فقدَ زوجي عقله

هذه قصّة كل إنسان يرفض الانصياع إلى المنطق والعلم والتطوّر ويفضّل البقاء كما هو خوفاً مِن كلام الناس. وهي قصّة زوجي توفيق الذي أحبَبتُه مِن كل قلبي وانتظرتُه وقتاً طويلاً حتى إستطاع تركيز وتجهيز نفسه للزواج. وأمضَينا أجمل الأيّام سويّاً وكنتُ متأكّدة أنّنا سنعيش حياة هنيئة.

كان توفيق شاباً وسيماً ومحبّاً ومهذّباً وكان ابن عائلة محترمة وراقيّة وحين عَلِمَ الناس عن ارتباطنا جاؤوا مهنّئين لِكثرة التجانس بيني وبين عريسي. ومضَت أوّل سنة على زواجنا عشنا خلالها حبّنا بِفرح وانسجام ولكن بعد فترة بدأ يتغيّر مزاج توفيق.

في البدء كانت أمور بسيطة لا تُلحَظ وردَدتُ سببها إلى بعض المشاكل التي كان يواجهها زوجي في عمله. ولكنّ الأمر بدأ يتصاعد حتى أن وصَلَ الأمر إلى عدم قدرته على التحاور. فكل كلمة كنتُ أقولها له كانت تثير إزعاجه وغضبه حتى أن بدأتُ أفضّل السكوت.

ولكن عندما اكتشفتُ أنّني حامل كان عليّ أخباره بأنّه سيصبح أباً وظننتُ أنّ الخبر سيلطّف طباعه ولكنّه تصرّف بِشكل قبيح جداً:

 

ـ ماذا؟ حامل؟ هذا ما كان ينقصني!

 

ـ لماذا تقول ذلك يا حبيبي... هذا الجنين هو الأوّل وهو ثمرة حبّنا... عليك أن تفرح لِوصوله.

 

ـ أفرَح؟ وما المُفرِح في الأمر؟ جوّ المنزل هادئ وسينقلب إلى جحيم مع صراخ وبكاء هذا ال... هذا المخلوق!

 

ـ يا إلهي! ما الذي يحدث لكَ يا توفيق؟ لماذا تغيّرتَ لهذه الدرجة؟ أنسيتَ كيف كنّا نخطّط للإنجاب وكيف قبل زواجنا حتى كنّا نفكّر بالاسم الذي سنعطيه لابننا أو بنتنا؟

 

ـ هذا كان قبل الزواج! دعيني وشأني الآن... لقد تسبّبتِ لي بصداع حاد.

 

وككل امرأة عاقلة قرّرتُ تمرير هذه الفترة الصعبة على أمَل أن تزول بِسرعة كي أستطيع عَيش بِفترة الحمل دون تشنّج.

 


ولكنّ في أحد الأيّام عادَ توفيق مِن عمله ملطّخاً بالدماء والكدمات. وعندما رأيتُه في هذه الحالة ركضتُ لإسعافه ولِسؤاله عمّا حدث خاصة أنّه عادَ إلى البيت في وقت مبكّر جدّاً. ولكنّه أزاحَني مِن طريقه وطلَبَ منّي ألاّ أتدخّل وتوجّه فوراً إلى الحمّام وأقفلَ الباب وراءه.

عندها اتصلتُ بِمكان عمله وتكلّمتُ مع السكرتيرة التي كانت معتادة على اتصالاتي. وأخبرَتني تلك الفتاة أنّ زوجي تشاجرَ مع أحد زملائه وتهجّمَ عليه ما أستدعى تدخّل أمن الشركة وطرده مِن قِبَل المدير. وعندما سألتُها عن سبب الشجار أجابَت:"حول فنجان قهوة."

وجلستُ مذهولة لِما سمعتُه أفكّر بالتحوّل الذي حصل بِشخصيّة زوجي.

وخَرَج توفيق أخيراً مِن الحمّام بعدما نظّفَ نفسه ومِن دون أن ينظر إليّ تركَ البيت. ولأنّه لم يعد في تلك الليلة اتصلتُ بأهله خوفاً عليه وأخبرتهم بالذي حصل. استغربَت والدته كثيراً لأنّ ابنها ومنذ صغره كان إنساناً هادئاً ومسالماً. وأخذنا نتّصل بالمستشفيات وأقسام الشرطة ولكن مِن دون جدوى. وفي الصباح عاد توفيق والشر بعينَيه. صرخَ بي قائلاً:

 

ـ مَن أذَنَ لكِ بإخبار أهلي؟ هل أنتِ جاسوسة؟ بلى أنتِ جاسوسة وظّفتها الحكومة للتجسّس عليّ... ولكنّكِ لن تحصلي على أي معلومة منّي! أنا جبّار!

 

ـ ماذا؟ جاسوسة؟ حكومة؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ ولماذا تهتمّ الحكومة بِموظّف بسيط؟ ما بكَ يا توفيق؟ ما الذي يحصل لكَ؟

 

ـ أنا في أحسن حال! خاصة بعدما تركتُ عملي.

 

ـ بل طُرِدتَ منه بِسبب فنجان قهوة.

 

ـ أرأيتِ؟ كنتُ على حق! تتجسّسين عليّ!

 

ـ بل أحاول فهم الذي يجري.

 

ـ أنا سعيد! سعيد! سعيد! هذا كل ما يجري... الآن دعيني وشأني فرأسي يؤلمني.

 

وركضَ إلى غرفة النوم بعد أن أقفلَ الباب وراءه بالمفتاح. عندما رأيتُ زوجي يتصرّف بهذه الطريقة الغريبة اتّصلتُ بِطبيب العائلة ووصفتُ له ما يجري فأعطاني رقم أخصائيّ في الأعصاب مشدّداً على ضرورة استشارته لأنّ توفيق قد يشكّل خطراً على نفسه وعلى الآخرين. وانتظرتُ حتى استفاق زوجي وقلتُ له بِكل هدوء:

 

ـ حبيبي... عليكَ الذهاب إلى الطبيب.

 

ـ لماذا؟ أنا بألف خير!

 

ـ صحيح ذلك ولكن... رأسكَ يؤلمكَ باستمرار... ألاّ تريد أن تتحسّن؟

 


ـ بلى ولكنّني سأكتفي بأقراص لِوجع الرأس... دعيني بِسلام... كم أنّكِ مزعجة أحياناً!

 

ـ لم أكن أزعجكَ مِن قبل.

 

ـ هذا قبل أن تصبحي جاسوسة عند الحكومة!

 

وفضّلتُ إنهاء النقاش قبل أن يغوص في أفكاره الغريبة وطلبتُ مِن الله أن يجد لنا مخرجاً لأزمتنا. ولكنّني بقيتُ أصِر على توفيق أن يذهب إلى الطبيب وبقيَ يرفض:

 

ـ أعرف ما يجول برأسكِ... تريدينني أن أقتنع بأنّني مجنون... لن أقبل بذلك!

 

وحاولتُ إيجاد المساعدة مِن أهله الذين هم أيضاً رفضوا فكرة مرض ما عند ابنهم. فقالت لي حماتي:

 

ـ لماذا لا تستعملي دهائكِ كامرأة لِتهدئته؟ ابني يمرّ بِفترة صعبة وعليكِ مساندته لا الصاق تهمة الجنون عليه!

 

ـ تصرّفاته خطرة... لقد جرّبتُ كل شيء معه... أرجوكِ أن تحاولي إقناعه... لن نخسرَ شيئاً... انتِ مدرّسة وزوجكِ محامٍ... أنتما مثقّفان وتشجّعان دائماً الناس على الانفتاح والتقدّم... ما بكما؟؟؟

 

ـ ابني ليس مجنوناً!

 

وأقفلَت الخط بِغضب. ولا أدري ما كان سيحل بِتوفيق أو بي لولا ما حدَث بعد حوالي أسبوعَين.

فعندما كان توفيق يأخذ حمّامه سمعتُه يصرخ بِطريقة مخيفة. دخلتُ الحمّام ورأيتُه جالساً بِقعر المغطس ماسكاً رأسه يردّد: "لم أعد أحتمل... لم أعد أحتمل." عندها طلبتُ سيّارة اسعاف ونقلتُه فوراً إلى المستشفى. ولم يقاومنا لِشدة ألمه وإلاّ ما اكتشفنا حقيقة حالته.

فبعدما أجرى له الأطبّاء كافة الصوَر والتحاليل عثروا على ورَماً في دماغه. وهذا ما قاله لي الأخصّائي:

 

ـ سيّدتي... مِن حسن حظّ زوجكِ أنّه أتى إلينا الآن... هذا الورَم موجود في رأسه منذ زمَن بعيد وقد يعود سببه إلى حادث تعرّض له عندما كان صغيراً. وبات يكبر شيئاً فشيئاً حتى أن بدأ يؤثّر على مناطق هامّة في الدماغ تلك التي تغيّر المزاج وتوّلد هلوَسة...

 

ـ ما العمل يا دكتور؟

 

ـ سنزيل الورَم ولكن علينا فتح الجمجمة والعبَث بِمنطقة جدّ حساسّة... لِذا عليكِ أن توقّعي على هذه الورقَة التي ترفَع عنّا أي مسؤوليّة.

 

ـ يا إلهي! وإن لم تُجرى العمليّة... ماذا سيحدث؟

 

ـ سيغوص زوجكِ في الجنون وقد يفقد السيطرة على أعصابه ويؤذي نفسه ومَن حوله... أرى أنّكِ حامل... مجيء طفل وهو بهذه الحالة قد يثير غضبه إلى أقصى حد... أنصحكِ بالابتعاد عنه.

 

ـ لن أتركَ زوجي لأي سبب... سأوافق على العمليّة وأتكّل على الله.

 

وبعد ساعات عديدة خرجَ توفيق مِن غرفة العمليّات إلى غرفة العناية الفائقة. وعندما دخلتُ لأراه كان غارقاً في غيبوبة اصطناعيّة. لَزِمَه وقتاً طويلاً قبل أن تعافى. وعندما عادَ إلى وعيه الكامل خفتُ كثيراً أن تكون قد أثّرَت على عقله أو جسده أو حتى أن تكون قد فشلَت العمليّة. ولكن عندما ناداني بإسمي ونظَرَ إليّ رأيتُ أمامي توفيق الذي أحببتُه. وبكيتُ كثيراً ولكن مِن الفرح وعلِمتُ أن حياتي ستعود إلى ما كانت عليه خاصة أنّ المولود كان على وشك الانضمام إلى عائلتنا.

وحين ولِدَت سارة كان توفيق الأكثر سعادة لأنّه تمنّى أن ينجبَ بنتاً لِيعطيها اسم جدّته التي كانت تعني الكثير له. وعندما أخبرتُه عما جرى عندما كان في حالة الجنون هزّ برأسه وقال: "لقد أنقذتِ حياتي... لا أصدّق أنّ أهلي لم يساندوكِ وخافوا على سمعتهم... خلتُهم أكثر ثقافة وتحضّر...".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button