قاتل في عائلتنا

لَم يكن مسموحًا لفظ إسم سامر عمّي في البيت، فقد كان هو الرجل الذي مِن الأفضل نسيان وجوده، والإبتعاد قدر المُستطاع عن أيّ شيء مُتعلّق به. فعمّي جلَبَ لنا العار لأجيال مُتتالية، وكلّما أتذكّرُ قصّته يقشعرُّ بدَني لفظاعة ما فعله.

لكنّ سامر لَم يكن مِن الذين يجلبون الشبهات إلى أنفسهم، بل قادَ حياة "طبيعيّة" إلى حين كشَفتُ سرّه... وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة!

دعوني أدخلُ إلى صلب الموضوع مُباشرة وأروي لكم قصّة سامر... وقصّتي معه.

كان عمّي الإبن الأصغر في عائلة مؤلّفة مِن أربعة أولاد، وكان هو بالطبع الذي حصَلَ على الكمّ الأكبر مِن الدّلال. فجدّي لَم يرفض طلبًا له، خاصّة بعدما أبدى إبنه ميلاً لفنّ الخياطة، الأمر الذي كان آنذاك يُعتبر مصدر فخر ومال. لِذا وضعَه عند خيّاط معروف ليتعلّم المهنة حسب الأصول، الأمر الذي جعَلَ منه، وبسرعة، إنسانًا ماهرًا. فهو كان قادرًا على قلب أيّة قطعة قماش إلى فستان رائع، وكانت جدّتي وعمّتي أولى مَن استفادَ مِن سامر.

وبعد سنوات، فتَحَ جدّي لابنه محلاً في الوسط التجاريّ، وبدأ عمّي بالعمل على مدار الساعة حتى صارَ اسمه معروفًا وتقصدُه نساء عديدات وسيّدات المُجتمع لاحقًا. لَم أكن قد وُلدتُ آنذاك، وعندما أبصرتُ النور، كان عمّي مصدر فخر للعائلة بأسرها.

عندما بلغتُ الثانية عشرة، كان سامر قد تزوّجَ وأنجَبَ، وصارَ ثريًّا ووسّعَ عمله بفتح محلّ ثاني ثمّ ثالث، وكان إسمه مُرادفًا للأناقة والذوق. أذكرُ أنّني لبستُ بضع فساتين مِن تصميم وتنفيذ عمّي حسَدَتني عليها صديقاتي.

لذا كنتُ أصطحب معي فتيات محظوظات، كلّما قصدتُ سامر في محله في العاصمة الذي كان قريبًا مِن بيتنا. وهناك كان عمّي، إن كان بمزاج جيّد، يأخذُ مقاسهنّ ويصنعُ لهنّ فساتين تُناسبُهنّ. ولَم يكن يأخذُ ثمن تلك الفساتين إكرامًا لي، الأمر الذي ملأ قلبي بالإمتنان والسعادة. مرّت الأشهر ومِن ثمّ السنوات، وكبر حجم أعمال سامر ليتخطّى الحدود، وصارَت تصاميمه تساوي الكثير مِن المال، لكنّه بقيَ يخيط لي ولصديقاتي مِن دون مُقابل لأنّه كان يعتبرُنا بناته، فهو لَم يُنجب سوى الصّبيان، وكان يتوق لجلب إبنة إلى هذه الدنيا.

وحصَلت الحادثة... وفي ذلك الحين، لَم يخطر ببال أحد أنّ لعمّي دخل بالموضوع. فمَن كان ليشكّ برجل معروف ومُحترم، وكأنّ الأناس البشعين فقط هم الذين يقومون بما هو بشع. ولقد ظنّ الجميع أنّ موت تلك الصبيّة خنقًا سبّبَه مُتشرّد أو مجنون أو أحد خرّيجيّ السجون.

 


فجثة المسكينة عُثر عليها في أحدى أزقّة المدينة، ولو لَم أرَ صورتها في الجريدة التي كان يقرأها أبي، لَما خطَرَ ببال أحد أنّ لها صلة بعمّي. فأنا تذكّرتُ تلك الصبيّة جيّدًا إذ رأيتُها في محلّ سامر عندما كنتُ أزورُه. هي كانت في الثالثة عشرة تقريبًا، وجاءَت إليه لتأخذ فُستانًا كان قد أنهاه لها. تذكّرتُها جيّدًا بسبب ما حصَلَ في ذلك النهار: كنتُ جالسة على كرسيّ، وكان عمّي يدعو الفتاة للدّخول معه إلى غرفة القياس، وهي رفضَت بقوّة قائلة: "لقد أخذتَ مقياسي في المرّة السّابقة وأصبَحَ الفستان جاهزًا، ما الحاجة لدخولي الغرفة ثانية؟" أصرَّ عليها عمّي، إلا أنّها بقيَت ترفض، وصارَت المسكينة تصرخُ وتبكي في آن واحد. وأقسمُ أنّني رأيتُ الخوف في عَينَيها. وعندها أعطاها سامر فستانها، أخذَته منه بسرعة وركضَت خارجًا. عندها قال لي مازحًا: "تلك الفتيات صعبة المزاج! لا أحبُّ أن أخيطَ لهنّ لكنّ أمّهاتهنّ تصرّنَ عليّ."

وبعد موت هذه الصبيّة، قصدتُ عمّي لأروي له ما حصل لها، آخذة معي الصحيفة التي نُشِرَت فيها صورتها. لكنّه لَم يتذكّرها بل نفى نفيًا قطعيًّا معرفتها. وحدَثَ جدل بيننا انتهى باستسلامي، لأنّ سامر بدا لي غاضبًا للغاية خاصّة بعدما قال لي:

 

- ما بالكِ؟ هل أستقبلُكِ في محلّي لتُراقبيني وتؤلّفين الشائعات حولي؟ إلزمي الصمت وإلا أقفلتُ بابي بوجهك!

 

إحترتُ وحزنتُ أن استاءَ عمّي منّي لهذه الدرجة، لأنّه كان يحتلّ مكانًا خاصًّا في قلبي وإغضابه كان شيئًا لا أريدُه. لِذا أقفلتُ الموضوع نهائيًّا وبالطبع لَم اقل شيئًا لأحد.

لَم تتوصّل الشرطة إلى نتيجة بشأن مقتل الفتاة، ولَم يأتِ أحد نحو عمّي الذي كان فوق الشبهات. فقد ظنّوا أنّ الفقيدة كانت حتمًا ضحيّة مهووس غريب عن المنطقة، وطُويَت القضيّة. حتى أنا لَم أربط الأمور ببعضها، ربما لأنّني كنتُ لا أزالُ مُراهقة أفتقدُ الخبرة بالناس والحياة. ولَم يخطر ببالي أنّني سأكون الأداة التي سترمي ذلك الوحش خلف القضبان، إلى حين جرى ذلك الحديث بيني وبين صديقاتي في أحد الأيّام. لا أذكرُ كيف بدأ الحديث ومَن باشَرَ به، إلا أنّنا بدأنا نتذكّر حين كنتُ أجلبُهنّ معي إلى محلّ عمّي ويُقدّم لهنّ الفساتين. وسادَ صمت ثقيل لَم أفهَم سببه إلا عندما قالَت إحدهنّ: "أشكرُ ربّي لأنّني لَم أعد أذهب إلى ذلك المكان البشع." وقبل أن أستفسر عن الذي قالَته، وافقَتها أخرى ومِن ثمّ الباقيات.

عندها إنتابني غضبٌ شديد حملَني على الصراخ بهنّ:

 

-مكان بشع؟ هذا مكان الجمال والرقيّ! كَم أنّكنّ ناكرات للجميل! هكذا تشكرون عمّي؟!؟

 

وسادَ الصمت من جديد إلى أن قالت إحدى صديقاتي:

 

- نشكرُه على ماذا؟ على ما كان يُحاولُ فعله خلف ستار غرفة القياس!؟!

 

وبمجرّد سماعي "غرفة القياس"، تذكّرتُ فورًا الفتاة التي ماتَت. عندها سألتُها بهدوء:

 

- أخبريني ماذا كان يُحاولُ فعله... أرجوكِ.

 

والذي عرفتُه منها ومِن جميع صديقاتي، هو أنّ عمّي كان يُحاولُ التحرّش بهنّ لكن بطريقة لبقة جدًّا، أي وكأنّه يأخذُ لهنّ القياس وليس أكثر. لكن الفتيات والنساء تعرفنَ جيّدًا عندما تكون اللمسات غير سليمة مِن دون الحاجة إلى إثبات. ولهذا السبب لَم تعد صديقاتي تذهبنَ معي إلى محلّ عمّي، كل واحدة منهنّ بذريعة مُختلفة. سكتُّ مطولا، ومِن ثمّ أكدّتُ لهنّ أنّني لَم أكن أبدًا على علم بشيء، وعدتُ إلى البيت مُحبطة. هل يُعقَل أن يكون الرّجل الذي كان مثالي الأعلى، إنّما هو مُجرّد سافل يهوى الصبايا الصغار ويُحاول استغلالهنّ؟ لَم يخطر ببالي في ذلك اليوم أنّه أيضًا قاتل، فهكذا فظاعة أكبر مِن أن يتحمّلها عقلي الصغير.

 


لَم أعُد مُتحمّسة لزيارة عمّي بعد الذي سمعتُه، لكنّني لَم أرد إزعال أبي الذي سألَني لماذا توقّفتُ عن زيارة أخيه بعد أن أعرَبَ هذا الأخير عن عدَم فهمه لابتعادي عنه. فالجدير بالذكر أنّ والدي كان يتمنّى ضمنًا أن أتعلّم مهنة الخياطة مِن عمّي وأصبح يومًا مشهورة مثله. وبعدما سمعتُ توبيخًا قويًّا، ذهبتُ إلى محلّ سامر على مضض. وما حصَلَ هناك سرّعَ باقي الأحداث.

فحين وصلتُ المحلّ، وجدتُ هناك سيّدة مع إبنتها المُراهقة توّد خياطة فستان لها بمناسبة فرح كبير. وبالطبع عَرَضَ عمّي على الفتاة دخول غرفة القياس. وإذ بي أصرخُ في تلك اللحظة للصبيّة بأعلى صوتي:

 

- لا! لا تدخلي! لا تدخلي!

 

نظَرَت الزبونتان إليّ باندهاش وعمّي بِغضب شديد. وأنا شعرتُ بالإرتباك لكنّني لَم أتراجع قائلة:

 

ـ أنا آسفة... لقد رأيتُ صرصارًا وراء الستار... لِما لا تأخذُ مقاسها هنا يا عمّي؟ فقد ترعبُها الحشرات.

 

جرى القياس كما أردتُ ورحلَت السيّدة مع ابنتها. عندها أقفَلَ عمّي باب المحل، وقدِمَ نحوي والشرّ في عَينيَه:

 

ـ ماذا فعلتِ أيّتُها المجنونة؟!؟

 

ـ أعرفُ ما تفعله وراء الستار، يا عمّي... ولن أسمَحَ لكَ بأن تستغلّ الفتيات بعد الآن.

 

ـ لن تسمحي لي؟!؟ بل سأسكتُكِ أيّتها الفضوليّة! سأسكتُكِ إلى الأبد كما فعلتُ بـ...

 

ـ يا إلهي! يا إلهي!

 

ركضتُ نحو الباب، لكنّه كان مقفلاً، وبدأتُ أصرخُ كالمجنونة لِدرجة أنّ المارّة توقّفوا أمام واجهة المحلّ الزجاجيّة عند سماع صوتي. لِذا أضطرّ عمّي أن يفتَحَ لي الباب. وصلتُ البيت خلال دقائق معدودة، وحين بدأتُ بإخبار أمّي عمّا حصل، لَم تفهم شيئًا لكثرة لهاثي، فأجلَسَتني وطلَبَت منّي أن أهدأ وجلبَتَ لي كوبًا مِن الليموناضة. بعد دقائق، رويتُ لوالدتي كلّ ما جرى والذي أعرفُه وأشكُّ به. إستمعَت أمّي لي جيّدًا ثمّ قالَت:

 

ـ هذا اتّهام خطير يا إبنتي... هل أنتِ واثقة مِن الذي تقولينَه؟ فسِمْعة عمّكِ على المحكّ.

 

ـ هل سِمْعة عمّي أهمّ مِن سِمْعة وشرف... وحياة تلك الصبايا؟

 

ـ حسنًا... دَعي الأمر لي.

 

لَم تخبر أمّي والدي شيئًا، فهو كان مفتونًا بأخيه لدرجة كبيرة، إلا أنّها اكتفَت بالإتصال بالشرطة تحت إسم مُستعار لإخبارهم بأنّ القاتل قد يكون ذلك الخيّاط المشهور، وأنّه يتحرّشُ بزبوناته اليافعات عند أخذ القياس لهنّ. وأقفلَت الخط فور انتهائها مِن تلك الكلمات. وفي المساء قالت لي:

 

- فعلتُ ما بوسعي... سنرى ما الذي سيحصل... وحتى ذلك الحين، إيّاكِ أن تقتربي مِن محلّ عمّكِ أو أن تتبادلي الكلام معه وإيّاكِ أن تُخبري أباكِ أيّ شيء، فلا تنسي أنّه أخوه.

 

إطمأنّ قلبي لأنّ أمّي صدّقَتني، وعملَت ما يُمكنُها لإبعاد ذلك الشرّير عن الفتيات، وبدأنا ننتظر المُستجدّات.

وقَعَ عمّي في شباك العدالة، بعدما بعثَت إليه شرطيّة يافعة المظهر إدّعَت أنّها زبونة. وبالطبع لَم يستطع سامر تمالك رغباته الشاذّة، وأقدَمَ على لمسها بشكل واضح جدًّا. وعندما قاومَته الشرطيّة وهدّدَت بفضحه، هدّدَها هو الآخر بإسكاتها، لا بل بقتلها إن تفوّهَت بكلمة واحدة. تمّ القبض عليه على الفور، واقتيدَ إلى المركز حيث بدأ المحقّق باستجوابه. وبعد أيّام طويلة مِن التحقيق، إعتَرَف سامر أخيرًا بأنّه قتَلَ خنقًا تلك الصبيّة كي لا تفضح أمره بعد أن حاوَلَ اغتصابها. فلأنّه يعرفُ عنوان بيتها بسبب كون أمّها زبونه لدَيه، تربَّصَ بها ذات يوم وجرّها إلى احدى الأزقّة حيث قتلَها.

قضى عمّي عمره في السجن إلى أن ماتَ بسكتة قلبيّة ولَم يأسف أحد عليه. لَم يعرف أبي أنّني وأمّي كنّا وراء سجن أخيه. وبالرّغم مِن أنّه مَنَعنا مِن ذكر إسمه في البيت، فإنّ جزءًا منه بقيَ يعتقدُ أنّ سامر كان ضحيّة افتراء. وهو لَم يعلم أنّ عمّي قام بتهديدي مُباشرة مُتناسيًا رابط الدم أو حتى أبسط المبادئ الأخلاقيّة. نعم، كان سامر فعلاً رجلاً سيّئًا آذى العديد مِن الفتيات جسديًّا ومعنويًا، وجلَبَ العار لعائلته وأهله.

وحين كبرتُ وأنجبتُ ابنتي، لَم أدعَها تذهب لوحدها إلى أيّ مكان قبل أن تكبر وتفهم مدى أذيّة الصنف البشريّ. ومهما فعلتُ، لن أشكر أمّي كفاية لأنّها وثقَت بي وصدّقَتني، فكم مِن الأهل يُسكتون أولادهم مِن أجل التستّر على العائلة، وكأنّهم يُفضّلون سِمْعتهم على سلامة الذين مِن واجبهم حمايتهم مِن أيّ كان.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button