قتلتُ أبي...

لقد تعلّمتُ أنّ الرجولة هي أن يُدافع المرء عن الضعفاء وأن يقف بِوجه الظالم. هكذا قال لي الذي قتلتُه، وأعني أبي.

وأستطيع اليوم قول حقيقة ما حصل في تلك الليلة المريعة، لأنّ الزمَن لطّفَ مِن فظاعة جريمتي ولأنّني أصبحتُ عجوزًا لا يملك ما يخسره. أعلم أنّ الناس ستحكم عليّ بعد قراءة قصّتي، ولكنّني لم أندم ولو مرّة واحدة على ما فعلتُه وسأتحمّل حكم ربيّ عليّ مهما كان.

 

إسمحوا لي الآن بالعودة بالزمن إلى طفولتي وإلى الظروف التي عشتُها أنا وأمّي وأختي الصّغيرة. كنّا في تلك الأيّام نعيش في شقّة جميلة زيّنَتها أمّي بأناملها الرشيقة وكنّا سعيدين، على الأقلّ هذا ما اعتقَدتُه. فكان أبي وبعد أن ناضل ليتزوّج مِن أمّي، قد بدأ يمّل منها ولم يفوّت فرصة ليتغيّب عن المنزل، تارة بحجّة العمل وتارة أخرى بسبب وعكات أهله الصحيّة. وعندما نفَذَ مِن الحجج ورأى أنّ والدتي لم تعد تصدّقه، قرّر أن يُريها وجهه الحقيقيّ. وأتذكّر جيّدًا حديثهما بالرّغم مِن صغر سنّي ربمّا بسبب فظاعة الموقف:

ـ سوسن... لقد تعبتُ مِن الإختباء... أريد أن أعيش حياتي كما يحلو لي.

ـ ماذا تقصد؟

ـ أعني أنّني لم أعد أريدكِ.

ـ ماذا؟ انتَ تمازحني!

ـ أبدًا... لم أعد أِشعر بشيء معكِ أو تجاهكِ...

ـ يا إلهي! تريد تركنا؟

ـ لا! لن أذهب إلى أيّ مكان! سأبقى وأفعل ما يحلو لي.

ـ وما الذي يحلو لكَ؟

ـ كلّ شيء إلاّ التواجد معكِ ومع أولادكِ.

ـ أولادي؟؟؟ هما منكَ أيضًا! سأرحل أنا!

ـ لبل ستبقَين حيث أنتِ وتتابعين مهامكِ في البيت! كيف لي أن آكل أو ألبس إذًا؟

ـ عُد إلى أمّكَ!"

 

عندها صفعَها أبي بكلّ قوّته لدرجة أنّ المسكينة وقعَت أرضًا. كنتُ على وشك الركض إليها ومساعدتها للوقوف، إلا أنّ أمّي حين رأتني أومَأت لي بعدَم التدخّل. وبعد أن خرجَ أبي وأقفلَ الباب وراءه، أسرعتُ إلى والدتي التي قالت لي:" إيّاكَ أن تتدخّل... هذه الأمور لا تعنيك... إنّها خاصة بالرّاشدين... عُد إلى غرفتكَ."

 

لقد أرادَت حمايتي مِن أبي الذي كان ولأوّل مرّة يُرينا سواد نفسه. ولأنّ أوّل صفعة تجلب الضرب والإهانات، باتَت أمّي تتعرّض يوميًّا للتعنيف مِن دون سبب.


وكنتُ أبكي ليلاً بعد أن أتأكّد من أنّ أختي نسرين غرِقَت في النوم كي لا ترى دموعي، ولأنّني أرَدتُها أن تظنّ أنّني جبّار كهؤلاء الأبطال الذين كانوا يملأون شاشتنا الصّغيرة. وكبرَ حقدي لذلك الرجل الذي لم يعد يأتي إلّا للصّراخ علينا والأكل والنوم. وأصبحَ والدي يصرف كامل راتبه على رفاق السّهر والنساء، حتى أنّه لم يعد قادرًا على دفع أقساطنا المدرسيّة فوضعَنا في مدرسة حكوميّة مجّانيّة.

 

لم أفهم لماذا إضطررتُ لترك رفاقي والذهاب مشيًا مع اختي إلى مدرسة أخرى حيث لا نعرف أحدًا، بعد أن اعتدتُ على مدرستي العزيزة، ولكنّني تأقلمتُ بسرعة بسبب إصراري على عدم الإستسلام. فهذا كان طبيعتي منذ صغري، كنتُ قويّ العزيمة أرفض الظلم ولا أقبل بما هو خطأ. وهذا ما قادَني إلى قتل أبي.

 

مرَّت السّنون وكبرنا أنا وأختي على صراخ أبي وبكاء أمّي، وأصبحنا جدّ متعلّقَين ببعضنا، فالمصائب والصّعاب تقرّب الأخوة مِن بعضهم.

 

ولم أعد أتأثّر كالسابق بتعنيف أبي لأمّي، لأنّني لم أفهم سبب إصرارها على البقاء معه، ولمتُها لأنّها أجبَرَتنا على تحمّل ذلك الوضع الصّعب معها. فكان مِن حقّي أنا ونسرين أن نكبر بجوّ سليم وسط عائلة متناغمة ومُحبّة. وأصبَحَ كلّ همّي أن أؤمّن لنفسي مستقبلًا لامعًا لآخذ اختي وأمّي إن أرادَت بعيدًا عن الوحش. لِذا كنتُ أدرس أكثر مِن رفاقي، وأبقى بعد الحصص لأسأل أساتذتي عن كلّ ما لم أتمّكن مِن إستيعابه. وتخرّجتُ مِن المدرسة ودخلتُ جامعة مجانيّة لمتابعة إختصاص في الحقوق.

 

في تلك الأثناء، كانت نسرين قد أصبحَت مراهقة جميلة وجذّابة يلحقها الشبّان، ولكنّها أحبَّت واحدًا فقط وهو بادلَها هذا الحبّ، وأخذا يُخطّطان لمستقبلهما. لم يكن أحد سواي على علم بعلاقتهما بعد أن نصحتُ أختي بإبقاء الأمر سرّاً خوفًا مِن أن يُفسد أبي عليهما حبّهما... ولأنّني كنتُ أخجل بوالدي. لم أكن أريد أن يتعرّف إليهما صديق أختي ويرى بأيّة حالة كنّا نعيش.

 

كنتُ أقول دائمًا لنسرين:

ـ أختي... فور حصولي على إجازتي، سأسافر إلى إسبانيا عند خالنا وستلحقين بي وتتزوّجين هناك.

ـ وأمّي؟ ألن تأخذها هي الأخرى؟

ـ لن ترحل أمّكِ معنا... أخَذَت قرارها منذ سنين... المهم هو أنتِ... أنتِ فقط... لقد أقسمتُ لنفسي أن أحميكِ حتى لو على حساب حياتي... أنتِ أغلى ما عندي."

وكان كلّ شيء يسير حسب ما خطّطتُ له، حتى أن تغيّر مجرى حياتنا جميعًا وإلى الأبد.


ففي ذات يوم، رأى أبي أختي نسرين مع صديقها وجنّ جنونه. سبب ردّة فعله لم يكن خوفه على ابنته، فهو لم يكن يراها أو يسأل عنها، بل لأنّه شعَرَ بأنّها أخَفَت عنه أمرًا، ولم يكن ليقبل ذلك مِن أحد. وعادَ إلى البيت وأخَذَ يصرخ على أمّي وينعتها بِـ" السّاقطة وأمّ السّاقطة الصّغرى". خرجتُ مِن غرفتي ولحِقَت نسرين بي، ونظَرَ والدنا إلينا نظرة ذئب على وشك أن ينقضّ على فريسته. وفجأة أمسَكَ أختي برقبتها وبدأ يشدّ عليها ليخنقها. وقَفَت أمّي تنظر إلى ما يجري بدون أن تحاول حتى أن تتدخّل، ربّما لأنّها اعتادَت على تقبّل كلّ ما يصدر عن زوجها. أمّا أنا، فحاولتُ إبعاده عن أختي بشتى الطرق ولكنّه لم يُفلت قبضته. ورأيتُ وجه نسرين يزرقّ، وعلِمتُ أنّها على وشك أن تموت. عندها ركضتُ إلى غرفة والدي وجلبتُ بندقيّة الصيد مِن خزانته. صَرَختُ فيه أن يترك أختي وإلّا أطلقتُ النار عليه ولكنّه قال:" أنتَ؟ أنتَ لست برجل! سأقتل السّاقطة ومِن ثمّ أقتلكَ!"

 

وأطلقتُ النار عليه. سقط أرضًا... وانتهى كلّ شيء. سادَ سكوت رهيب قطعَه سعال أختي التي كانت تلتقط أنفاسها.

عندها قالت لي أمّي:" قتلتَ أبوك! كيف تفعل ذلك!؟!". أخذتُ اختي إلى غرفتها وعدتُ إلى أمّي:

ـ لستُ نادمًا... كان لا بدّ لي أن أنقذ أختي...

ـ يا إلهي... ماذا سنقول للشرطة؟

ـ قومي بدوركِ كأمّ... سأقبل بما تقرّرينه."

 

وقالت والدتي للمحقّق إنّ أبي كان يُنظّف البندقيّة حين خرجَت منها طلقة وقتلَته. كانت آنذاك طرق التحقيق بدائيّة، ولم يشأ أحد أن يُعذّب نفسه بالبحث عن آثار للبارود على أصابع أبي أو أصابعنا. وشاءت الظروف أنّ زاوية الطلقة كانت تطابق نظريّة الحادث. وسافرنا إلى إسبانيا مِن دون أمّي التي لم تشأ ترك أبي حتى بعد مماته.

 

وأكملنا دراستنا ولحق بنا صديق نسرين وتزوّجها. وبعد سنين قليلة ماتَت أمّي بدورها. حزنتُ عليها، ولكنّني لم أشعر بنقص كبيرعند فقدانها ربمّا لأنّها كانت زوجة أكثر مِن أم، زوجة أحبَّت جلادها حتى آخر لحظة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button