حاولتُ أكثر مِن مرّة الرّجوع بالذاكرة لأجد ولو سببًا واحدًا يُبّرر كره سامية، أخت زوجي، لي. قد يقول البعض إنّ تلك الأمور شائعة وتحصل غالبًا في العائلات، لكنّني اختَرتُ كلمة "كره" عن قصد، ولو وجدتُ تعبيرًا أقوى بعد، لاستعملتُه لأصف شعور تلك الإنسانة المعدومة الشفقة.
فلحظة ما دخلتُ بيتهم، نظَرت إليّ سامية، وتطايَر الشرّ مِن عَينَيها وكأنّها تقول لي: "ستَرَين ما سأفعلُه بكِ". إلا أنّني اعتقدتُ أنّها ستلين حالما تتعرّف إليّ أكثر، وترى أنّني امرأة مسالمة ومُحبّة، وأنّني لا أريد سوى إسعاد رؤوف زوجي وعائلته المؤلّفة مِن أب وأمّ وأخت. أحببتُ زوجي وهو بادلَني بالمثل، لِذا لم أكن خائفة مِن أحد، لكنّني كنتُ غير مدركة لقوّة إقناع سامية وكميّة البغض الذي يسكن قلبها.
أوّل شيء فعَلَته سامية كان حمل أبوَيها على كرهي. لكن، لغياب أسباب لذلك، بقيَ عمّي يكنّ لي مودّة صادقة. أمّا، بما يخصّ حماتي، فتأرجحَت بين استلطافي والامتعاض منّي، لأنّها كانت تثق بابنتها وهي التي كانت تهتمّ بكلّ شيء أثناء غيابات رؤوف الذي كان يترك المنزل لأيّام طويلة للقيام بعمله في أرجاء البلاد. وعلى مرّ الأشهر، صِرتُ محطّ ملاحظات وتلميحات مؤذية مِن قِبَل سامية وأمّها، وذلك أمام زوجي الذي كان يطلب منّي التحمّل، واثقًا مِن أنّ الأحوال ستهدأ حالما أعطيهم أوّل طفل.
لكن حتى بعدما أنجبتُ، بقيَت الأحوال كما هي، وسرعان ما أصبَحَ ولَدي هو الآخر ضحيّة سكّان البيت.
أخبرتُ أهلي بالذي يحصل لي، لكنّهم لم يُحرّكوا ساكنًا، فأمامهم كانت حماتي وابنتها تثنيان عليّ. وبتُّ أنا الشرّيرة التي لم تكن تقدّر الأناس الطيّبين، فاختَرتُ السكوت والصبر.
وُلِدَ إبننا الثاني ثمّ الثالث، وبدأتُ ألاحظ تغيّرًا بمعاملة رؤوف لي. فمع أنّه كان لا يزال يُحبّني، صار يشترك بالتهجّم عليّ وانتقادي، وكأنّني لم أعد نافعة لشيء. وحين كنّا نذهب إلى النوم وأسأله لماذا يتهجّم عليّ هكذا، كان يبتسم ويُعانقني قائلاً: "لا يجدر بكِ أن تكوني حسّاسة إلى هذه الدرجة حبيبتي". وكنتُ أغمضُ عَينَيَّ طالبة مِن الله ألا ينقلب زوجي ضدّي، وإلا باتَت حياتي جحيمًا بين هؤلاء الناس. المشكلة الوحيدة التي كانت موجودة بيني وبين زوجي، كانت عدَم مشاركته حبّه للسهر، ليس لأنّني لم أكن أهوى ذلك، بل لأنّ وجود أولاد ثلاثة معي طوال النهار كان يُرهقني ولم يكن يُساعدني بهم أحد. ففي آخر النهار، كنتُ فعلاً أتمنّى شيئًا واحدًا وهو الخلود إلى الفراش، لإراحة جسدي المتعب ورأسي المليء بالصراخ. وكان رؤوف حتى ذلك الحين يكتفي بلقاء أصدقائه مرّة في الأسبوع في أحد المقاهي، إلا أنّه بدأ يخرج كلّ يوم تقريبًا ليعود فرحًا مدندنًا أغنيات شعبيّة. وعندما أسألُه عن مكان تواجده كان يجيب: "لا عليكِ أنتِ".
كان مِن الواضح أنّ زوجي قد تبدّل وبشكل ملحوظ، فتهكّمه عليّ وغياباته كانا يدلان على وجود أمر جديد في حياته. ووسط تساؤلاتي العديدة بشأن هذا الموضوع، أتَت لي سامية بالأجوبة المنتظرة:
ـ مِن الجيّد أنّ أخي بدأ يعي الخطأ الذي اقترفَه عندما تزوّجكِ.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ أقصد أنّ رؤوف وجَدَ أخيرًا المرأة المناسبة.
ـ لا أصدّقكِ، فلطالما أحبَبتِ أذيّتي بكلامكِ، يا سامية.
ـ ليس فقط بالكلام، يا حبيبتي... بل ساهمتُ بطريقة مباشرة بإسعاد أخي... سأقولها بشكل واضح لأنّ فهمكِ بطيء... عرّفتُه على صديقة لي وقد نالَت إعجابه بفضل شبابها وحبّها للحياة... فهي ليست مثلكِ، بومة تتذمّرين طوال النهار وبالكاد تبتسمين، ناهيكِ عن تعبكِ الدائم وحبّكِ للنوم.
ـ أوّلاً، أنا لا أتذمّر طوال النهار وإلا أقنعتُ زوجي بالرحيل مِن هنا منذ زمَن طويل... ثانيًا، لا أبتسم لأنّني لستُ سعيدة وسطكم ولا أحبّ طريقة تعاملكم معي... ثالثًا، أنا دائمة التعب لأنّ لدَيَّ ثلاثة صغار أهتمّ بهم، إضافة إلى عملي في بيت لا تشائين تنظيفه بل تعملين فقط على توسخيه... أخيرًا، أحبّ النوم لأنّه يأخذني إلى مكان بعيد عنكِ ولو كان ذلك لساعات قليلة.
ـ ها ها ها! صِرتِ تعرفين كيف تجيبين؟ لن ينفعكِ ذلك بعد اليوم، فسيتزوّج أخي قريبًا ويرميكِ أنتِ وقرودكِ خارجًا!
بدأتُ أرتجف مِن الغضب، وتمنَّيتُ لو أنّني قادرة على صفعها ولكنّ ذلك لم يكن مِن شيَمي. بل انتظرتُ أن يعود رؤوف مِن سهرته التي بدَت لي وكأنّها لن تنتهي.
عندما قرَّرَ زوجي أخيرًا المجيء إلى البيت، كان في حالة لا تسمح لي بمفاتحته لكثرة فرحَه الذي لم يحاول حتى إخفاءَه. لِذا، أدَرتُ له ظهري وتظاهَرتُ بالنوم. أمّا هو، فلَم يلقِ حتى التحيّة عليّ، وكأنّني جزء مِن الأثاث.
في صباح اليوم التالي، قرّرتُ عدَم مواجهة رؤوف، خوفًا مِن أن يكون كلام سامية فخًّا هدفه زرع الفتنة بيني وبينه. فلَم يكن لدَيَّ دليل قاطع على خيانة زوجي لي أو رغبته بالزواج مِن غيري.
وصمَّمتُ على أن أستعيد زوجي باستمالته إليّ مِن جديد. فاستعمَلتُ دلَع النساء، وهو سلاح يعود إلى دهور طويلة، إستعانَت به كلّ اللواتي سبقَتني. وهكذا وجدتُ نفسي حبلى لرابع مرّة، وعلمتُ بفرح أنّني سأرزق ببنت. لقيَ الخبر الابتهاج نفسه عند رؤوف الذي كان يحلم بابنة يُدلّعها. كنتُ سأنتصر أخيرًا على الشرّيرة سامية، وعادَت إليّ بسمة فقدتُها لسنوات.
لكنّ أخت زوجي كانت مستمرّة بخطّتها وأوشكَت على الوصول إلى مبتغاها. ولتفزعني وتتخلّص منّي، قالَت لي عندما بقيَ على ولادة إبنتي أسبوع واحد:
ـ حين تولَد ابنتكِ سآخذها منكِ وأطردكِ مِن البيت... وسأردّها إليكِ في علبة صغيرة.
ـ يا إلهي! أيّة مخلوقة أنتِ؟ كيف تتكلّمين عن إبنة أخيكِ هكذا؟
ـ أليست ابنتكِ؟ فهذا كافٍ لأكرهها.
ـ إلى درجة التخطيط لقتلها؟!؟
ـ وأكثر مِن ذلك أيضًا!
لو كان رؤوف موجودًا في تلك اللحظة لأخبرتُه بما يجري، لكنّه كان غائبًا كعادته متحجّجًا بإحدى سفراته الإعتياديّة. لِذا، اضطررتُ لانتظاره أيّامًا طويلة وأنا أغلي مِن الغضب والخوف مِن أن ألِد قبل أن يعود وتنفّذ سامية تهديدها لي.
لكنّ القدر شاء أن يجيء زوجي قبل يوم واحد مِن إبصار ابنتنا النور. ركَنَ سيّارته أمام البيت، وأطلَقَ بوقَها كما يفعل دائمًا عندما يعود مِن رحلته. وكالعادة أيضًا، ركَضَ الأولاد إلى الخارج لاستقباله ولأخذ هداياهم منه. إلا أنّني، وعلى غير عادتي، بقيتُ جالسة في الداخل. إستغرَبَ زوجي الأمر ودخَلَ مهمومًا وسألَني إن كنتُ بخير. فأجبتُه:
ـ لم أخرج لاستقبالكَ لتعتاد على عدم وجودي في البيت وفي حياتكَ... إن كنتَ تظنّ أنّني سأبقى لحظة واحدة هنا فأنتَ مخطئ... حقائبي جاهزة ولن تراني مجدّدًا ولا ابنتكَ... ستقرّر المحكمة مصير الأولاد الباقين، وأنا متأكّدة مِن أنّني سأحصل على حضانتهم عندما يعرف القاضي أيّة فتاة تريد الزواج منها وتوكيل ذريّتنا لها... تحمّلتُ أذى عائلتكَ بصمت بسبب حبّكَ لي، ولكن ها أنتَ تضرب كلّ ما بيننا عرض الحائط، وسأفعل مثلكَ تمامًا... عُد إلى عشيقتكَ، فلم تعد الرجل الذي أحبَبتُه.
ـ ولكن... لا أزال أحبّكِ.
ـ أنتَ كاذب! هذا ليس حبًّا يا عزيزي، بل أنانيّة! أنا راحلة!
ـ ماذا تريدين أن أفعله كي تبقي؟
ـ الولادة أصبحَت قريبة جدًّا... سأذهب الآن إلى بيت أهلي بانتظار مجيء ابنتنا... إن كنتَ تحبّني كما تدّعي، فستفتّش في هذه الأثناء عن مسكن آخر... لن أعود إلى هنا أبدًا. وإن لم تفعل، فهذا يعني أنّ كلّ شيء انتهى بيننا.
رحلتُ في تلك الليلة واعدة أولادي أنّني سأعود مِن أجلهم.
بعد يومَين، جاء رؤوف لرؤيتي وابنتي في المشفى، وأمسَكَ بيدي واضعًا فيها مفتاحًا. ثمّ قال: "مسكننا الجديد... هو صغير بعض الشيء، فلم أجد أفضل منه بسبب ضيق الوقت... سامحيني."
يا لَيتَني استطَعتُ رؤية وجه سامية عندما أخَذَ زوجي أمتعتنا وأولادنا مِن البيت، فذلك هو مشهد لا يفوّت! إلا أنّني علمتُ مِن إبني البكر أنّها بدأَت تشتم رؤوف وتهدّده، وجلسَت على الأرض تمزّق ثيابها وتشدّ بشعرها مِن كثرة غضبها. ومنذ ذلك الحين لم يسمح لها زوجي بالتدخّل في حياتنا بأيّ شكل، لكنّني متأكّدة مِن أنّها لم تكفّ عن حياكة المكائد لتدميري. إلا أنّ الحب أقوى بكثير مِن الشرّ، وعندما تتّحد العائلة، لا يُمكن لشيء أو أحد أن يُزعزعها.
حاورتها بولا جهشان