قد تكون ثرثرة الجيران مفيدة جداً...

في كل حيّ هناك جار أو جارة يقضون وقتهم بمراقبة الآخرين. ونحن لم نسلَم من أعين "العم فؤاد" التي لا تنام أو حتى تغمض. وكان يستعين بمنظار، يجول به من غرفة جلوسه على شققنا وشارعنا. في البدء إنزعجنا كثيراً ولكن مع مرور الوقت بدأنا نعتاد على الأمر وتابعنا حياتنا بشكل طبيعي، بعدما حاول زوجي جود التكلّم معه وحمله على الكف عن ممارساته الشاذة. فكان جواب العجوز: "أنا أراقب الطيور نهاراً والنجوم ليلاً وهذا من حقّي، أنا لا أفعل شيء مخالف للقانون وليس هناك من شيء يمكنكم فعله حيال هذا."

 

وكان العم فؤاد يعلم كل ما يجري: من إشترى ماذا، من تشاجر مع من أو من أتى لزيارة من وكان ينشر أخبار الجيران لمَن يودّ أن يسمعه. ولم أتصوّر يوماً أنّ هذا الشخص المزعج سيكون له دور أساسي في حياتي.

ففي يوم من الأيّام جاء وفد من نساء البناية لزيارتي، بقصد جمع تبرّعات لإحدى العائلات المحتاجة وبعد أن قدّمتُ لهنّ القهوة والحلويات وعرضنَ عليّ مشروعهنّ، ساد سكوت كادَ أن يصبح محرجاً لو لم تقطعه إحداهنّ قائلة:

 

- أنتِ دائماً ببالنا يا ياسمينة...

- أنا؟ لماذا؟ صحيح أننا نسكن في ذات المبنى ولكننا لا نرى بعضنا إلا نادراً.

- أجل ولكن... أنتِ إمرأة رائعة ولا تستحقّين الذي يحصل لكِ...


ضحكتُ عند سماع هذا وقلتُ:

- ماذا تقصدين؟

تلبّكَت هذه السيّدة فأسرعَت صديقتها بمساعدتها:

- تقصدُ أنّكِ ربّة منزل قديرة وأمّ صالحة وزوجة وفيّة.

- وبعد؟

- و... أنّه أحياناً يبذل الإنسان جهداً كبيراً بينما الآخرون لا يستحقّون هكذا عناء.

- من تقصدين بالآخرين؟

- أعني الرجال يا حبيبتي... تعلمين كم نضحّي من أجلهم وهم... هم رجالاً!

- زوجي إنسان طيّب ويكرّس حياته لإسعادنا أنا والأولاد... لا أدري إن كان أزواجكنّ من هذا الطراز.

نظرنَ إلى بعضهنّ بإمتعاض وإستأذنّ ورحلنَ. وعندما وصلنَ إلى الباب، إستدارَت إحداهنّ نحوي وهمسَت في أذني:

- أحياناً نحتاج إلى أعيُن الآخرين لنرى الحقيقة... كوني متيقّظة.

 

وجدتُ الموقف مضحكاً جداً ولم آخذ كلامهنّ على محمل الجدّ، فمِن الواضح أنّ لديهنّ متّسع من الوقت للزيارات والثرثرة على عكسي. وعدتُ إلى أشغالي المنزليّة والبسمة على وجهي.

وبعد أسبوع على الحادثة، إلتقيتُ بالعم فؤاد في السوبرماركت وركضَ ليُلقي التحيّة عليّ. إستغربتُ كثيراً، فكانت علاقتنا به جافة نوعاً ما بسبب مراقبته لنا. ثم مسَكَني بذراعي وقال لي:

 

- وصلكِ الخبر؟ سمعتُ أنهنّ ذهبن لإنذاركِ... السيّدات! جئن إلى بيتكِ، أنسيتي؟

- دعني وشأني! لا أحب الثرثرة!

 

وخرجتُ من المحل، تاركة الرجل وعربة مشترياتي. وفي المساء عندما عاد جود من عمله، أخبرتُه بكل شيء من زيارة جاراتنا إلى حديثي مع العجوز. غضِبَ كثيراً لهذا التدخّل في حياتنا وطلبَ مني ألا أوجّه لهم الكلام ولا أستقبل أيّ منهم مجدّداً. وكان محقّاً في طلبه هذا وعندما سمعتُ بعد يومين جرس الباب يرنّ ونظرتُ من المنظار ورأيتُ إحدى جاراتي واقفة وراء الباب، لم أفتح لها. ولكنّها بدأت تخبط بقوّة وتصرخ في آن واحد:


 

- إفتحي! أعلم أنّكِ موجودة في البيت... لا تنسي أنني أعلم كل شيء! إفتحي لي... العم فؤاد في المستشفى!

 

جاوبتها من وراء الباب:

- وما دخلني أنا؟ إنّه رجل مسنّ!

- لم يدخل الطوارئ بسبب سنّه ولكن بسبب ما يعلمه عنكم!

 

جملتها الأخيرة أثارت فضولي، ففتحتُ لها وطلبتُ منها التكلّم بسرعة وعدم إطالة ثرثرتها. ولكن عندما رأيتُ علامات الهمّ والخوف على وجهها، علمتُ أنّها حقّاً مرعوبة. أخذَت نفساً عميقاً وقالت:

 

- لماذا أخبرتِ زوجكِ بالذي قلناه لكِ؟ هل أنتِ غبيّة؟ من جرّاء ما فعلتِ كاد أن يموت الرجل!

- وما دخل هذا بالذي حصل للعم فؤاد؟

- ذهبَ زوجكِ المصون إلى بيته وهدّده وضربه.

- لا أصدّق أنّ جود يفعل هذا وإن حصل فعلاً فسببه تدخّل العجوز بنا ومحاولاته لدسّ الشكّ في عقلي.

- لا... ليس هذا هو السبب بل خاف زوجكِ أن يُكشف أمره!

- ماذا تقصدين؟

- العم فؤاد يرى كل شيء بواسطة منظاره وما رآه هو الذي جئنا ننبّهكِ عليه... حبيبتي... زوجكِ يخونكِ!

- ألهذا الحدّ بَلَغَت قلّة أخلاقكم؟ إذهبي من هنا الآن! لم يكن يجدر بي أن أفتح لكِ!

- أنا ذاهبة ولكن هناك رجل مُلقى على سرير مستشفى لأنّه حاول مساعدتكِ وليس عنده أي مصلحة لإختلاق الأكاذيب. صحيح انّه فضولي ولكنّه رجل وحيد وجدَ تسليّة تنسيه وضعه. أنا لا أعذره، فمراقبة الناس شيء بغيض ولكنّه كان صادق بإنذاركِ. لو كنتُ مكانكِ، لذهبتُ لزيارته فالذي حدث هو بسببكِ أنتِ.


وأثّر بي حديثها دون أن أدري لماذا وقررتُ أن أذهب إلى المستشفى، أقلّه للإطمئنان على شخص كبير في السنّ. ولكنني لم أقل شيئاً لجود، فإذا ما يُقال صحيح، فزوجي له طباع خطيرة جداً. وحين دخلتُ غرفة العم فؤاد، بدأ بالبكاء وصرخّ لي:

 

- أرأيتِ ما فعله بي زوجكِ المتوحّش؟ أراهن أنّكِ لا تصدّقين أنّه الفاعل وأنه حاول إسكاتي. ولكنني أقول الحقيقة: كل يوم وقبل أن يصل إلى البيت يتوقّف على آخر الشارع قرب محل الألبسة وتصعد فتاة صبيّة في سيّارته ويذهبان لمدّة نصف ساعة أو ساعة أحياناً. أراهما بوضوح، لأنّها تنتظره تحت الضوء. أعرفها جيّداً، لأنّها تعمل في ذلك المحل. وأحياناً إذا كانا متشوّقين لبعضهما يبدآن بالتقبيل لحظة تجلس جنبه بالمركبة. صدّقيني...

- أنتَ رجل مسنّ وأنا أكيدة أنّكَ بدأتَ تفقد عقلكَ.

- خذي مفاتيح بيتي وإذهبي إلى هناك الليلة وإستعملي المنظار المثبّت نحو الشارع وسترين بنفسكِ.

قبلتُ عرضه فقط لأثبتَ له أنّه على خطأ، لتسكت كل ثرثرات الحيّ. وفي المساء قلتُ للأولاد أنني ذاهبة لزيارة صديقة لي وتوجّهتُ إلى بيت العجوز. رأيتُ المنظار في غرفة الجلوس. أخذتُ كرسيّاً وإنتظرتُ وعينيّ على العدسة. وحين رأيتُ سيّارة جود تدخل الحيّ، بدأ قلبي يخفق بسرعة. وبدل أن يتابع طريقه إلى البيت، وقفَ أمام محل الألبسة وبعد ثوان خرجَت صبيّة لملاقاته وذهبا سويّاَ بعد أن قبّلا بعضهما مطوّلاً. لم أصدّق عينيّ ولزمني بعض الوقت لأستوعب ما حصل. ثم رجعتُ إلى المنزل وفي قلبي غضب كبير. وعند عودة زوجي بعد أكثر من ساعة صرختُ به:

- لماذا هذا التأخير؟

- كان لديّ إجتماع مهمّ و...

- كفى كذباً! رأيتُكَ مع تلك الفتاة أيّها الوقح! والكل كان يعلم بما تفعله ويحاولَ تنبيهي. لم أعد أعرف من أنتَ... ولا كيف تحوّلتَ من رجل محبّ ومسالم إلى خائن يضرب العجزة لتغطية أفعاله!

- هذة الفتاة لا تعني شيئاً لي... إنّها فقط نزوة عابرة...

- لا أريد رؤيتكَ مجدداً، فلقد إشمأزّيتُ منكَ... أفضّل أن أبقى لوحدي على أن أكون مع وحش مثلكَ... وإيّاكَ أن تحاول أخذ أولادي منّي، فبإمكاني حمل العم فؤاد على تقديم شكوى ضدّكَ. إذهب لعشيقتكَ الآن ودعني وشاني!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button