قلبي المسكين

لحظة رأيتُ نورا، شعرتُ بأنّني أعرفُها منذ زمَن بعيد. كيف لي أن أشرحَ ذلك بكلمات بسيطة، بينما إحساسي كان أكبر وأعمق مِن أحرف لن تقدر أبدًا على إيصال ما كان في أعماق قلبي؟

إبتسمَت نورا لي، وبثانية واحدة إمتلأ فؤادي بدفء جميل ومُريح. إقترَبتُ منها ووقفتُ أنظر إليها بتعجّب وكأنّني أسألُها: "مَن أنتِ؟ مِن أين جئتِ؟ وأين كنتِ طوال حياتي؟". وهي قالَت لي وكأنّها قرأَت أفكاري: "إسمي نورا... أعمل في الشركة كسكرتيرة". شرحتُ لها بصعوبة أنّني آتٍ لرؤية المدير، صديق قديم لي غابَ عنّي لسنوات، قرَّرتُ زيارته بعد أن علِمتُ أنّه يُدير شركة إستيراد وتصدير. قادَتني نورا إلى مكتبه وبالكاد إستمعتُ إلى ما قالَه صديقي، ففكري كلّه كان مع تلك الصبيّة الجميلة الجالسة على مكتبها خلف الباب. وعندما خرجتُ مِن عند المدير، أسرَعتُ بإعطاء نورا بطاقتي الشخصيّة، طالبًا منها الإتصال بي لأنّني أريد التكلّم معها بشأن العمل.

عندما نظَرَت إلى البطاقة، إبتسمَت نورا مجدّدًا وأكّدَت لي أنّها ستتصل بي بأقرب وقت. باقي النهار كان عاديًّا، أي مليئًا بمشاكل العمل، لكن عند المساء إنتابَني خوف بأن تتراجع نورا عن وعدها لي.

عندما رنّ هاتفي وسمعتُ صوت نورا العذب، قفَزَ قلبي داخل صدري، وعادَ بي الزمَن سنوات عديدة إلى مرحلة المراهقة حين كنتُ أنتظرُ مرور جارتنا في الحَي وأرتبكُ عند رؤيتها. لماذا أثّرَت بي نورا هكذا؟ لستُ أدري ولَم أتكبّد عناء البحث في الموضوع. كان يكفيني أنّني عُدتُ أؤمِن بالحب وبوجود إمرأة قادرة على احياء مشاعري الميّتة. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ قد بلغتُ الخمسين مِن عمري ومرَرتُ بتجربة زواج فاشل لم يترك لي سوى مرارة لا توصف.

تحدّثتُ ونورا بأمور ليست مهمّة قبل أن أدعوها لتناول العشاء، شارحًا لها مدى أهميّة قبولها ومشدّدًا على جدّيّة نواياي. فكنتُ على يقين مِن أنّ صبيّة مثلها تواجه، بسبب جمالها، مضايقات عديدة، ولَم أشأ أن تعتبرَني كهؤلاء الذين يودّون فقط تمضية بعض الوقت معها. فقد كان مِن الواضح أنّ نورا هي إنسانة عاقلة وخلوقة، وقد تخاف مِن رجل يكبرها بحوالي الخمس وعشرين سنة.

 


صحيح أنّ فارق السنّ كان كبيرًا بيننا، إلا أنّني كنتُ قادرًا على إعطائها كلّ الحبّ الذي قد تطلبُه، إضافة إلى حياة رخاء تؤمّن لها مستقبلاً مؤكّدًا. فلَم أكن غبيًّا، كنتُ أعلم أنّ مالي ومنصبي سيكونان أداتَين لإقناع نورا بقضاء باقي حياتها معي، وعدَم التفتيش عن شاب يُناهز سنّها. ولم أكن أمانع إن كان رصيدي في المصرف هو هدف نورا، لشدّة ثقتي مِن أنّها ستحبّني حالما تُدرك مدى حبّي لها وترى بعَينَيها كيف أعاملها.

بدأنا نتواعد وسُرِرتُ جدًّا لتجاوبها. لم أخطئ باختيار تلك الصبيّة، فهي كانت بمنتهى الرقّة والتهذيب وتكنّ لي احترامًا كبيرًا ممزوجًا بعاطفة ظاهرة. هل كانت قد بدأَت بالوقوع في حبّي؟ ليس تمامًا، لكنّها كانت حتمًا على الطريق الصحيح.

أغرَقتُ نورا بالهدايا والمجوهرات، ورؤية إبتسامتها الخلابة كلّما فتحَت إحدى الهدايا كانت كافية لملء قلبي بالفرح. كانت حبيبتي كالطفلة التي تكتشفُ عالمًا جديدًا حيث تستطيع الحصول على ما تشاء، مهما كان.

لكن عندما عرَضتُ عليها رسميًّا أن تصبَحَ زوجتي، أبدَت نورا تردّدًا واضحًا أرعَبني. هل كانت غير متأكّدة مِن مشاعرها نحوي أم أنّها خافَت أن تقضي حياتها مع رجل سيُصبح عجوزًا بعد سنوات قليلة؟ توسَّلتُ إليها كي تشرح لي ما الذي يمنعُها مِن إعطائي إجابة صريحة وإيجابيّة، لكنّها بقيَت صامتة.

قرَّرتُ أن أمنَح حبيبتي بعض الوقت لاتخاذ قرارها، لكنّني صمَّمتُ على بقائي مثابرًا. وفي تلك الفترة بالذات، جاءَني زائر غير متوقّع إلى مكتبي، وحين عرَّفَ عن نفسه، نظَرتُ إليه بتعجّب كبير.

قال لي الرجل مِن دون مقدّمة ومِن دون أن يقبل دعوتي للجلوس:

 

ـ أنا زوج نورا وأريدكَ أن تكفّ عن رؤية زوجتي!

 

ـ ماذا؟!؟ نورا ليست متزوّجة، فنحن نتواعد منذ أشهر!

 

ـ كنتُ مسافرًا وحين عدتُ ولاحظتُ غيابات نورا، لحقتُ بها واكتشفتُ أنّها على علاقة معكَ. لِذا، أطلبُ منكَ عدَم رؤيتها مجدّدًا أو حتى الإتصال بها، وإلا...

 

ـ وإلا ماذا؟ أحبّ نورا وأريد الزواج منها ولن أتراجع! لم أصل إلى ما أنا عليه مِن مال ونفوذ مِن دون أن أخوضَ أصعب المعارك، وأنتَ لا تُخيفني!

 

ـ لن تحصل على زوجتي أبدًا!

 

ـ لو كانت تحبّكَ لمَا اختارَت غيركَ.

 

ـ ولو كانت تحبّكَ لقالَت لكَ إنّها سيّدة متزوّجة! إنّها إنسانة فاسقة وأعرف كيف أؤدّبها! ستنال ما تستحقّه!

 

ـ أمنعُكَ مِن فعل شيء قد يؤذي حبيبتي!

ـ القانون إلى جانبي يا... سيّدي. مِن الأفضل لكَ أن تتنحّى."

 


فور خروج الزوج مِن مكتبي، أسرَعتُ بالإتصال بِـنورا لأسألها لماذا أخفَت عنّي زواجها، ولأحذّرها مِن نوايا زوجها وأنصحُها بالخروج مِن البيت قبل وصوله.

لكنّ نورا لم تُجب وانشغَلَ بالي كثيرًا عليها. هل كان زوجها قد ألحَقَ الأذى بها قبل أن يأتي إليّ؟ خطَرَ ببالي أن أتّصل بالشرطة لكنّني لم أفعل كي لا أُسيء إلى سمعة حبيبتي.

إنتظرتُ يومًا بكامله قبل أن أتلقّى أخيرًا مكالمة مِن نورا. كنتُ قلقًا لِدرجة أنّني لم آكل ولم أنَم وأنا أتخايل الأفظع. كانت نورا مرعوبة إلى أقصى حدّ، وقالَت لي إنّها هرَبَت عند قريبة لها في شمال البلاد. أخَذنا نفكّر بطريقة لإخراجها مِن عصمة زواجها لكنّ الأمر كان شبه مستحيل. عندها خطَرَ ببالي شراء حريّة حبيبتي، فكما أردِّد دائمًا: "لكلّ إنسان سعره". أعطَتني نورا رقم هاتف زوجها، وأنا وعدتُها بأنّها ستكون معي ولي وفي أقرَب وقت.

حين علِمَ الزوج أنّ الذي يتّصل به هو عشيق زوجته، بدأ يُهدّد ويتوعّد بقتلي وقتل نورا بأبشع الطرق لأنّنا دسنا على شرفه. لكن حين سألتُه كم يُريد لتطليق نورا، تغيّرَت لهجته وبدأ ينسى موضوع الشرف والكرامة. كنتُ على حق، فذلك الرجل كان له سعر وباهظ، لكنّني لم أبالِ، فحبيبتي كانت لا تُقدّر بأيّ مبلغ. بعد ساعات على محادثتنا الهاتفيّة، جاء الزوج ووقّع على ورقة أعدّها لي المحامي تفيدُ أنّه يتعهّد بتطليق نورا. كان قد رفَضَ أن أحرّر له شيكًا، وشكرتُ ربّي لأنّني أتركُ مبالغ كبيرة في خزنتي. أعطَيتُه المال وذهَبَ وهو يُقبّل الأوراق النقديّة.

إتصلتُ على الفور بنورا لأزفّ إليها الخبَر، إلا أنّها لم تُجِب. أكلَني الهمّ لكنّني صمَّمتُ على تهدئة نفسي، فكانت حبيبتي ستتصل حتمًا بي فور قدرتها على ذلك. فبالرّغم مِن سنّها، كانت إنسانة ذكيّة تعرف كيف تتصرّف في أوقات صعبة كالتي تمرّ بها.

لكن انتظاري طالَ، وحين أردتُ الإتصال بنورا مِن جديد، وجدتُ هاتفها مُقفلاً. لم أكن أعلم أين تٌقيم قريبتها ولا حتى اسمها، لِذا قرَّرتُ أخيرًا طلَب مساعدة الشرطة. أخبرتُ المحقّق كلّ ما أعرفُه، وهو وعَدني بأن يجد نورا بأقرب وقت. لم يكن ليستهتر بقضيّة رجل بمركزي، فقد كانت معارفي كثيرة وقويّة.

لم يجدوا أحدًا يحمل إسم الزوج أو حتى إسم نورا في أيّ سجل أو دائرة. كان الأمر وكأنّهما لم يكونا موجودَين أصلاً. رجّحَ المحقّق أنّهما نصّابان ضحكا عليّ لأخذ مالي، لكنّني لم أكن أبدًا مِن رأيه. كنتُ متأكّدًا مِن أنّ ذلك الزوج القبيح كان قد قتَلَ حبيبتي بعد أن قبَضَ المال، ليشفي غليله منها ويغسل العار الذي لطَّخَ شرفه.

لكنّ الشرطة اكتشفَت أنّ الثنائيّ كان على تفاهم تام بعدما تحرَّت عنهما لدى جيرانهما. فقيل للشرطيّين إنّ نورا وزوجها وصلا الشقّة منذ حوالي السنة وهي وجَدَت عملاً في ذلك المكتب، وهو كسائق خاص لسيّدة مسنّة. أضافَ الشهود أنّهما كانا متّفقين جدًّا، لا يتشاجران أبدًا وأنّ الزوج لم يكن مسافرًا بل لم يبارح البلد قط.

عندها رضَختُ للأمر الواقع: لقد تلاعبَت نورا بعواطفي واستفادَت منّي ومِن هداياي، ومِن ثمّ مِمّا قبَضَه منّي زوجها. كانا قد خطّطا سويًّا وهربا سويًّا إلى جهّة مجهولة.

كم كنتُ مغفّلاً لأعتقد أنّ صبيّة ستغرَم بي هكذا! كان يجدر بي إيجاد إمرأة ناضجة تريد مشاطرة حياتي بهدوء ومحبّة بدلاً مِن أن أشبع غروري بفتاة بنصف عمري. خطئي الثاني كان أنّني اشترَيتُ حبّ نورا بجَلبي لها أثمَن ما يكون، في حين كان بمقدوري إختبار حبّها لشخصي فقط. أمّا غلطتي الثالثة فكانت أنّني لم أسأل عنها، خاصّة أنّها كانت تعمل في مكتب صديقي وهو كان على علم بأنّها متزوّجة. لكنّني لَم أذكر علاقتي بها حفاظًا على سمعتها لأنّي رجل لائق.

أخطاء دفَعتُ ثمنها غاليًا، بعد أن تحطَّمَ قلبي، وأهينَت كرامتي وخسرتُ الكثير مِن المال. وأبشع ما في الأمر، هو أنّني واثق مِن أنّني لن أحبّ مجدّدًا، وكم أنّ الدنيا بشعة مِن دون أمَل! سأعود إلى حياتي السابقة التي ترتكز على المثابرة والأعمال، وسأضَع جانبًا قلبًا خالَ أنّه سينبض مِن جديد.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button