أعلَم تمام العلم أنّ لحياتي قيمة كبيرة، وأنّ ولادتي كان مُخطّطًا لها قَبل سنوات كثيرة، وكان لا بدّ لي أن أُبصِر النور مِن والِدَين مُحدّدَين. أعلَمُ ذلك لأنّ قصّة والدَيّ تُشير إلى ضرورة لقائهما وزواجهما، فكلّما أخبرتُها لأحَد، ألقى ردّة فعل تدلّ على الذهول والدهشة. لا أقولُ إنّني مُميّز، فقد يجِد الكثير أو البعض منكم أنّه أيضًا وليد "صدفة مُدبَّرة"، وأنّ لا شيء يحدثُ مِن تلقاء نفسه، بل يتبَع سيناريو رُسِمَ بين النجوم مِن قِبَل فنّان عظيم. هل أنّه يرسُم بداية قصّتنا، ويتركنا نُقرِّر الباقي، أمّ أنّ تفاصيل حياتنا، حتى أصغَرها، هي منحوتة على صفحات التاريخ؟ لستُ أدري. لن أطولَ التشويق، فإليكم قصّة أمّي وأبي:
لا شيء كان ليجمَع بين أبوَيّ، فأمّي وُلِدَت وكبرَت في بلدة صغيرة في الريف، وأبي في العاصمة الكبيرة والمُكتظّة قَبل أن يأخذه أبوه وباقي العائلة إلى الولايات المُتحّدة. هناك تلقّى والدي التعليم الابتدائيّ والتكميليّ، قَبل أن يُتابع الصفوف الثانويّة في البلَد، بسبب فشَل أبيه في عالَم قاسٍ هو عالَم الأعمال. عادوا مِن دون أيّ قرش، فلَم يتسنَّ لهم أن يسكنوا في العاصمة كالسابق، لِذا إختاروا مكانًا صغيرًا وهادئًا بعيدًا عن المصاريف الباهظة، وكلّ مَن بإمكانه التعرّف على جدّي والشماتة به: بلدة أمّي الصغيرة. في تلك الأثناء، كانت أمّي وأهلها قد تركوا البلدة ليقصدوا العاصمة، بحثًا عن فرصة عمَل واعدة لجدّي الآخَر. وهكذا لَم يلتقِ دَربا والدَي بفارق وقت صغير للغاية، أعني أيّام قليلة!
مرَّت السنوات وماتَ والِد أبي، فقرَّرَ هذا الأخير أن يأخَذَ دوره كالابن الأكبر ذريعة للعودة إلى مكان عرَفَه وهو صغير وأحبَّه، فكان فيه حركة، وناس، ووعود وآمال. ودَّعَ أمّه وأخوَته ودخَلَ الجامعة في العاصمة، وبالتحديد كلّيّة الحقوق، ووجَدَ عمَلًا يُمكِّنه مِن العَيش وإرسال بعض المال لعائلته التي بقيَت في البلدة. في تلك الأثناء، تركَت والدتي كلّيّة الحقوق نفسها بعد سنة مِن دخولها، لأنّها لَم تُحبّ هذا الاختصاص، لِتتسجّل في كلّيّة إدارة الأعمال. فالجدير بالذكر أنّ والدتي تكبُر والدي بسنة على التمام. ومرّة أخرى، لَم يلتقِ درباهما، وكأنّ لَم يكن عليهما أن يلتقيا... أو العكس!
تخرّجَت والدتي وبدأَت العمَل في شركة تجاريّة، وبعد سنة حصَلَ أبي على شهادته في الحقوق والتحَقَ بِمكتب مُحاماة. بعد ذلك، لَم يحدث شيء يُذكَر، سوى أنّ كلّ واحد منهما تزوّجَ مِن جهته وتابَعَ حياته، مِن دون أن يعرِف أنّ لقاءهما كان محتومًا منذ البدء.
أجهضَت والدتي ثلاث مرّات، وزوجة أبي كانت عاقرًا، ربّما لأنّ كان عليّ أنا أن أولَد منهما، مَن يدري؟ زوج أمّي بدأ يُسيء مُعاملتها، بعد أن اعتبرها "غير نافِعة" بإعطائه ذريّة، وكأنّ الأمر عائدٌ لها. هو لَم يُفكِّر، ككلّ الرجال الأنانيّين، كَم كانت تُعاني في كلّ مرّة مِن فقدان جنينها، وتغرَق في الكآبة إلى حين تحمَل مُجدّدًا وتتعَس أيضًا مُجدّدًا. مِن جهته، لَم يتأثّر أبي كثيرًا كَون زوجته عاقِرًا، لكن هي مَن وجَدَ صعوبة بتقبّل الأمر. فالكثير مِن النساء يجِدن أنفسهنّ "ناقِصات" إن لَم تُنجِبنَ، أو تعتقِدنَ أنّ الهدف الوحيد مِن الزواج هو إنجاب الأولاد، وليس العَيش مع رجُل طيّب وخلوق بتناغم ووفاق. بكلِمة، زواج والدَيّ كان فشَلًا ذريعًا... أدّى إلى لقائهما أخيرًا.
فحياة أمّي مع زوجها صارَت لا تُطاق، إذ شعرَت بالوحدة مع إنسان مُتنمِّر ودائم الغياب. وهي شكَّت أنّ له عشيقة أو حتّى زوجة أخرى، ورأت أنّه مِن الأفضل لو يُطلِقّا وتتحرَّر مِن ذلك الشعور الدائم بالإخفاق بالنسبة للذي ربطَت حياتها به. لِذا هي قصدَت المكتب الذي يعمَل فيه أبي... بعد أن مرَّت بالقرب منه، يوم هي أضاعَت طريقها ودخلَت بالصدفة شارِعًا لَم تكن تعرفه. كانت المسكينة في حالة نفسيّة يُرثى لها، حين هي طلبَت مِن عاملة الاستقبال رؤية مُحامٍ لِترفَع قضيّة طلاق ضدّ زوجها. إستغربَت العامِلة، إذ أنّ موكّليهم يأتون إليهم عادةً بعد أخذ موعد منهم عبر الهاتف أو بواسطة شخص آخَر، فلا يدخلون المكتب صدفة. لكنّها إتّصلَت بمكتب مُحامٍ كبير في السنّ وهو استقبَلَ أمّي واستمَعَ إليها، لكنّه وجَدَ أنّ قضيّتها سهلة وعاديّة للغاية ولا تُناسِب خبرته الطويلة ومسيرته الناجِحة. لِذا أخَذَ هاتفه وخابَرَ أبي في المكتب القريب، وقالَ له إنّه سيبعَث له بعد دقائق قضيّة "تُناسِبه تمامًا". هو قال ذلك بازدراء لأنّه اعتبَرَ أنّ والدي ليس مِن مُستواه، بل أنّه محامٍ ذو قدرات محدودة، لكنّه لَم يعلَم أنّه كان بالفعل أداة قدرٍ بقيَ يُحاوِل جَمع اثنَين منذ سنوات طويلة.
دخلَت أمّي مكتب أبي، ووقَفا للحظات يُحدّقان ببعضهما وكأنّ الزمَن توقّفَ، ولاحقًا قالوا عن تلك اللحظات شيئًا جميلًا للغاية: "كان الأمر وكأنّهما تعرّفا على بعضهما مِن دون معرفة، وكأنّ الشخص المُقابِل هو مألوف لِدرجة لا يمكن تجاهلها".
جلَست أمّي أخيرًا تقصُّ على مُحاميها الجديد ما تريدُه منه ولماذا. إستمَعَ إليها والدي، وتمنّى ضمنيًّا لو هو الآخَر يستطيع أن يُطلّق زوجة التي لَم تعُد المرأة التي تزوّجَها، بل إنسانة مليئة بالامتعاض والغضب. وقَبل أن تترك أمّي المكتب، قالَت لأبي:
ـ أتعلَم شيئًا؟ كنتُ قد بدأتُ إجازة محاماة لكنّني بدَّلتُ رأيي.
ـ حقًّا؟ في أيّة كلّيّة؟
ـ تلك التي في العاصمة قرب الجامع.
ـ أنا خريّج هذه الكلّيّة! يا للصّدف! إلتحَقتُ بالجامعة لأهرب مِن تلك البلدة المُمِلّة.
ـ أيّة بلدة؟
ـ تلك التي تقع في الشمال قرب النبع العالي.
ـ إنّها بلدتي! ترَكناها أيضًا منذ زمَن!
وبدأ والِداي بمُقارنة التواريخ، واستنتَجا أنّ طريقَيهما ظلّا يفترقان منذ صغرهما بسبب أحداث خارجيّة. حتّى أمر عدَم إنجابهما كان مُثيرًا للعجَب، وكيف وجَدت أمّي المكتب بعدما تاهَت في الشارع وأوكَلَ المحامي الآخَر قضيّتها لوالدي. سكَتا مُطوّلًا وهما ينظران إلى بعضهما، ثمّ قال أبي:
ـ حين دخلتِ منذ ساعة مكتبي، شعرتُ وكأنّني لست فقط أعرفُكِ، بل أنّكِ الشخص الذي يُكمّلُني...
ـ أنا أيضًا شعرتُ بذلك.
ـ وشعَرتُ براحة قلب عجيبة...
ـ وأنا كذلك.
ـ وتذكّرتُ أنّ لي زوجة...
ـ ربّما ليس مكتوبًا لنا أنّ...
ـ بالعكس، أنظري إلى الدلائل! اليوم فقط تلاقى مصيرانا وأظنُّ أنّها فرصتنا الأخيرة.
ـ ولكن... ماذا عن زوجتكَ؟ لن أقبَل بأن أقضي على زواج أحَد، أو أُسبِّب الأسى لأيّ إنسان. لا، يا أستاذ، لستُ مِن هذا النوع. أظنّ أنّ مِن الأفضل أن أبحَث عن مُحامٍ آخَر.
خرجَت أمّي مِن المكتب والدّمع يملأ عَينَيها، لأنّها أحسَّت أنّها فقدَت نصفها الآخَر وأنّها لن تجِد الحبّ والسعادة بعد ذلك. ويروي لي أبي أنّه بكى لوحده في المكتب، لأنّه أدركَ أنّ حياته ستكون تعيسة حتّى آخِر أيّامه بعد أن خسِرَ أمّي.
مرَّت الأشهر ولَم ترَ أمّي مُحاميًا آخَر، فما النفع مِن الطلاق إن كانت ستعيش مِن دون الحبّ الذي تراءى لها لساعة واحدة. واتّضَحَ لها أنّ زوجها كان بالفعل مُتزوِّجًا عليها وهي قبِلَت بالأمر الواقِع. مِن جانبه، تحمَّلَ أبي العَيش مع زوجته، فلَم يعُد يهمّه شيء سوى عمَله... والتفكير بأمّي التي ملأ خيالها فكره ليلًا نهارًا. لكن في أحَد الأيّام، وبعد أن ضاقَت الحياة بأبي، جلَسَ مع زوجته ودارَ بينهما حديث جدّيّ للغاية، وهي اعترفَت له أنّها ليست سعيدة معه وتودّ لو ينفصلان، فشعورها بالفشَل في ما يخصّ الإنجاب استحوَذَ على عقلها وكيانها، ورأت أنّ الحلّ الوحيد هو الابتعاد الكلّيّ والبدء مِن جديد. كانت تلك المرأة قد دبَّرَت سفَرًا إلى الخارج عند قريبة لها، وتنتظرُ الوقت المُناسِب لاطلاع أبي على ما في بالها. أمّا هو، ولدى سماعه ذلك، فكَّرَ فورًا بأمّي وتمنّى لزوجته التوفيق. تطلَّقا بسرعة فائقة، وأوّل شيء فعلَه والدي لدى صدور الأوراق الرسميّة كان الاتّصال بأمّي قائلًا: "هيّا إلى مكتبي، فلَم يفُتنا القطار بعد. إليكِ ما جرى، وبإمكانكِ التحقّق مِن الأمر بنفسكِ فأسباب طلاقي واردة في تقرير الطلاق!".
وبعد ساعة على التمام، كانت والدتي جالِسة أمام الذي سيُصبِح زوجها، لِيَبدآ معاملات كانت ستجمعهما أخيرًا.
جرَت تلك الأحداث منذ ثلاثين سنة، وحمِلَت أمّي بي منذ أوّل مُحاولة، أيّ أنّها لَم تجهض كالمرّات السابِقة مع زوجها الأوّل، ووُلِدتُ وكبرتُ وسط أبوَين يُحبّان بعضهما لدرجة لا توصَف. فكلّ ثانية مرَّت بينهما كانت مليئة ليس فقط بالحبّ، بل بالتفاهم التام وبتناغم يحلمُ به كلّ ثنائيّ. لَم يتشاجَرا ولو مرّة واحدة ولَم يخذُل الواحِد الآخَر. كبرتُ وأنا أسمَع قصّتهما، ووجدتُ، كما ذكرتُ في بداية قصّتي، أنّ ولادتي كانت مُهّمة بشكل مِن الأشكال، على الأقلّ بالنسبة لِما قرّرَه القدَر. لِذا أخذتُ على عاتقي أن أكون دائمًا إنسانًا شريفًا ونزيهًا. هلَ أنّ لوجودي دورًا مُعينًّا أو أنّني تتويج لعلاقة أرادَها القدَر أن تحدُث منذ البدء؟ لستُ أدري. على كلّ الأحوال، تعلّمتُ أن أنتبِه لعلامات القدَر الموجودة مِن حولي، والتي لا نراها لكثرة انشغالنا بمشاكلنا اليوميّة، لكنّها موجودة بالفعل، فلا شيء يحدُث مِن دون سبب. قد يقولُ البعض إنّني أُبالِغ، وأرى الأمور مِن زاوية مُعيّنة وأعطيها تفسيرات غير منطقيّة، لكنّني مُقتنِع بنظريّتي تمام الاقتناع. يكفيكم أن تنظروا كيف أنّ أحداث حياتكم مُترابِطة ببعضها، وكيف أنّ خياراتكم أوجدَتكم حيث أنتم، وكيف أنّكم لو أخذتم خيارات أخرى لكنتم الآن في مكان آخَر، ربّما أفضل.
قولوا لي، هل مِن أحَد غيري انتبَه إلى مُخطّط القدَر، وأختبَرَ شيئًا قريبًا مِن قصّة والدَيّ؟
حاورته بولا جهشان