قدر مزدوج

هذه قصّة أحَد مرضايَ والذي إسمه عفيف. لستُ أدري إن كانت كلمة "مريض" في محلّها، فهو بالحقيقة لَم يكن يُعاني مِن شيء سوى ظواهر مرض غير موجود. كلّ شيء كان يدلُّ على تشميعٍ في الكبد، لكن بعد إجراء كل الفحوصات والصوَر المُمكنة، إتضحَ أنّ الرجل بصحّة مُمتازة! حيّرَني الأمر كثيرًا وخلتُ طبعًا أنّ سبب تلك العوارض هو نفسيّ، فأحَلتُه إلى زميل لي الذي قال لي مُندهشًا: "الشخص الذي أرسلتَه إليّ بحالة نفسيّة أفضل مِن حالتي! هل هذه دعابة مِن جانبكِ؟". إحترتُ لأمري فسألتُ عفيف عن رأيه بحالته، كونه هو الآخر طبيبًا. فإبتسَم هازًّا برأسه وقائلاً:

 

- جئتُ إليكِ شكليًّا يا دكتور، فقط لأنّني رجل علم وأُفضّلُ المنطق على أيّ تفسير آخر، لكنّ الواقع صعب التصديق. سأخبرُكِ بكلّ شيء:

أنا لستُ خائفًا مِن الموت، صدّقني، مع أنّ المنيّة باتَت قريبة وتنتظرُني في كلّ لحظة. هل أنا مُصابٌ بداء ما؟ أبدًا. إلا أنّني مُتأكّدٌ مِن أنّني راحل مِن هذه الدنيا قريبًا جدًّا. فيوم وُلدتُ، ترافقَت صرخَتي الأولى مع صرخة ثانية أطلقَها نجيب، أخي التوأم، وتفاجأَ الجميع بهذه الولادة المُزدوجة. فآنذاك لَم يكن هناك مِن طرق لمعرفة حالة الجنين سوى بالوسائل التقليديّة مِن قِبَل الطبيب أو الداية.

شعرتُ بدفء شديد منذ أيّامي الأولى، ليس فقط بفضل حنان أمّي، بل لأنّ إنسانًا آخر كان بجانبي منذ تكويني وطوال حياتي. فقد كنّا توأمَين مُطابقَين، أيّ أنّنا شخص واحد مقسوم في جسدَين. ولا يعرفُ تمامًا ماذا أقصدُ بذلك، إلا التوأمان.

كانت لنا طفولة سعيدة وسط والدَين مُحبَّين، وأهل أحاطوني وأخي نجيب بالحبّ والكثير مِن الهدايا. كانت حياتي كاملة، وأذكرُ أنّني سألتُ نفسي يومًا إن كان هناك مِن شيء أُريدُه أكثر مِن ذلك، فكان الجواب لا.

حين بلَغنا الثامنة عشرة مِن عمرنا، أرادَ نجيب السفَر إلى الولايات المُتحّدة لدخول الجامعة هناك والتخصّص بالطبّ. لَم أكن مِن رأيه في ما يخصّ السفَر، وكانت تلك أوّل مرّة لا نُريدُ الشيء نفسه.

 


للوهلة الأولى، لَم أُدرِك أبعاد رحيل نصفيَ الآخر عنّي، فكنتُ أتوقُ لبعض الإستقلاليّة بعدما قضيتُ حياتي مقرونًا بأخي مِن حيث الشكل والشخصيّة، وأظنُّ أنّ نجيب هو الآخر أرادَ اختبار الدنيا لوحده، فرَحَلَ إلى القارّة الأمريكية ليجِد نفسه.

دخلتُ أنا أيضًا كليّة الطبّ في العاصمة، لِذا عشتُ في حرَم الجامعة وصارَ لي أصدقاء، الأمر الذي أعجبَني كثيرًا. وأعترفُ أنّني نسيتُ لفترة قصيرة أمر أخي التوأم.

أمّا نجيب، فمِن ناحيته كان قد استوعَب أنّه صارَ بعيدًا للغاية عنّي وعن أهلي وبلدنا، فانكبَّ على دراسته حابسًا نفسه في ستوديو إستأجرَه للعَيش فيه. كنّا نتكلّم عبر الهاتف ولمستُ مِن صوته نوعًا مِن الكآبة. إلا أنّه لَم يُفصِح عن مشاعره كَي لا يُزعجني ويؤثّر على مُتابعتي لِعلمي.

وذات يوم، وأنا برفقة أصدقائي الجدد، وقعنا ضحيّة حادث سَير تسبَّبَ لي بكِسر في الذراع. حمدتُ ربّي على أنّ الأمر لَم يكن بليغًا واتّصلتُ بأخي في اليوم التالي لأخبره بما حصَلَ، فتفاجأتُ به يروي لي ظروف كَسر ذراعه هو الآخر! لَم أُصدّق أذنَيَّ! بالطبع ردَدنا الأمر إلى صدفة غريبة ونسينا الموضوع. لَم أُطلِع والدَيّ على ما أصابَ نجيب كي لا ينشغل بالهما بسبب بُعده عنهم ونسيتُ الموضوع. إلا أنّ شوقًا كبيرًا لأخي إستفاقَ في صدري فطلبتُ منه أن يأتي إلى البلد لقضاء الفرصة الصيفيّة معنا فقبِلَ طبعًا. لن تتصوّروا شعوري عندما عانقتُ نجيب! كان الأمر وكأنّني عدتُ كاملاً بعدما انفصلَت عنّي قطعة أساسيّة. وأدركتُ حينها أنّ حياتي وحياته فعلاً واحدة.

قضَينا فرصة مُمتعة لأقصى درجة، ومِن ثمّ عادَ نجيب إلى الولايات المُتحّدة وبقيتُ في البلد أنتظرُ بفارغ الصبر أن أُسافِرَ بدوري إليه. وقَبل أن يتسنّى لي زيارته، إتّصَلَ بي ليزفّ لي خبَر وقوعه في الحبّ. للوهلة الأولى شعرتُ ببعض الغيرة، ليس لأنّه وجَدَ الحبّ، بل لأنّ عاطفته لن تكون لي حصريًّا، لكنّني استوعَبتُ الفكرة بسرعة وتمنَّيتُ له السعادة المُطلقة. حدَّدَ أخي موعد زفافه بعد سنة، ووعدَنا بأنّه سيتزوّج في البلد وليس في الغربة. لَم أكن أعلَم حينها أنّ ذلك الزفاف سيكون مُزدوجًا، لأنّني لَم أكن قد تعرّفتُ إلى التي ستصبحُ زوجتي. حصَلَ ذلك فجأة، ففِكرة الحبّ والزواج لَم تكن ضمن المُعادلة بل الدرس فقط والتمرّس في الطبّ.

رأيتُ جينا واقفة قرب سيّارتها المُعطّلة على حافّة الطريق فتوقّفتُ لمُساعدتها. كان العطل بالغًا، لِذا عرضتُ عليها توصيلها إلى أقرب ميكانيكيّ، وبقيتُ معها حتى أصلَحَ الرجُل العطل. هي أعطَتني رقم هاتفها، لأنّها كانت قد رأت فيّ ما كانت تبحثُ عنه في الرجُل. تبادَلنا الإتّصالات وتواعَدنا وقرَّرنا أن نبقى معًا حتى آخر أيّامنا. أطلعتُ نجيب على فكرة الزواج المُزدوج وهو طارَ مِن الفرَح وكذلك أبوانا.

وُلِدَ لي إبنًا وكذلك لنجيب، وصارَ مِن الواضح أنّ حياتي وحياة أخي تأخذ منحىً مُتوازيًا. كنتُ قد قرأتُ في ما مضى عن هكذا أمر، لكنّني لَم أصدّقه فعليًّا. فحتى لو سلّمنا جدلاً بأنّ التوأمَين هما شخص واحد إنفصَلَ في رحم أمّه وله الأذواق والأفكار والميول نفسها، فماذا عن الأحداث الخارجيّة التي تحصلُ للتوأمَين في آن واحد حتى لو هما في أماكن مُختلفة؟ عقلي العلميّ لم يكن قادرًا على تصديق الترّهات.

 


إلا أنّني صرتُ مع الوقت أميلُ إلى الإعتقاد بشيء أقوى مِن الصّدَف، وهو القدَر. ماذا لو ما هو مُقدَّر لأخي يجِب أن يحصل لي أيضًا؟ فنحن شخص واحد، وعلى ما يبدو لدَينا قدَر واحد وليس إثنَان. طردتُ لفترة تلك الفكرة المجنونة مِن رأسي إلى حين وُلِدَت إبنتي وبها خطب في رجلها... وأنجبَت زوجة أخي إبنة لدَيها خطب في الرِجل نفسها! فسَّرتُ الأمر علميًّا طبعًا، فمِن الواضح أنّ في جيناتي وجينات أخي نجيب خلَلاً ورثناه مِن دون أن نُصاب به شخصيًّا. للحقيقة، كنتُ قد بدأتُ أنزعِج مِن تلك الإزدواجيّة التي وصفتُها بالمشؤومة، وصبَبتُ إهتمامي على البحث عن كلّ ما هو إيجابيّ لِطرد الأفكار السوداء مِن رأسي.

لكن في إحدى المرّات، جرحتُ يدي جرحًا بليغًا حين كنتُ أنشرُ قطعة خشب لِصنع سرير لِصغيرتي. رحتُ المشفى وتمّ تقطيب الجرح 16 غرزة، وكدتُ أفقدُ استعمال يدي نهائيًّا لولا مهارة الجرّاح. إتّصلتُ بنجيب ليس فقط لأُخبره بالذي حصَلَ، بل أيضًا لأعرف إن كان هو الآخر قد أذى نفسه. وهو قال لي قَبل أن أبدأ بالكلام:

 

ـ مِن الجيّد أنّكَ اتّصَلتَ بي يا عفيف، فعليّ تنبيهكَ... منذ الأمس وأنا أشعرُ بألم فائق في ذراعي الأيسَر... لا أدري ما ينتابُني... فلا أستطيع تحريكها وأكاد أصرخُ مِن الوجَع.

 

ـ ستكون بخير بعد أيّام يا نجيب، حالما يُختُم الجرح.

 

ـ أيّ جرح؟ ليس لدَي أيّ جرح!

 

- أنا لدَيّ.

 

ومنذ ذلك الحين، لَم أعُد أعتمدُ على التفسيرات العلميّة لفَهم الرابط الموجود بيني وبين نجيب، فتأكّدتُ أنّ قدرَنا واحد. إجتمعتُ مع أخي يوم جاء وعائلته لزيارة البلد، وتحدّثنا بتعمّق بالذي حيّرَنا. كنّا قد أصبحنا طبيبَين، والبحث في أمور ليس لها تفسير منطقيّ يستهوينا إلى أقصى درجة. إتّفَقنا على تجنّب الحوادث، فذلك سيؤدّي حتمّا لأذيّة الآخر. وأقسَمنا أن نُحافظ على صحّتنا للسبب نفسه، فكان لدَينا عائلة علينا رعايتها.

مرَّت السنوات مِن دون أن يحدث شيء يُذكّر، سوى حوادث بسيطة لَم تؤثّر مُباشرة على صحّتنا أو تأدية واجباتنا العائليّة أو المهنيّة. تزوَّجَ أولادُنا وأنجَبوا وتقاعدنا مِن عملنا في مجال الطبّ.

بقيَ نجيب في الولايات المُتحّدة، لِذا لَم أعرِف ما كان يُخفيه عني طوال سنوات، وهو حبّه المُفرَط للكحول، لدرجة أنّه صارَ مُدمنًا على الشرب. وكونه طبيبًا، كان يعلمُ طبعًا تأثير ذلك الإدمان على الصحّة وخاصّة الكبد. خافَ نجيب أن أُعاتبه على عدَم الوفاء بقسَمه، فلَم يقُل لي شيئًا... إلى أن بدأَت تظهرُ عليّ عوارض تشمّع الكبد. إتّصلتُ بأخي عالمًا أنّ السبب آتٍ حتمًا منه، وبقيتُ مُصرًّا عليه حتى تكلّمَ أخيرًا واعترَف أنّه مريض، وأنّ ليس هناك مِن علاج لحالته.

أعرفُ أنّني سأموتُ مِن مرض الكبد قريبًا يا دكتور، مع أنّ الصوَر والتحاليل تقولُ عكس ذلك. شيء غريب أليس كذلك؟ فالعِلم لا يستطيع تفسير كلّ شيء وهناك أسرار أكبر مِن أكبر عالِم. سآخذُ بعض الأقراص لتحمّل الوجَع الذي ينتظرُني. الوداع.

 

هذا ما رواه لي عفيف مريضي، وللحقيقة، لَم أصدّقه بل اعتبرتُ قصّته مُبالغًا بها... إلى حين هو توفّيَ بعد فترة ليست بطويلة. أسفتُ عليه طبعًا، وسألتُ نفسي عن مدى تصديقه لقصّته ليموت منها. لكن بعد فترة، إلتقَيتُ بزميل لي عائد مِن الولايات المُتحّدة، وهو قال لي إنّه أسِفَ لموت أستاذه في الطبّ وإسمه نجيب. كان قد توفّيَ الطبيب العجوز مِن جرّاء تشمّع كبده في الفترة نفسها التي ماتَ فيها عفيف، لا بل بفارق يوم أو اثنَين! هل كان عفيف على حقّ؟ هل مصيرهما كان واحدًا بالفعل أم أنّ الرابط القويّ الذي وُجِدَ بينهما أثر على كلّ منهما بشكل فظيع؟ غريبة هذه الدنيا بالفعل!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button