كنتُ قد فقدتُ إستعمال رجلَيّ وكنت جالسًا على كرسيّ مُتحرّك حين تعرّفتُ على سامية، وهي لَم تُمانِع على عكس أهلها الذين وقفوا بوجه زواجنا. فهمتُ طبعًا أنّني لَم أكُن في نظرهم العريس المثاليّ، لكن ما عدا قدرتي على المشي، كنتُ أمتلكُ كلّ الصفات التي تجعَل منّي زوجًا جيّدًا. فالجدير بالذكر أنّني لَم أفقد قدرتي على القيام بواجباتي الزوجيّة أو الانجاب، وكان لدَيّ عمَل حرٌّ أديرُه بجدارة وأجني منه الكثير. وبعد مُفاوضات طويلة ومُتعِبة، إنتهى بنا المطاف مُتزوّجَين للسرّاء والضرّاء. للحقيقة، كنتُ فخورًا بنفسي، فسامية كانت شابّة جميلة وذكيّة وابنة أناس مُحترمين، أيّ أنّ شبّان كثيرين تمنّوا أن يكونوا مكاني. إضافة إلى ذلك، أسكتُّ بزواجي الألسُن المُسيئة التي تنبّأت لي البقاء عازبًا طوال حياتي بسبب شلَلي.
سكنَت سامية في بيتي المُجهَّز وفقًا لحالتي بعد أن عشتُ لوحدي لسنوات، وقضَينا أيّامًا جميلة مليئة بالحبّ والاحلام. لَم يعُد يذكُر أحدٌ أمام زوجتي إندهاشه لزواجها مِن مُقعَد، بل الكلّ تمنّى لنا السعادة والبنين والبنات.
بعد مرور أسابيع قليلة على اقتراننا، بدأتُ أُلاحظُ على سامية تغيّرًا في طباعها وتصرّفاتها، إذ أنّها بانَت لي مهمومة وشاردة وكثُرَ خروجها لوحدها مِن البيت. هي كانت تأخذُ سيّارتي الخاصّة ولا تعودُ قبل ساعات، الأمر الذي كان يُجبرُني على انتظار رجوعها للقيام ببعض الأعمال او شراء معدّات. هي لَم تُفسِّر لي سبب غيابها المُتكرّر، وأنا لَم أسألها لأثبِتَ لها أنّني أثِق بها. لكن عليّ الإشارة إلى أمر مُهمّ، وهو أنّ الانسان المُصاب بإعاقة مُعيّنة يشعرُ دائمًا بالنقص أو بالامتنان للشريك لأنّه قبِلَ به. وإن كان ذلك الشريك إنسانًا غير مسؤول أو لدَيه دوافِع مُعيّنة، فقد يستغلّ تلك الاعاقة لصالحه ويتصرّفُ كما يحلو له.
إستمرَّ الوضع لوقت طويل، وأعترفُ أنّني شكّيتُ بوفاء زوجتي لي، ففي آخِر المطاف، هي قد تكون قد وجدَت رجُلاً مُتعافيًا يستطيع مُجاراتها في حياتها اليوميّة أكثر منّي وتفتخِر به بدلاً مِن الخجَل. فكنتُ أرى كيف تنزعِجُ سامية مِن نظرات الناس إليّ عندما تكون برفقتي.
هل أسألُ زوجتي إن كانت شكوكي في محلّها، وأُخاطِر بتخريب هناء زواجنا أم مِن الأفضل السكوت والإنتظار للتأكّد؟ إختَرتُ السكوت طبعًا. أختي هي التي أثارَت الموضوع يوم قالَت لي:
ـ ما بال زوجتكَ؟ فهي غائبة طوال الوقت، إذ أنّني أردتُ مرّات عديدة زيارتها ولَم أجِدها. هل هي تعمَل؟
ـ لا، بل تذهب مع صديقاتها إلى السوق أو المطاعم. لا أرى ما الخطب في ذلك.
ـ أنتَ أخي وأعرفُكَ عن ظهر قلب وأرى أنّكَ لستَ سعيدًا. أتريدُني أن أُكلِّم سامية؟
ـ لا! فأنا سعيد للغاية معها، إنّها زوجة مُمتازة. لا تُشغلي بالكِ بالأمر.
إنزعَجتُ مِن كلام أختي، فكان الأمر يعني أنّ الناس بدأوا يُلاحظون خلَلاً في زواجي، بعد أن قضَيتُ سنوات عديدة أُحاوِلُ إثبات قُدرتي على العَيش كسائر الناس بالرغم مِن إعاقتي. لِذا تكلّمتُ أخيرًا مع زوجتي مُطالبًا إيّاها بتفسير تحرّكاتها. إلا أنّها بكَت واشتكَت مِن كلامي الذي وصفَته بالقاسي والمُجرِّح، مع أنّني كلّمتُها بهدوء ومحبّة. لِذا سكتُّ كالعادة ووعدتُ نفسي بعدَم إثارة الموضوع مُجدّدًا. ففي نهاية المطاف، كان عليّ الوثوق بزوجتي، فهي اختارَتني وحاربَت مِن أجل الزواج منّي، أيّ أنّها بالفعل تُريدُني كما أنا. وكَي أنعَم بحياتي مع سامية، عزَلتُ نفسي عن كلّ الذين بإمكانهم تخريب زواجي، بمن فيهم أختي. هل أتدخّلُ أنا في زواجها؟ فليذهبوا كلّهم إلى الجحيم ويتركوني وشأني! فأنا كنتُ مُتأكّد مِن وفاء سامية لي وكان ذلك كافيًا.
لا أنكُر أنّ الوضع أثَّرَ على عمَلي، فبالي لَم يكن صافيًا، لكنّني تدارَكتُ الأمر وأقنعتُ نفسي بأنّ لا أساس لتلك الأفكار. مِن جانبها، بقيَت سامية على حالها، فاستمرَّت حياتنا إلى حين طلبتُ مِن زوجتي أن نُنجِب، فوجود طفل بيننا سيُعطيني فرَحًا كبيرًا وشعورًا بالإنجاز. لَم ألمُس حماسًا مِن جانبها، إلا أنّها لَم تُمانِع فصِرتُ أنتظِر بفارغ الصبر الخبَر السار. مرَّت الأشهر ثمّ السنة مِن دون حَمل، فرُحنا إلى الطبيب لإجراء الفحوصات اللازمة... واتّضَحَ أنّني للأسف عاقِر ولا دخَل لشلَلي بالأمر بل إنّ الأمر خلَل تكوينيّ. أحسستُ بالخجَل العميق، فحتّى ذلك الحين كنتُ أعتقِد أنّ كَوني مُعوّقًا لن يقِفَ في دَربي كرجُل على الاطلاق، أليس ذلك ما قلتُه لزوجتي قبل أن نقترِن؟ ماذا ستقولُ عنّي الآن؟
كنتُ على حقّ في مخاوفي، فبالرغم مِن عدَم حماس سامية للانجاب، هي استاءَت كثيرًا مِن نتائج الفحوصات:
ـ هذا ما كان ينقصُني!
ـ ماذا تعنين؟ هل تتكلّمين عن إعاقتي؟ وهل ذلك أثَّرَ يومًا على علاقتنا أو حياتنا اليوميّة؟ لَم ألقِ أيّ ثقل عليكِ بل أنّ البيت والسيّارة مُجهّزان خصّيصًا لمَن هم في حالتي. أمّا مِن الناحيّة الحميمة، فأظنُّ أنّني على قدر الحَمل وأكثر. إضافة إلى ذلك، نحن نخرجُ إلى المطاعم والحفلات ونُخالطُ الناس ربمّا أكثر مِن الكثيرين. مِن الناحيّة المادّيّة، أجني ما يكفي لتأمين حياة مُريحة لكِ، فلدَينا بيت جميل وكلّ ما تطلبُه نفسكِ. هناكَ فقط مسألة الإنجاب وهذا أمر يحصلُ أيضًا للرجال غير المعوّقين. لِذا أعودُ وأسألكِ عما عنَيتِ بـ "هذا ما كان ينقصني؟
إلّا أنّ زوجتي فضّلََّت السكوت والخروج مِن البيت على إعطائي تفسيرًا. حزنتُ كثيرًا لردّة فعلها القاسية، وشعرتُ أنّ كلّ الذي أفعلُه مِن أجلها لن يكون يومًا كافيًا. هل أخطأتُ الاختيار أم أنّ أيّ إمرأة أتزوّجها ستُقلِّل مِن تقديرها لي بسبب حالتي؟ هل يُفكّرُ الناس للحظة بما يمرُّ به المعوَّق مِن صراع داخليّ أو شعور بالنقص، أو الإحساس بأنّه لن يكون يومًا إنسانًا كاملاً بنظَر الآخرين؟ لا اظنّ ذلك، للأسف.
إستياء سامية مِن عقمي، كان عذرًا إتّخذَته للتقليل مِن شأني وتبرير ما كانت تفعله. فاتّضَحَ أنّ زوجتي على علاقة برجُل آخَر، وقد علِمتُ بالأمر مِن عامِل لدَيّ رآها مع عشيقها أكثر مِن مرّة وسكَتَ عن الموضوع لتجنيبي الأسى. لكنّه لَم يعُد قادرًا على السكوت، فأخبرَني برفق وخوف. حافظتُ على رباطة جأشي أمامه، واكتفَيتُ بهزّ رأسي إلا أنّني كنتُ أبكي مِن الداخل. لكن ما الذي دفَعَ زوجتي لخياني بعد فترة قصيرة مِن زواجنا؟
لَم أواجِه سامية إلا بعد أسبوع مِن معرفتي بالأمر، لأنّني أردتُ تحليل المُعطيات وتداعياتها. لا أخفي عنكم أنّ فكرة التّغاضي عن تلك الخيانة خطرَت ببالي، لكن سرعان ما طردتُها مِن فكري حتّى لو عنى ذلك العَيش وحيدًا. وعندما تكلّمتُ معها ذات مساء هي قالَت:
ـ مِن الجيّد أنّكَ صِرتَ على علم بعشيقي، فقد سئمتُ مِن الكذب والتخطيط.
ـ لا أراكِ نادِمة أو على الأقلّ خجِلة منّي. أنتِ تخونينَني وأنا أواجهُكِ!
ـ نادمة؟!؟ يجدرُ بكَ أن تحمِدَ ربّكَ أنّني تزوجتُكَ! يا لوقاحتكَ!
ـ ومَن أجبرَكِ على ربط حياتكِ بي؟!؟
ـ تزوجتُكَ نكاية بأهلي بعد أن مانعوا زواجي مِن حبيبي، لأنّه ليس مُتعلّمًا كفاية ولا يجني الكثير. لا يُريدُونه؟ فليكن، سأتزوّج مِن معوّقٍ وأعيشُ على سجيّتي! مَن يظنون نفسهم ليُديروا حياتي كما يُريدون؟!؟
ـ أنتِ حمقاء بالفعل، وليس فقط خائنة. إذهبي وتزوّجي مِن حبيبكِ فسأطلّقُكِ بأسرع وقت! فمن الأفضِّلُ العَيش لوحدي مِن أن أدّعي السعادة مع فاسِقة.
ـ إفعَل ما تشاء، فالأمر سيّان بالنسبة لي.
بعد ذلك الحديث، حاولتُ إستيعاب ما حصَل، وكيف لإنسانة أحبَبتُها وفعلتُ جهدي لإسعادها أن تكون بهذا الكمّ مِن المِكر وقلّة الأخلاق. تراجعَت حالتي النفسيّة كثيرًا وفقدتُ ثقتي بنفسي، تلك الثقة التي تطلّبَت سنوات لبنائها بغية مواجهة تداعيات إعاقتي ونظرة المُجتمع لي. أقسمتُ ألا أتزوّج مُجدّدًا، فلن أدَع أيّ إمرأة تغشّني أو تخجَل منّي بعد ذلك!
إلا أنّ الحبّ لا يطلُب رأينا أو إذننا لدخول قلبنا وحياتنا، وبفضل أختي التي إنشغَلَ بالها عليّ كثيرًا وخافَت على سلامتي النفسيّة، تعرّفتُ على أمال. فتلك الشابّة كانت لا تُبالي على الاطلاق إن كنتُ كسيحًا أم لا، ولا تخجلُ مِن الزواج مِن معوَّق لأنّها عاشَت وعايشَت كسيحًا مِن قبل: أبوها الذي كان أهمّ وأعظَم إنسان في نظرها. لا أخفي أنّني كنتُ مُتردّدًا جدًّا في بادئ الأمر، لأنّني لَم أكن مُستعدًّا للمرور مرّة أخرى بزواج فاشل أو خيانة أو نظرة إزدراء. لكنّ أمال أثبتَت لي أنّها تفهمُ بالفعل ما يشعرُ به الانسان وبالأخصّ الرجُل المعوّق، وهي لا تراه ناقصًا على الاطلاق. إضافة إلى ذلك، إتّضَحَ أنّها إمرأة عميقة ومُثقّفة وطموحة، وهي ساعدَت على ازدهار أعمالي بعد زواجنا بفضل أفكارها البنّاءة وحبّها لي غير المشروط. فمِن المعلوم أنّ المرأة ترفعُ زوجها أو تُحطّمه. بعد فترة تبنَّينا ولَدًا وربّيناه وكأنّه منّا حقًّا.
أمّا في ما يخصّ سامية، فهي تزوّجَت أخيرًا مِن حبيبها، وعاشَت معه في الضيق كَونه كسولاً وغير طموح، وصارَت هي مَن يصرفُ على البيت. هما أنجَبا ولدَين أخذَتهما معها يوم تركَت زوجها، وانتقلَت برفقتهما نهائياًّ عند أهلها. سمعتُ أنّها تبحثُ عن زوج جديد، لكن مَن سيأخذُها وولدَيها؟ هل سينظرُ إليها ذلك الزوج وكأنّها ناقصة ويُمنِّنُها كلّ يوم لأنّه قبِلَ بها؟ فلكلّ ظالم يوم!
حاورته بولا جهشان