يوم أعلموني بموت أبي، شعرتُ بارتياح كبير، وأصبَحَ بإمكاني العودة إلى وطني. ماتَ الطاغي، ويا ليته فارَقَ الدنيا قبل أن يُدمّر حياة كلّ مَن كان حوله.
حزمتُ حقائبي وصعدتُ إلى الطائرة وقلبي مليئ بالحنين لأرض أجدادي. وافَتني أختي إلى المطار، واندهشتُ للخطوط العديدة التي ملأت وجهها، فهي بدَت لي وكأنّها عجوز مع أنّها كانت تصغرني بأعوام. تعانقنا وبكينا وصعدنا إلى سيّارة الأجرة التي توقّفَت أمام مدخل البيت، البيت الذي صرختُ فيه صرختي الأولى حين ولدتُ وصرختي الأخيرة قبل أن أهاجر.
دخلنا المكان بصمت، وأقسمُ أنّني سمعتُ صوت أمّي تناديني. إلا أنّها كانت مجرّد تخيّلات، لأنّ المسكينة توفّيت منذ مدّة طويلة بسبب مرض أصابَها مِن كثرة عذابها مع الطاغي.
قصدتُ غرفتي القديمة التي بقيَت كما كانت، وجلستُ على السرير أبكي بصمت. وضعَت أختي يدها على شعري لتواسيني:
ـ لقد انتهى عذابكِ، يا أختي.
ـ هل ستسامحيني على ترككِ؟
ـ سامحتُكِ منذ سنوات.
ـ كان يجدر بي أن أبقى لحمايتكِ وليس الهرب كالجبان.
ـ لو بقيتَ هنا لقتلكَ... لم تكن كبيرًا كفاية لتحسن الدفاع عن نفسكَ وعنّي.
ـ سامحيني!
لم أنَم في غرفتي في تلك الليلة أو حتى في البيت كلّه، بل أخذتُ غرفة في فندق وعادَت أختي إلى مسكنها. إتّفقنا أن نلتقي في اليوم التالي لنتحدّث عمّا حصَلَ لكلّ منّا خلال سنوات الفراق.
وفي تلك الليلة، عادَت إليّ ذكريات الماضي الأليم ولم تغمض لي عين.
كلّ شيء بدأ حين أُغرِمَت أمّي بذلك الشاب الطموح الذي كان يعمل على مدار الساعة لجمع ما يكفي ليُنفّذ المشاريع العديدة التي كان يحلم بها. كان فقيرًا ولكن ذكيًّا وما هو أهمّ، يكره فقره وكلّ الذي يشدّه إلى حالته البائسة، بدءًا مِن والدَيه وأخوته. كان يحتقرهم لأنّهم راضون بما هم عليه.
سنوات زواج والدَيَّ الأولى كانت صعبة لضيق المال، إلا أنّ والدتي فهمَت أنّ زوجها بحاجة إلى تلك الفترة لينطلق كما يجب، لِذا تحمّلَت بصمت وحكمة.
وبدأَت تتحسّن أحوالهما بفضل حنكة أبي وولعه بالأعمال والتجارة. وعندما ولدتُ، كان والدايَ قد انتقلا إلى شقّة شبه مقبولة، بعد أن سكنا في خربة لا تصلح للعيش فيها.
كانت طفولتي هادئة، لأنّ أمّي كانت دائمة الصمت وأبي غائبًا لجمع المال. كنتُ ألعب لوحدي وأختلق لنفسي الأصدقاء كي أملأ فراغًا موحشًا. وسرعان ما اكتشفتُ أنّ لي ميلاً للأزياء، فبدأتُ أقصّ قطعًا مِن القماش وأصنع منها ملابس لدمى أمّي التي جلبتها معها مِن منزل أبوَيها كي لا تشعر بالوحدة. وكان ولَعي بالإبرة والخيط كبيرًا، ولا أدري مِن أين ولِدَت مهارتي بالخياطة. شجّعَتني والدتي على المواصلة، وأنا وعدتُها بأن أصمّم لها يومًا أجمل الفساتين لترتديها حين نصبح أثرياء كما بقيَ يردّد لنا أبي.
إلا أنّ براعتي هذه لم تعجب والدي، بل اعتبرَني شبيهًا بالبنات. ففي عقله المُغلَق، كانت الخياطة مخصّصة للإناث وعلى الصّبيان أن يلعبوا بالكرة أو السيّارات أو الأسلحة البلاستيكيّة. لِذا كان لا يُفوّت فرصة لتوبيخي وتقطيع تصاميمي الصغيرة. ولم يكن بكائي أو صراخي يردعه بل يُؤجّج وحشيّته.
ولِدَت أختي وارتاح قلبي قليلاً، لأنّها كانت ستلهيني عن عالمٍ صامتٍ مِن جهّة ومؤذٍ مِن جهّة أخرى. وصبّ والدي آماله عليها بعد أن اعتبرَني غير نافع، وصارَ يأخذها معه أينما يذهب لتتعلّم منه أصول التجارة، حتى ولو كانت لا تزال في سنّ صغير للغاية. وخلال غيابهما، كنتُ أعود إلى التصميم والخياطة، وكانت أمّي تساعدني قدر ما تشاء.
في أحد الأيّام، خلال حفل أُقيمَ في المدرسة لمكافأة مهارات التلامذة، حصلتُ على الجائزة الأولى بفضل تصاميمي. كان أبي حاضرًا وإذ به يقف ويقول للجميع:
ـ ما هذه المدرسة التي تشجّع تلامذتها على التخنّث؟ هذا ليس صبيًّا بل فتاة! لو لم يكن منّي لرمَيتُه خارج بيتي!
ومنذ ذلك اليوم، أصبحتُ مضحكة رفاقي الذي بدأوا يُنادوني بالمخنّث لدرجة أنّني رفضتُ العودة إلى المدرسة. إرتاحَ قلب أبي لقراري هذا قائلاً: "حسنًا فعلتَ... هكذا لن أكون عرضة للسخرية... إلزم البيت يا... آنسة!"
لم ألزِم البيت، بل هو أجبَرني على ذلك بعد أن أمَرَ أمّي بعدم السماح لي بالخروج أو مقابلة أحد. كان عليّ أن أختفي عن وجه الأرض، أنا العار الأكبر على رجل قويّ مُفعَم بالرجولة.
وبالرّغم مِن محاولات والدي العديدة لتحريض أختي ضدّي، فقد بقيَت تدافع عنّي وتقف في صفّي كلّما حاوَلَ إيذائي. فالجدير بالذكر أنّه كان يضربني، هذا قبل أن أكبر وأتمكّن مِن الدفاع عن نفسي. كان يضربني بوحشيّة، ويُبقيني أيّامًا مِن دون أكل كي "أفهم معنى الرّجولة". لحسن حظّي كانت أختي تمرّر الأكل لي خفية، بينما كانت أمّي ترتجف خوفًا وتنصاع لأوامر زوجها. فكنّا قد صرنا أغنياء ولم يكن مِن الجائز أن نصبح محطّ كلام الناس، الأمر الذي فهِمَته والدتي جيّدًا. كنتُ أسمعُها تبكي في الليل، وحين أركض إليها لأواسيها كانت تقول لي: "عليكَ أن ترحل مِن هنا... أهرب بعيدًا عنه، فقد يقتلكَ يومًا."
لم أتصوّر أنّ أبي كان فعلاً قادرًا على شيء بهذه الفظاعة، لكنّني كنتُ مخطئًا. ففي أحد الأيّام، عرَضَ عليّ أن نذهب نحن الإثنَين في نزهة، الأمر الذي لم يحصل مِن قبل. ولكثرة فرحتي ركضتُ أوافيه في السيّارة. قادَ بي وقتًا طويلاً، ومِن ثمّ أوقَفَ المركبة في مكان خال مِن الناس وترجّلنا. كان المكان جميلاً للغاية وهواء الجبال نقيًّا ومريحًا. بقيَ أبي صامتًا وخلتُه يستمتع بالمنظر الخلاب. وإذ بي أرى في عَينَيه نظرة شرّ لا مثيل لها، فارتعبتُ، ولاحظتُ فجأة كم أنّنا قريبَان مِن حافة الوادي. أدركتُ بثانية أنّه ينوي دفعي إلى الأسفل فتراجعتُ بسرعة. صَرَخَ بي والدي: "عليّ إنهاء هذه المهزلة... عملتُ بكدّ طوال حياتي وعلى ماذا حصلتُ؟ على ابن مخنّث! هو نفسه الذي يحمل إسمي وسيُمرّره للأجيال القادمة! لن أسمح لذلك بأن يحصل!"
وقبل أن يتمكّن منّي، كنتُ صرتُ بعيدًا عنه. ركضتُ نحو أقرب قرية، ومِن هناك اتصلتُ بأمّي لاخبارها بما جرى. قالت لي: "إيّاكَ أن تعود إلى البيت أبدًا، أفهمتَ؟ إذهب إلى أخي وابقَ عنده... سأكلّمه على الفور."
وجدتُ خالي بانتظاري. أخذَني بأحضانه قائلاً إنّني بأمان معه وعائلته.
حاوَلَ أبي العثور عليّ، إلا أنّه لم يجدني في أيّ مكان، فصبَّ غضبه على زوجته وابنته وحوَّلَ حياتهما إلى جحيم.
في هذه الأثناء، دبَّرَ لي خالي أن أسافر إلى أوروبا عند صديق له. لم أشأ ترك البلد أو أّمّي وأختي، لكنّني كنتُ أعلم أنّني لن أتمكّن مِن إنقاذ نفسي أو غيري... فقد كنتُ لا أزال في الرابعة عشرة مِن عمري.
في الغربة، إستطعتُ متابعة دراستي بفضل برنامج خاص للأجانب، والتفرّغ للتصميم والخياطة. هناك يُشجّعون المواهب ولا يُطلقون التسميات السّاخرة على أحد. وبعد سنوات، أخذَني أحد المصمّمين تحت جناحَيه، وتمكّنتُ مِن إطلاق العنان لمواهبي. بقيتُ أتتبّع أخبار أمّي وأختي مِن خلال خالي، لكنّ الأمور لم تكن جيّدة بالنسبة إليهما. كانت أمّي قد أصيَبت بمرض خبيث وأختي تعيسة للغاية مع الطاغي.
بعد بضع سنوات، دبَّرَ أبي لأختي عريسًا ثريًّا يكبرها بعشرين سنة وأجبرَها على الزواج منه. كانت تعلم ما يُمكنه فعله لو وقَفَ أحد بوجهه، لِذا قبلَت بالزواج. أمّا أنا، فأصبحتُ مصمّمًا مشهورًا تركض إليه سيّدات المجتمع مِن كلّ أنحاء البلد وخارجها. هل صرتُ مثليًّا كما توقّع لي أبي؟ أبدًا، فلقد وقعتُ في حبّ صبيّة جميلة وأنوي الزواج منها، بعد أن كانت لي مغامرات عديدة مع أجمل النساء.
طلَعَ الضوء عليّ ولا أزال أتذكّر الماضي. تحضرّتُ للقاء أختي وفي قلبي غصّة، لأنّني لم أكن بالنسبة لها الأخ الحامي الذي تحلم به كل فتاة. وجدتُها بانتظاري في قاعة الفندق ومعها زوجها وولداها. كانت تبدو لي سعيدة برفقتهم. تحدّثتُ مع الزوج، ووجدتُه إنسانًا محترمًا ومحبًّا، فارتاحَ بالي على أختي. مكثتُ في البلد حوالي الشهر ذهبنا خلاله إلى ضريح أمّي وإلى المحامي للإطّلاع على الميراث الذي كان كبيرًا. لم أشأ أخذ قرش واحد مِن مال أبي ولم تكن أختي بحاجة إليه. لِذا وهبتُه لدار للأيتام وعدتُ إلى أوروبا، إلى حبيبتي التي أنوي قضاء حياة جميلة وطويلة معها.
أصبَحَ الماضي ورائي الآن، بعدما غابَ والدي عن الدّنيا، فبموته تحرَّرَت نفسي أخيرًا. أيّ أب سأكون لأولادي؟ الأب الحقيقيّ الذي يقبل أطفاله كما هم، ويُشجّعهم على إيجاد السعادة بتحقيق ذاتهم بأيّ طريقة كانت.
حاورته بولا جهشان