قلة طموحي تحولت إلى تصميم عنيد

لِمحيطنا وتربيتنا أساس جذريّ في حياتنا المُستقبليّة. فلقد ولِدتُ وسط عائلة عاديّة ومِن أبوَين لا طموح لهما، ربَّياني على قبول كلّ شيء وكأنّه أمر محتوم. لا تُسيئوا فهمي، فأنا لا أحكمُ عليهما بل أشرحُ لكم ظروف منشئي الذي له دخل مباشرَ على باقي الأحداث.

علاماتي في المدرسة كانت متوسّطة، ليس لأنّني غير ذكيّة بل لأنّني كنتُ أكتفي بالحصول على المعدّل كلّ شهر والانتقال إلى الصفّ الأعلى في آخر السنة. كنتُ أنظرُ إلى الأوائل باستغراب وأتساءَلُ لِما يتكبّدون عناء الدرّس والوصول إلى المرتبة الأولى بِهذا الإصرار. لَم أفهَم أن يريدَ المرء أن يكون أفضل ممّا هو، لكنّني استوعبتُ ذلك لاحقًا.

لَم أدخل الجامعة، فكان الأمر سيتطلّبُ جهدًا كبيرًا منّي. إضافة إلى ذلك، كنتُ بِحاجة إلى العمل للحصول على راتب يُحسّنُ بعض الشيء مستوى حياتي. فوالدي كان بالكاد يجني ما يكفي لعائلتنا المؤلّفة مِن ثلاثة أولاد.

وجدتُ عملاً في شركة أغذية أقومُ فيها بالاهتمام بالمستودع وأُحصي المنتوجات لتقوم مُديرتي بالطلبيّات والتوزيع. كنتُ مرتاحة لهذه الوظيفة، ففي معظم الوقت كانت الأمور هادئة، واعتَدتُ التواجد في ذلك المكان الكبير والهادئ والمليء بعلب الكرتون الضخمة.

بعد حوالي الثلاث سنوات، تركَت المديرة مركزها فاضطرّوا لِتسليمي مهامها لأنّهم لَم يجدوا سوايَ. كنتُ فخورة بنفسي وتفاجأَ ذويّ بي إذ لَم يتصوّروا أن أصبحَ في موقع مسؤول في أيّ مجال.

لكنّ فرحَتي لَم تدُم إذ جاءَت إلى الشركة صبيّة لِتعمل في المستودع تمامًا كما بدأتُ أنا، أي أنّها كانت تحت أمرتي. حاولتُ مُساعدتها لإعطائها النصائح اللازمة لتأدية عملها جيّدًا إلا أنّها لَم تتجاوب معي. قلتُ لنفسي إنّها تشعرُ بأنّها غريبة بيننا وإنّها تحتاجُ إلى مزيد مِن الوقت.

وكَم تفاجأتُ يوم طلبَني صاحب الشركة وقال لي:

 

ـ لدَيّ خبر غير سار يا آنسة... ستعودين إلى وظيفتكِ السابقة.

 

ـ ماذا؟ ما الذي حصل؟ هل قصّرتُ في مهامي؟

 

ـ أبدًا، أبدًا، بل العكس... لكنّنا وجدنا الشخص الأنسَب لهذه المهام.

 


ـ الأنسب؟ ألَم تقل لي للتوّ إنّني أقومُ بِعملي جيّدًا؟ ألا يكفي ذلك؟

 

ـ بلى ولا... تعلمين أنّ لشركتنا مكانة في الأسواق المحليّة والعالميّة ويلزمنا موظّفون جديرون... أعني متفوّقين.

 

ـ متفوّقون لإدارة مخازن؟

 

ـ لا تُجادليني مِن فضلكِ يا آنسة... ستعودين إلى مهامكِ السابقة وستكون مهى هي المسؤولة عنكِ.

 

ـ أيّ مهى تتكلّم عنها؟ تلك التي وصلَت لتوّها وتعمل في المستودع؟!؟

ـ

أجل. عودي إلى العمل مِن فضلكِ.

 

لَم أصدّق أذنيَّ! بعد كلّ الجهود التي قمتُ بها يختارون عاملة مِن دون خبرة فقط لأنّ علاماتها أفضل مِن علاماتي أو لأنّها قادمة مِن مدرسة فاخرة؟!؟

بعد ذلك الاستياء الذي لَم يدم طويلاً، عدتُ إلى عملي القديم مِن دون ضغينة لِمهى فكان مِن الواضح أنّها أكثر جدارة منّي. للصراحة كنتُ أفضّل البقاء في المخزن على إدارته، فكما سبَقَ أن ذكرتُ، كنتُ أكتفي بما هو موجود. حتى أهلي لَم يستاؤوا لِما حصل لي، بل فرحوا لي لعودتي إلى سابق عهدي. إلا أنّ مهى لَم تكن، ولسبب جهلتُه، تُريدني أن أبقى في الشركة في أيّ منصبٍ كان. هل أحسَّت بالإهانة حين عرضتُ عليها مُساعدتها عند وصولها؟ أنا لَم أقصد التعالي عليها فذلك لَم يكن مِن شيمَي، صدّقوني.

صارَت أيّامي في المستودع مُتعبِة، فقد أمرَتني مديرتي الجديدة بأن أقوم بِجردات مُتتالية، الأمر الذي لَم يكن له لزوم بل فقط لإرهاقي، ولِما لا، حَملي على ترك العمل. ومع الوقت، لَم أعد أحبّ الاستيقاظ في الصباح للذهاب إلى المخزن، لأنّني كنتُ أعلمُ أنّ ما ينتظرُني كان التوبيخ والأوامر.

تحمّلتُ كلّ ذلك بِصمت، ففي آخر المطاف لَم أكن مخوّلة للتذمّر مِن حيث مكانتي في العمل وحتى مكانتي في الحياة. مَن أكون لأثبتَ وجودي؟ وما كانت مُعطياتي؟ لا شيء. كنتُ إنسانة عاديّة للغاية وسأموت عاديّة للغاية.

ما لَم أكن أعلمُه آنذاك أنّ لِمهى مخطّطًا بعيدًا كلّ البُعد عن أيّ مهنيّة وأنّ تداعياته كانت ستقع عليّ. فتلك الصبيّة لَم تصل إلى مركز مسؤولة بسبب شهاداتها أو مهاراتها، بل لأنّها عرِفَت كيف تُقنعُ مالك الشركة بِترقيتها، أقصدُ بذلك بِطرق حميمة للغاية...

إضافة إلى ذلك، هي كانت تنوي إبعادي عن المستودع لِجلب صديقة لها مكاني، وسرقة البضائع مِن دون أن يعلَمَ بذلك أحد. ففي آخر المطاف، كانت مهى التي تسجّل وتُحصي البضائع.

وبما أنّني لَم أترك العمل، قرّرَت مهى عدمَ الانتظار بل التصرّف.

فصارَت مديرتي تتذمّر عاليًا مِن نقص في البضائع وتنظرُ إليّ نظرة شكّ واضحة. عندها كنتُ أُعيد إحصاء الكراتين وأجدُ العدد صحيحًا... إلى حين باتَت المُنتجات تختفي فجأة. إنتابَني الخوف، فلطالما كانت نزاهتي فوق أيّ شكوك. صحيح أنّني كنتُ معدومة الطموح، لكنّني تربَّيتُ على عدَم لَمس ما هو ليس لي. أفهمَتني مهى أنّها لن تُبلّغ عنّي بشأن "السرقة" إن تركتُ العمل مِن ذاتي. رفضتُ بقوّة، فالإنسان البريء لا يخافُ مِن شيء، وطلبتُ منها أن تُفكّر بِتداعيات انتشار خبر كهذا عليّ. طمأنَتني مهى بأنّها تتفهّم ظروفي المعيشيّة، وبأنّها ستغضّ النظر لو أعَدتُ البضاعة المفقودة إلى مكانها. لكن كيف لي أن أفعل ذلك وأنا لَم آخذ شيئًا؟!

بدأَ قلبي يخفقُ بقوّة حين استدعاني صاحب الشركة إلى مكتبه، فكنتُ أعلم ما الذي سيقوله لي. ولَم أكن مُخطئة. فهو كان ينوي طردي بسبب السرقة التي تحصل في المستودع. بكيتُ أمامه وتوسّلتُ إليه كي يغيّر رأيه، إلا أنّه أعطاني مُهلة أسبوعَين لأُغادر المكان.

 


خرجتُ مِن مكتب الرجل باكية، الأمر الذي حمَلَ سكرتيرته على أخذي جانبًا لِتقول لي:

 

ـ لقد سمعتُ ما دار مِن حديث بينكِ وبينه... تلك اللعينة استحوذَت على عقله!

 

ـ مَن تقصدين؟

 

ـ مهى! فهي تدخل مكتبه وهو يُقفل ُ الباب وراءهما وتحصلُ بينهما أمور غير شريفة في الداخل... أنا أسمعُهما جيّدًا... يا للعار... الرجل مُتزوّج وله أطفال!

 

ـ أقسمُ لكِ بأنّني لَم ألمس أيّة بضاعة! لستُ بسارقة!

 

ـ أصدّقُكِ يا صغيرتي... فمِن المؤكّد أنّ لِتلك الساقطة دخل باختفاء البضائع... هي تُريدُكِ أن ترحلي، هذا أمر واضح.

 

ـ لكن لأيّ سبب؟ فلَم أُخطئ معها يومًا!

 

ـ لدَيكِ أسبوعان لِتجدي الجواب. ولدَيكِ آلة تسجيل في هاتفكِ المحمول... لا تنسي ذلك.

 

كانت تلك السيّدة على حقّ، فكانت هناك أمور مُريبة تجري وكنتُ سأدفعُ الثمَن. صحيح أنّني لَم أكن إنسانة لامعة اجتماعيًّا لكنّ كرامتي كانت فوق كلّ اعتبار! لِذا صمّمتُ على غَسل اسمي مِن وصمة عار كانت ستُلاحقُني أينما أذهب وتلطّخُ اسم أهلي النظيف.

أخذتُ أُراقبُ مهى بعد أن أخبرتُها بأنّني سأرحل بعد أسبوعَين، وأنّني لستُ آسفة على تركي العَمل لأنّني وجدتُ عملاً آخرًا. فاطمأنّ بالُها مِن جهتي ولَم تعُد تنتبه لِما تفعله أو تقوله. إلا أنّها لَم تدرك أنّ عَينَيّ وأذنيَّ كانت مُتيقّظة لأقصى درجة، وأنّني لن أدَع إنسانة مثلها تنجَح بإبعادي، على الأقل ليس بهذه الطريقة.

صِرتُ أُشغِلُ آلة التسجيل طوال الوقت وأتركُ هاتفي هنا وهناك، وفي آخر النهار أستمعُ إلى التسجيلات، لكن مِن دون جدوى. هل شعرَت مهى بالذي كان يدورُ أم أنّ شكوكي لَم تكن في محلّها وأنّها كانت تبغضُني مِن دون سبب وجيه؟

ذات يوم، تركتُ هاتفي في مكتب مديرتي، عن قصد طبعًا، بعد أن دخلتُ مكتبها لأزفّ لها خبر رحيلي بعد أيّام قليلة وأشكرُها على مُعاملتها الحسنة لي. عدتُ في نهاية الدّوام لآخذ هاتفي مِن مكتبها، وهي نعتَتني ضاحكة: بِـ "شاردة الذهن". إبتسَمتُ لها مُعتذرةً.

وما سمعتُه في ذلك التسجيل كان كافيًا للإيقاع بها! فكانت مهى قد أجرَت خلال النهار مُكالمات عديدة مِن بينها واحدة فضحتَها بِشكل قاطع. فهي خابَرَت إحدى صديقاتها وقالت لها:

 

ـ البلهاء راحلة بعد أيّام... كَم أمقتُها! إسمعي... ستأتين بعد ذلك إلى الشركة وتُقدّمين ترشيحكِ كموظّفة مستودع وسأدعمُ ترشيحكِ لدى المالك... تعرفين أنّه صارَ يأكل مِن يدي بعدما ذاقَ طعم جسدي اليافع... كَم أنّه ساذج! يعتقدُ فعلاً أنّني أحبُّه! هـ هـ هـ... يا للرّجال! لكن احترسي جيّدًا... لن نبدأ بأخذ البضائع إلا بعد فترة كي لا نُثير الشبهات، فيكفي أنّ الكلّ علِمَ بموضوع السرقة التي ألصقتُها بالبلهاء... أجل سنكون أثرياء قريبًا، لا تخافي... لكن علينا أن نلعَب لعبتنا بذكاء... وبعد ذلك نختفي عن الأنظار لِنصرف مالنا على راحتنا.

 

لَم آمل أبدًا أن أحصل على دلائل كهذه وشعرتُ وكأنّني بطلة فيلم أجنبيّ. ركضتُ إلى السكرتيرة وأسمعتُها الشريط وهي هنّأتني على إنجازي مُضيفةً: "لَم أتصوّر أن تصِلي إلى هذه النتيجة... لقد فاجأتِني يا صغيرتي!".

أدخلَتني السكرتيرة مكتب صاحب الشركة قبل أن يرحل إلى منزله إذ كان الوقت قد صارَ متأخّرًا. أسمَعتُه ما سجّلتُه وهو استمعَ جيّدًا. لَم يتفوّه الرجل بِكلمة واحدة بل أنا قلتُ له:

 

ـ مِن الواضح أنّني بريئة مِن تهمة السرقة وأنّ مهى دبَّرَت كلّ شيء وتنوي على ما هو أفظَع... أظنّ أنّكَ تعلَم ما عليكَ فعله سيّدي... أليس كذلك؟. لَم أثِر موضوع علاقته مع مهى وأظنُّ أنّه كان ممتنًّا مِن ذلك.

 

في صباح اليوم التالي رحتُ إلى العمل ولَم أجِد مهى التي كانت قد طُرِدَت. بدلاً مِن ذلك، وجدتُ مُذكّرة تُعيّنُني مديرة المستودع مكانها. قرّرتُ مِن تلك اللحظة أن أكون جديرة بِمركزي الجديد، وأري الشركة بأسرها أنّني عُيّنتُ بِسبب مهارتي وما هو أهمّ، بسبب نزاهتي. فالطموح مهمّ جدًّا لِنصل إلى مُبتغانا شرط أن نُحافظ على نزاهتنا.

اليوم أشكرُ أهلي على تربيتهما الحسنة لي، فبالرّغم مِن أنّهما شخصان عاديّان، فإنّهما قاما بمهمّتهما كأبوَين على أفضل وجه. وكَم هو مهمّ أن يكون الإنسان مُتصالحًا مع نفسه ويرضى بالموجود ويشكرُ الخالق على نِعَمه... شرط أن يفعل ما بوسعه لإظهار مهاراته. فالجميع يمتلكُ مهارة ما زرَعَها فينا الله بِقصد تنميَتها والاستفادة منها، لِنجعل مِن حياتنا مشوارًا جميلاً وسعيدًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button