قررت أن أنهي حياتي، ولكن...

سمعتُ جملة "إحمدي ربّكِ أنّكِ لم تموتي" مئة مرّة بعدما وقعتُ ضحيّة حادث سيّارة وفقدتُ استعمال رجليَّ. صحيح أنّني لم أزل على قيد الحياة، ولكنّني طلبتُ الموت ولا العيش طوال عمري في كرسيّ متنقّل.

في تلك الليلة الملعونة، كنتُ عائدة بصحبة صديقاتي مِن حفل زفاف وكان الجوّ مُفعم بالفرح والبهجة. ولكنّ شاحنة مسرعة إصطدمَت بنا فقُتِلَت السائقة على الفور وأصبتُ مع صديقتي الأخرى بكسور عديدة. الفرق بيني وبينها أنّ الاصابة كانت في عامودي الفقري وأنّني كنتُ سأبقى مشلولة حتى آخر أيّامي بينما هي تعافَت بعد أسابيع.

كنتُ آنذاك في السابعة والعشرين مِن عمري وكانت الحياة تبتسم لي.

وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، فقد تخلّى عنّي إبراهيم خطيبي الذي كان ينوي الزواج منّي بعد أقل مِن سنة. بعد الحادث، بدأت تشحّ زياراته لي واتّصالاته حتى أنّه قرَّرَ السفر إلى الخارج للعمل أو بالأحرى ليهرب منّي. لم يجد حتى الشجاعة اللازمة ليُودّعني واكتفى بالإختفاء مِن البلد. ومعه اختفى كلّ ما عرفته مِن قبل لتحلّ محله حياة جديدة مليئة باليأس والتحدّيات.

وتعلّقتُ بالمهدّئات كي لا أرى وجوه أهلي الحزينة وعيونهم التي كانت تمتلئ بالدمع كلّما نظروا إليّ أواجه صعوبات حياتي اليوميّة. فأبسط الأمور أصبحَت مستحيلة بالنسبة إليّ.

سألتُ نفسي مرارًا لماذا حصل لي ذلك وليس لأحد غيري. هل كان ذلك عقابًا الهيًّا أم صدفة؟ وأرَدتُ إنهاء حياتي لأنّني لم أكن مستعدّة لمواصلتها على هذا الشكل. فقرّرتُ ترك عملي كمحامية وعدم رؤية زملائي أو عملائي إستعدادًا لترك الدنيا.

 


وفي ذات يوم، عندما كنتُ لوحدي في البيت، شعرتُ بالحاجة إلى الخروج إلى الحديقة لكثرة ضيق صدري. فأنا لم أرَ تلك الحديقة منذ حادثي بالرّغم أنّها كانت مكاني المفضّل منذ صغري حيث كنتُ أذهب للعب ولاحقًا للقراءة والدّرس. وقدتُ كرسيّ على الممر الضيّق، وإذ ببحصة تعترض طريقي وتقلب الكرسيّ. وبلحظة وجدتُ نفسي أرضًا.

بدأتُ أنادي لأيّ كان آملة أن يسمعني أحد. وعندما أدركتُ أنّني كنتُ فعلاً لِوحدي بدأتُ أصرخ كالمجنونة. وبعد حوالي عشر دقائق قرّرتُ النهوض. إرتكزتُ على يدَيّ المجروحَتين وبدأتُ أرفع جسمي لأرى أين أصبح الكرسيّ. ولِحسن حظّي لم ينقلب بل رماني بعيداً فقط. وحسبتُ المسافة التي تبعدني عنه ورأيتُها مقبولة. وبدأتُ أزحف وأصرخ مِن ألم يدَيّ حتى وصلتُ إلى الكرسيّ. أحكمتُ الفرامل وبدأتُ أصعد عليها بتأنٍّ خوفًا مِن أن أدفعها بعيدًا عنّي أو تنقلب. لا أدري كم مِن وقت لَزِمني لاستعادة مكاني على الكرسيّ، ولكنّني نجحتُ بالجلوس. ولأوّل مرّة منذ الحادث إرتسمَت بسمة على وجهي بسمة الإنتصار.

شعرتُ بالقوّة وبنوع مِن الاستقلاليّة بعدما اعتدتُ على مساعدة الجميع لي. وعدتُ إلى المنزل لأغسل الدماء عن يدَيّ وأضع المطّهر عليهما. ومِن حسن حظّي أنّ علبة الإسعافات الأوليّة كانت بمتناول يدي. وعندما عادَ أهلي ورأوا يدَيّ، بدأوا بالصراخ لأنّهم ظنّوا أنّني نائمة وأنّهم سيعودون قبل أن أستفيق.

وأقسمَت أمّي أنّها لن تخرج مجدّدًا مِن المنزل وتتركني لوحدي، لكنّني قاطعتُها قائلة:

 

ـ لا! لقد حميتموني أكثر مِن اللازم! حان الوقت كي أهتمّ بنفسي... لست طفلة، والذي حصل لي اليوم أعادَ إليّ شجاعتي وجعلَني أرى إلى أي مدى أعتمدت على الآخرين... كنتُ مرتاحة بآلامي وأبكي على نفسي... كنتُ غارقة في شلل مِن نوع آخر، شلل الإرادة وحب الحياة... تمنّيتُ الموت... نعم... ولكنّ حياتي لم تبدأ بعد... جاء حادث وغيّر مسارها ولكنّه لم ينهِها... إن كنتم تحبّوني فتصرّفوا معي كما كنتم تفعلون مِن قبل.

 

وفي ذلك اليوم بدأت حياتي الجديدة.

أقام أهلي التجهيزات اللازمة في البيت كي أستطيع الوصول إلى كلّ شيء بدون أن يساعدني أحد. وسيّارتي التي بقيَت في المرآب طول كلّ تلك الفترة، تمّ تعديلها كي يتسنّى لي قيادتها مِن دون استعمال الرّجلَين. وفي هذه الأثناء، قمتُ بالتمارين اللازمة لتقوية ذراعَيّ.

وبقيت لي مرحلة واحدة لأجتازها وهي العودة إلى العمل. وحين دخلتُ مكتب المحاماة، إستقبلَني زملائي مصفّقين. لم أعد أخجل مِن نفسي بل صرتُ فخورة بِنجاحي في التغلّب على اليأس والإستسلام.

 


ووجَدَ الجميع أنّني بتُ أكثر نضوجًا وهدوءاً بعدما أدركتُ قيمة الحياة وكل ما لدَينا مِن طاقات.

وفي ذات يوم، إتّصل بي إبراهيم. وأنا عندما رأيتُ إسمه على شاشة جوّالي، لم أكن واثقة من أنّني ساردّ عليه بعدما فعلَه بي. ولكنّني أردتُ أن أثبتَ له أنّني بأفضل حال، لِذا قرّرتُ الإجابة:

 

ـ نعم؟ 

 

ـ شكرًا لأنّكِ أجبتِ.

 

ـ مِن حظّكَ أنّني في مزاج جيّد اليوم... أرى أنّكَ في البلد.

 

ـ أجل وأحتاج رؤيتكِ... هناك أمور أريد مناقشتها معكِ.

 

ـ تريد أن تراني؟ أنسيت أنّني مخلوقة مسكينة مربوطة إلى كرسيّ متنقّل؟

 

ـ لا لزوم لهذا الكلام... أحتاج رؤيتكِ... عليّ أن أشرح لكِ... أرجوكِ!

 

وقبِلتُ أن أراه. ولحظة إقفالي الخط، عادَت إليّ ذكريات علاقتي معه. سمعتُ أصوات ضحكاتنا وهمساته في أذني وحتى طعم قبلاته. وسألتُ نفسي إن كنتُ لا أزال أحبّ ابراهيم، فبسبب انشغالي بإعادة بناء نفسي كنتُ قد نسيتُ أمره. واعتبرتُ هذا اللقاء وكأنّه جزء مِن علاجي وأنّ عليّ إقفال هذا الموضوع بصورة نهائيّة.

عندما التقينا في المقهى، أمسك بيدي وقال لي بصوت راجف:

 

ـ عندما تعرّضت لذاك الحادث إنقلَبت حياتي مع حياتكِ... كنتِ مُفعمة بالفرح والحركة... لم أخجَل بكِ ولم أهرب... ولكنّني شعرتُ بالضعف والعجز أمام فظاعة الحدث وكأنّني كنتُ الذي أصيب بالشلل... بكلّ الأحوال كنتُ أعلم أنّكِ لن تتقبّلي فكرة أن أشفق عليكِ وكنتِ ستطرديني حتمًا... أعرفكِ جيّدًا... وهاجرتُ وأدركتُ أنّه لم يكن يجدر بي ترككِ لِوحدكِ... وها قد عدتُ ولن أرحل مجدّدًا... أحبّكِ كثيرًا ولستُ مستعدًّا للعيش مِن دونكِ بعد الآن، فلقد تعذّبتُ كثيرًا بعيدًا عنكِ... يُمكنكِ شتمي أو صفعي حتى، لن أبالي، فأنا أستحقّ ذلك ولكن إعلمي أنّني لن أتراجع... لا تقولي شيئًا الآن... فكرّي... خذي وقتكِ... فلدينا الحياة بأكملها وستكون أجمل بكثير إن أمضيناها سويًّا.

 

لم أتّخذ قرارًا بعد، ولهذا السبب طلبتُ أن تُكتَب قصتّي وأن تُنشَر كي أستمع إلى نصائح الناس وأستمدّ منهم القوّة اللازمة لترك إبراهيم أو للعودة اليه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button