قصة حب كبير

وُلِدتُ نتيجة زواج مُحرَّم، ليس دينيًّا لكن اجتماعيًّا، إذ أنّ أمّي وقعَت في حبّ شاب ينتمي إلى عائلة غير مرغوب بها في منطقتنا. فهؤلاء القوم مُنحدرون مِن مجموعة سكنَت الجوار منذ أكثر مِن مئة سنة وهي معروفة بنشاطاتها غير القانونيّة. في كلمة، كانوا نصّابين وسارقين ولا يتأخّرون عن ارتكاب شتّى المُخالفات، مُستعملين القوّة أحيانًا. لكن على مرّ الزمَن، إصطلَحَ أفرادها، إلّا أنّ سمعتهم بقيَت سيّئة. وكان أبي شابًّا وسيمًا وصالِحًا ولدَيه عمَل جيّد يكسبه مِن عرَق جبينه، لكنّ عائلة أمّي رفضَت رفضًا قاطعًا زواجهما، فهربا سويًّا وتزوّجا وسكَنا العاصمة حيث ولِدتُ وأخي. وفور عقد زواج أبوَيّ، أنكرَتهم العائلة ونسيَت أمرهما واعتبرَت أمّي وكأنّها ماتَت. سمعتُ أنّ جدّتي ونساء العائلة إرتدَنَ الأسود عليها وأقامَت العائلة جنازة رمزيّة!

حزِنَت أمّي كثيرًا لدى معرفتها بقدَر جدّيّة الموقِف، فهي تصوّرَت أنّ أهلها سيتراجعون يومًا ما، على الأقل لدى ولادتي، ألا يودَّون رؤية حفيدتهم الأولى؟ فعَلَ أبي جهده للتعويض لها عن خسارة ذويها، إلّا أنّ الحزن سكَنَ قلبها بشكل دائم. لا أدري إن كان سبب مرَضها هو ذلك الشعور العميق بالخذلان، إلّا أنّها ماتَت بعد صراع مؤلِم مع داء السرطان، حين كنتُ قد بلغتُ العاشِرة مِن عمري وأخي الثامنة.

بكى أبي حبّه بشكل دائم، فهو لَم يعرِف كيف يستمّر مِن دون حبيبته، فلبِستُ دور ربّة البيت في سنّ مُبكّر جدًّا، وشعرتُ أنّني صِرتُ المسؤولة عن حسن سَير حياة أبي وأخي. للحقيقة، لَم يتسنَّ لي الوقت للتفكير بخسارتي، بعد أن لبِسَ والدي رداء الحبيب المجروح والمُكتئب. فإلى جانب حزنه على فقدان أمّي، شعَرَ أنّ كلّ ما حصَل كان بسببه وعليه أن يُعاقِب نفسه.

وفي أحَد الأيّام، جاءَت الشرطة إلى بيتنا وأخذوني وأخي أثناء غياب أبينا. فقد كانت عائلة أمّي قد رفعَت شكوى ضدّه مفادها أنّه أب سيّئ، وجلبَت شهود زور أكّدوا أنّه يضربنا ويحتجزنا، وأنّ تاريخ عائلته حافِل بالمُمارسات غير الشرعيّة. إستنكرنا طبعًا، وفعَلَ والدنا المُستحيل لإسترجاعنا، لكن مِن دون جدوى. وهكذا وجدتُ وأخي نفسيَنا في بيت جدَّينا، أناس لَم نرَهم في حياتنا بل سمِعنا عنهم أمورًا قاسية وغير مُشجعة. وأوّل شيء قالَته لنا جدّتنا كان: "الآن عادَت المياه إلى مجاريها".

حياتنا عند أهَل أمّنا كانت صعبة للغاية، إذ أنّنا إنسلَخنا عن الإنسان الوحيد، بعد أمّي، الذي كان بالفعل يُحبّنا، وتعرّفنا إلى عالم مُختلف تمامًا مليء بالتشاوف والكره. فجدَّايَ عمِلا جهدهما لتلقيننا بُغضًا عميقًا تجاه أبينا، قائلين إنّه سبب موتها، وإنّ رسالتهما هي تربيَتنا كما يجب وليس على طريقة "اللصوص". مِن جهّته، بقيَ والدنا يُناضِل مِن أجلنا ويُحاول استرجاعنا، إلى حين هدأ قليلًا بعدما اصطدَمَ بحائط القانون. إنقطعَت أخباره التي كانت تصلُنا مِن حين لآخَر عبر مُحادثات سمِعناها عبر الهاتف مع أهل أمّي، ورضخنا للأمر الواقع وهو أنّنا لن نراه مُجدّدًا.

وُضعتُ وأختي في مدرسة خاصّة وسط أولاد لا صلة لنا بهم، وقضَينا وقتنا مع ذوي أمّي لنتعلّم "الأصول". مرَّت السنة ثمّ الثانية، وبقينا حزينَين بالرغم مِن المُغريات التي قُدِّمَت لنا لننسى والدنا.

وفي أحَد الأيّام، لدى خروجنا مِن المدرسة، جاءَت إلينا إمرأة لا نعرفُها وهمَسَت لنا: "هيّا، بسرعة! أبوكما بانتظاركما!". رافقنا تلك السيّدة وركبنا معها سيّارتها وهي قادَتنا إلى منطقة بعيدة. طوال الطريق، هي بقيَت تنظرُ بالمرأة لترى إن كان أحَد يلحقُ بنا، وأعترفُ أنّني شعرتُ بالخوف. لكنّ حماسي لرؤية أبي كان كافيًا لتطميني، وأتذكّر أنّني، ولأوّل مرّة في حياتي، ذرفتُ دموع الفرَح. لدى وصولنا إلى ذلك البيت القديم والبعيد عن كلّ شيء، بقيتُ في السيّارة مع أخي الذي كان مُمسِكًا بيَدي. ترجَّلَت المرأة ودخَلت ذلك البيت... لتعودَ مع أبي! هو ركضَ إلينا مُناديًا بإسمينا ونحن ركضنا إليه. تعانقنا لدقائق طويلة وقبّلَنا أبونا مئة قبلة باكيًا. دخلنا البيت حيث كانت مائدة مليئة بالمأكولات تنتظرُنا. أكلنا بينما أخبَرنا والدنا كلّ ما مرَّينا به في بيت جدَّينا. هو استمَعَ إلينا بصمت وبقيَ يهزّ برأسه حزنًا علينا.

جلسَت المرأة معنا وهي الأخرى بقيَت صامِتة فسألتُ والدي مَن تكون، فخفتُ أن يكون قد تزوّجَ مُجدّدًا. لكنّه طمأنَني قائلًا: "إنّها زوجة إبن عمّي، فبما لَم أكن قادِرًا على جلبكما مِن المدرسة خوفًا مِن أن يتعرّف أحَد عليّ، إختَرتُ امرأة بدلًا منّي كي لا ألفتُ الأنظار وكَي لا تخافا لو أتى رجُل إليكما". إبتسَمتُ للمرأة بعد ان اطمأنّ بالي، وسألتُ أبي عمّا سيحصل لاحقًا، أيّ بعد أن يستوعِب أهل أمّي أنّه خطفَنا، وهو قال:

ـ لن يأتي أحَد إلى هنا، فالمنطقة محروسة مِن قِبَل أقاربي، وهذا البيت بالذات هو مُنعزِل تمامًا ويقَع خلف الجبَل. على كلّ الأحوال، لدَيّ خطّة، فلن نبقى هنا مُطوّلًا. فخلال السنة التي فاتَت دبَّرتُ كلّ شيء."

نمنا في الليلة كلّنا في سرير واحِد، بعدما عادَت المرأة إلى زوجها، وأعترِف أنّني لَم أنَم بهكذا طمأنينة منذ ما بدأ مرَض أّمّي الحبيبة.

مرَّت أيّام عديدة لَم نخرج خلالها إلى أيّ مكان، بل جاء أشخاص ينتمون إلى عائلة أبي ليجلبوا لنا الطعام وملابس لي ولأخي. أحبَبتُ هؤلاء الناس، لأنّهم كانوا بسطاء ويُحبّوننا بالفعل، وقد رأيتُ ذلك على وجوههم ومِن تصرّفاتهم. رأيتُ أيضًا كيف كانوا يحملون مُسدّسات على وسطهم. وشرَحَ لي أبي أنّهم مُستعدوّن للدفاع عنّا مهما كلَّفَ الأمر. ومع أنّني كنتُ أخاف مِن المُسدّسات، شعرتُ بالأمان وبيقين تام بأنّ هؤلاء الرجال لن يتخلّون عنّا.

ثمّ جاء وقت الرحيل، فخرجنا وأمتعتنا من المنزل وأوصلنا أحَد الأقارب إلى المرفأ الموجود بعيدًا مِن حيث كنّا. قادَ الرجُل بسرعة فائقة إلى حين وصلنا الباخِرة التي كانت تنتظرُ الركّاب. كان قلبي يدقُّ بسرعة وسألَني أخي مئة مرّة إن كنتُ مثله خائفة فأجبتُه بأنّنا بأمان.

صعدتُ وأخي إلى الباخِرة برفقة والدنا، ورحنا إلى غرفتنا الصغيرة لكنّ ابانا قال لنا:

ـ ستكونان بخير... عليّ تركَكما الآن... لا تخافا! وصلَني أنّ رجال الشرطة يبحثون عنّي، وقد يصلون المرفأ بين لحظة وأخرى... لَم أُسجِّل نفسي على متن هذه الباخرة بل على أخرى ستصل بعد فترة... سيكون إبن عمّي معكما طوال الوقت وأريدُكما ان تعتبراه وكأنّه أنا.

 

بدأنا بالبكاء وتمسّكنا به حين خرَجَ مِن الغرفة، لكنّه عادَ وقالَ: "لن أتخلّى عنكما أبدًا. هل تسمعاني؟ أبدًا! ليُرافقكما الله".

 

غابَ والدنا عن أنظارنا ليأتي قريبه بعد دقائق مُحمّلًا بالسكاكِر والأطايب. كانت الرحلة طويلة بالنسبة لنا، ولَم نستطع أن نأكل شيئًا مِن كثرة حزننا وخوفنا. علِمنا أنّنا نُسافِر على اسم إبن عمّ أبي الذي طلَبَ منا أن نتصرّف وكانّنا ولَداه لو أوقفنا أحَد. لكن ما مِن أحَد اعترضَنا. نزلنا مِن الباخِرة وقصدنا فندقًا في وسط البلَد.

للحقيقة، ظننتُ أنّنا لن نرى والدنا مُجدّدًا، لأنّ غيابه طالَ كثيرًا، وعلِمنا أنّه فضَّلَ عدَم أخذ الباخِرة التالية لإبعاد الشبهات قدر المُستطاع، بل سافَرَ برًّا عبر الحدود ليأخذ باخِرة مِن حيث هو. كان مِن الواضِح أنّ الحنكة التي ورثها مِن عائلته كانت مُفيدة له ولنا، وخاصّة مُساعدة أقاربه الذين كانوا يعلمون كيف يتجاوزون القانون. فلو كان إنسانًا مُتحدّرًا مِن عائلة عاديّة، لكنّا لا نزال عند جدّينا، وأنا مُتأكّدة مِن أنّنا لَم نكن لنرى والدنا قبَل سنوات عديدة، أو أبدًا.

دخَلَ والدنا غرفة الفندق حيث كنّا ننتظر منذ فترة طويلة، وأطلقتُ وأخي صرخة فرَح عالية: "بابا! بابا!" وارتمَينا في حضنه. شكَرَ أبي قريبه الذي غادَرَ على الفور ليعود إلى البلَد. كنّا أخيرًا بأمان وبشكل دائم!

مكَثنا في ذلك البلَد الذي فتَحَ لنا ذراعَيه، وتمكَّنَ أبي مِن العمَل فيه لأنّه كما قال، كان قد دبَّرَ كلّ شيء خلال تلك الفترة التي كان بعيدًا عنّا بعد استرجاع جدَّينا لنا.

هو كان بطلاً بالفعل، بطلنا، العاشِق الدائم لأمّي. هو لَم يتزوّج أبدًا مِن غيرها بل بقيَ يذكرها كلّ يوم كَي لا ننساها.

لَم نسَمع مِن أهل أمّي على الإطلاق، ولا أعلَم إن كانوا قد بحثوا عنّا، ولا أُريدُ أن أعلَم. فهم لَم يُحبّوا أمّنا، بل كانوا حريصين أكثر على سُمعة العائلة، حتّى لو عنّى ذلك نكران ابنتهم وخطفنا مِن أبينا. أين رحمتهم؟

توفّيَ أبي بعد أن تزوّجتُ وكذلك أخي، وأنجبتُ إبنتي الجميلة التي أعطَيتُها إسم أمّي. عندها قال والدي الذي كان مريضًا: "الآن أستطيع العودة إليها، فلقد طالَ انتظارها. ستكونين بخير أنت وأخوكِ... لتكن حياتكما جميلة وسعيدة".

هذه هي قصّتي، قصّة حبّ كبير بين شخصَين كان يُفرّقهما كلّ شيء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button