاً يُمكّنني مِن العيش مِن دون أن أحتاج إلى مدّ يدي إلى اللتَين باعتاني.

لقد مضى على رحيلي ستّ سنوات ولم تتّصل بي أيّ مِن سميرة أو سعيدة. مِن جهّتي، تعرّفتُ إلى رجل محبّ وحنون وتزوّجتُه. صحيح أنّ قلبي حزين للغاية، إلا أنّني لم أفقد الأمل مِن أن تتخلّص ابنتايَ مِن تأثير رمزي، وتعودان إلى صوابهما يومًا وتدركان فظاعة ما فعلتاه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button