أنا مُتأكّد مِن أنّ قصّتي ستُثيرُ استغرابكم واشمئزازكم في آن معًا، خاصّة أنّني اليوم صبيّ في الثالثة عشرة مِن عمري، ولا ينبغي بي المرور بتجارب كهذه أو حتى العَيش وسط هكذا أناس. أقصدُ بِكلمة "أناس" أمّي ووالدتها وأختها. لكن دعوني أبدأ القصّة مِن أوّلها.
منذ ان فتحتُ عينَيّ على هذه الدنيا، وأنا أسمعُ صراخ والدَيَّ على بعضهما حتى باتَ الأمر شِبه عاديّ بالنسبة لي. فإذا كانت، صدفة أو لِسبب أجهلُه، الأجواء هادئة، كنتُ أشعرُ بالقلَق، خاصّة بعدما علمتُ أنّ والدَيَّ بإمكانهما تَرك بعضهما والعَيش كل منهما في بيت مُنفصِل. أعني بذلك طبعًا الطلاق، وهو مفهوم أطلعَني عليه أحد زملائي في المدرسة بعد أن تطلَّقَ والداه، وصارَ المسكين يحملُ أمتعته مِن مكان لأخَر كلّ أسبوع ليَسمَع الشتائم والاتهامات يتقاذفُها الجانبَان. كان مِن الواضح أنّ ذلك الصبيّ يتألّمُ كثيرًا، وفهِمتُ أنّني قد أجِدُ نفسي يومًا في الموقف نفسه. ومنذ ذلك الوقت أخذتُ أُصلّي بأن تَحِلَّ نِعمة الله علي أبي وأمّي، ويُصفّيان خلافاتهما لِيُحبّا بعضهما كما في الأفلام. فكنتُ أتوقُ الى الهدوء والتفاهم، على الأقلّ لأستطيع إنجاز فروضي المدرسيّة أو حتى النوم بِسلام والتوقّف عن رؤية أحلام مُزعجة ليلاً.
لكنّ الوضع لَم يصطلِح للأسف، وما كنتُ أخشاه حصَلَ أخيرًا. بكيتُ كثيراً وتوسّلتُ أكثر، لكن ما مِن شيء غيّرَ رأي هذَين الشخصَين اللذَين أكلَتهما الأنانيّة.
عادَت والدتي الى منزل أمّها واستأجَرَ والدي شقّة صغيرة، فلَم يشأ أيّ منهما البقاء في البيت الذي شهِدَ هذا الكمّ مِن الشجار والألَم والمُناكفات.
لحِقتُ بأمّي بعد أن خيّرَني أبي، لأنّني كنتُ في العاشرة مِن عمري وبِحاجة بعد إلى حنانها. حنانها؟ لَم أجِد شيئًا منه فور دوسها ذلك البيت المليء بالإثم والشذوذ، وندِمتُ كثيرًا لأنّني لَم أختَر أبي.
فما لَم أكن أعلمُه حين سكَنتُ منزلها، هو أنّ جدّتي لم تكن أمًّا صالحة لِبناتها على الإطلاق، بل هي كانت أصل المصيبة التي عانى منها والدي ولاحقًا أنا. وعندما يتكلَّم المرء عن جدّته، يتصوّرها الناس إمرأة كبيرة في السنّ وحنونة وحكيمة، تفعلُ جهدها لِحلّ المشاكل والتقريب بين الناس. وما هو أهمّ، إنسانة خلوقة ومؤمنة. لكنّ جدّتي كانت عكس ذلك تمامًا.
سأُخبرُكم عن والدة أمّي بالتفصيل... وعن بنتَيها. فمِن الواضح أنّ عايدة لَم تشأ أن تكبَر في السنّ، لأنّها فعلَت جهدها لِتوقيف الزمَن مِن حيث لباسها ولون شعرها وتبريج وجهها وحقنه بالمواد الحافظة. قد تجدون الأمر عاديًّا، لكّنكم ستغيّرون رأيكم عندما تعرفون الدوافع وراء ذلك. فتلك المرأة لَم تكن تهتمّ بِمظهرها فقط لِتشعر بالثقة بالنفس أو خوفًا مِن الشيخوخة، بل مِن أجل جذب الجنس الآخر إليها. أجل، كانت جدّتي تحبُّ الرجال كثيرًا ولا تشبعُ منهم ومِن مالهم. فبالرّغم مِن تخطّيها سنّ الستّين، كانت جدّتي تبدو وكأنها في الأربعين مِن عمرها، وكان بإمكانها سحر أيّ رجل، ليس فقط بِفضل أناقتها لكن أيضًا بِحنكتها ومعرفتها بالذي يحبّه الجنس الآخَر. ولَم تتأخّر في تدمير العائلات، فمعظم عشّاقها كانوا مِن المتزوّجين والآباء، وما أقولُه ليس مجرّد افتراءات أو تخيّلات مُراهق، فقد كنتُ شاهدًا على زيارات رجالٍ إلى البيت ودخولهم غرفة عايدة لِوقت طويل وثمّ خروجهم ممتنّين للغاية. للحقيقة، لَم أفَهم على التمام طبيعة تلك الزيارات إلا بعد مجيء زوجة أحد عشّاق جدّتي الى البيت، وإحداثها فضيحة صاخبة طالبةً مِن عايدة تَرك زوجها وشأنه:
- أيّتها الأفعى! لدَينا عائلة وها أنتِ تسلبين منّا معيلها!
- الذنب ذنبكِ! فلو عرفتِ إبقاءه في سريركِ لَما التجأ إلى سريري! أنظري إلى نفسكِ في المرآة! إنّك لا تصلحين حتى أن تكوني جارية لدَيّ!
- أيّتها الباغية! لو كنتِ تحبّينَه لَفهمتُ دوافعكِ، لكنّكِ تُعاشرينَه مِن أجل ماله وهداياه!
- معاشرتي باهظة الثمن يا حبيبتي.
ذُهلتُ بِما سمعتُه، لكن أكثر ما أدهشَني، هو ردّة فعل أمّي وخالتي. فبعدما رحلَت الزوجة المخدوعة، بدأتا معًا بالضحِك على المسكينة. يا إلهي! أدركتُ حينها أنّني أعيشُ في بيت شبيه ِبِدار للدعارة.
لم أعرِف إن كان يجدرُ بي إخبار أبي بكّل تلك الأمور، وخفتُ أن يولّد ذلك مشاكل جسيمة أكون سببها. لِذا سكتُّ وصرتُ أمقتُ الجلوس مع جدّتي وخالتي وأمّي، بعد أن بدأتُ أفهَم معنى كلامهنّ على التمام، والذي كان يدورُ دائمًا حَول المال والرجال. كان والدي هو الآخر محوَر حديثهنّ، وكنّ تسمّينَه "الأبلَه" ربّما لأنّه، على خلافهنّ، إنسان طيّب وصالِح وخلوق.
وفي أحد الأيّام، سمعتُ صدفة والدتي تتحدّث عبر الهاتف مع أحد وتقولُ له: "أنا أيضًا اشتقتُ إليكَ يا حبيبي، وأنتظرُ بِفارغ الصبر عودتكَ مِن السفر... الآن صرتُ حرّة وباستطاعتنا التواعد علنًا... يا إلهي، لا يسعُني تذكّر ما مرَرنا به عندما كنتُ متزوجة مِن ذلك الأبلَه!".
وعندما أنهَت والدتي اتّصالها، إنتبهَت الى وجودي فصرخَت بي:
- ماذا تريد أيّها الفضوليّ؟ لا داع لإستراق السمَع فأبوكَ على عِلم بِكلّ شيء. أجل، ذلك الفاشل علِمَ بشأن علاقتي، واحزَر ما فعَل؟ قرَّر مُسامحتي وعرَضَ عليّ البدء مِن جديد وكأنَّ شيئًا لَم يحصَل. هاهاها! بالفعل أبلَه! انا بأفضَل حال مِن دونه، فلَم أكن أنوي قضاء حياتي مُختبئة وخائفة. وأنتَ على ما يبدو تشبهُه. يا للخَيبة!
لَم أُجِبها، لكن لو فعلتُ لَقلتُ لها كَم أمقتُها، وكَم أنّها وجدّتي غيَّرَتا نظرتي لِما يجدرُ به أن يكون نبعًا للحنان والوفاء، وخاصّة الأخلاق. لكنّني فهمتُ أخيرًا سبَب مشاجرات والدَيّ، وصمَّمتُ على العَيش مع أبي بِصورة دائمة، إلا أنّه كان مسافرًا بِداعي عقد عمَل سيدومُ حوالي السنة. لِذا صبرتُ وفي بالي شيء واحد وهو تَرك ذلك المكان في أوّل فرصة.
لكنّني لم أُخبِركم بعد عن خالتي التي هي الأخرى كانت كالباقيتَين، مع أنّها أصغرهما. كنتُ حتى ذلك الحين أعتبرُها تتحلّى حتى بالقليل مِن الأخلاق، وأُحبُّ الجلوس معها لِنتكلّم عن أمور عديدة غير سيرة الرجال التي سكَنَت فِكر جدّتي وأمّي. إلا أنّها كانت هي الأخرى فاسدة، وما فعلَته معي يراودُني ليلاً نهارًا، ليس فقط بِسبب محتواه بل لأنّني لا أستطيعُ استيعاب هذا الكمّ مِن الفجور.
كنتُ ذات يوم جالسًا في غرفتي بينما هي تستحمّ، وأنتظرُ خروجها لأريها فرضي المدرسيّ في العلوم، ِلتقول لي إن كنتُ قد أنجزتُه كما يجِب، حين نادَتني الى غرفتها. وكَم كانت مفاجأتي كبيرة حين دخلتُ عليها ووجدتُها عاريةً تمامًا! أسرَعتُ بالخروج بعد أن أدَرتُ طبعًا نظَري عنها، لكنّها أمسكَتني مِن ذراعي وقالَت لي:
- ما بكَ خجِلتَ؟ فأنا خالتكَ.
- لأنّكِ خالتي لا يجِب عليّ رؤيتكِ عارية!
- ها ها ها! كَم أنّكَ ظريف! تعال وخُذ لي صورًا.
- صورًا وأنتِ عارية؟؟؟
- أجل يا حبيبي، فلا أستطيع تصوير كامل مفاتني بِنفسي! أنتَ غبيّ للغاية! أدِر وجهكَ نحوي وكفاكَ إدّعاءً!
- أنا لا أدّعي يا خالتي... فلا أُريدُ النظَر إليكِ وأنتِ عارية!
- خُذ هاتفي والتقِط لي تلك الصوَر، هيا! وإلا صفعتُكَ!
أخذتُ الهاتف منها وأنا أبكي، وهي بدأَت تضحكُ عاليًا وتُناديني بالجبان. سألتُها إن كان عليّ إظهار وجهها أم لا، فأجابَت: "بالطبع أظهِر وجهي، فالذي أرسلُ له هذه الصوُر يدفعُ لي مبلغًا كبيرًا مِن أجل ذلك."
عندما إنتهَيتُ مِن تلك المُهمّة القذِرة، ركضتُ إلى أمّي شاكيًا، لكنّها وبّخَتني: "وما المشكلة في ذلك؟ يا إلهي... أنتَ بالفعل كأبيكَ!".
كان قد طفَحَ حقًّا كَيلي مِن جدّتي التي تستقبلُ رجالاً متزوّجين، ومِن أمّي التي تتباهى بِعشيقها، ومِن خالتي التي تطلبُ مِن إبن أختها تصويرها عاريةً لِتجني المال. إكتفيت مِن ذلك! شعرتُ أنّني أفقدُ عقلي، وخطَرَ بِبالي حتى أن أُنهيَ حياتي، ظانًّا أنّ العالم بأسره كتلك النساء وأنّ الإنسان الصالح ليس سوى أبلَه وفاشل.
لِحسن حظّي أنّني لَم أنتحِر، بل طلبتُ هاتفيًّا الإذن مِن أبي أن أقَصد والدته والعَيش عندها حالما هو يعود. سألَني عن السبب فاكتفَيتُ بالقول إنني ملَلتُ حيث أعيشُ، وأضَفتُ أنّ الفرصة الصيفيّة بدأَت واشتقتُ لِجدّتي ولِبيتها في الريف. صدّقَني أبي ولَم تمانِع أمّي، فكنتُ أُضايقُها بِوجودي معها.
فور وصولي الريف أخبَرتُ جدّتي كل شيء، فبدأَت توَلوِلُ وتسألُني إن كنتُ أقولُ الحقيقة أم أنّني أختلِقُ تلك القصص. فالحقيقة كانت بالفعل صعبة التصديق! وعندما عادَ أبي مِن سفره ووافاني عند والدته، وعلِمَ منها كلّ ما جرى، رأيتُ دموعًا في عَينَيه. ثمّ، قال لي:
- أنا آسف يا حبيبي، فأنتَ غير مُذنِب على الاطلاق بل ضحيّة اختياري السيّئ لأمّكَ. كنتُ قد سمعتُ آنذاك اشاعات عن جدّتكَ الأخرى، إلا أنّني ردَدتُ الأمر إلى غيرة الناس مِن جمالها وجاذبيّتها. أمّكَ بِدورها عرفَت كيف تتيّمُني بها، لكن بعد ولادتكَ بِقليل، بدأَت تسأمُ منّي واتخذَت لِنفسها عشيقًا. بالفعل كنتُ مستعدًّا لِمسامحتها، ليس مِن أجلي بل مِن أجلكَ أنتَ. يا حبيبي... لَم أتصوّر أنّ العَيش في ذلك البيت يُشكّلُ خطرًا عليكَ، وإلا لَما خيّرتُكَ بيني وبين أمّكَ، لكنّني أردتُ ان أُعطيكَ حرّيّة القرار كي لا تكرهني يومًا. أعتذرُ منكَ بِحرارة، فالذي رأيتَه وسمعتَه قد يؤثّر على نظرتكَ للناس عامّةً وللنساء خاصّة. إعلم وتأكَّد يا بنَيّ أنّ معظم الناس ليسوا كجدّتكَ وأمّكَ وخالتكَ، فهنّ استثناءات في مجتمعنا. إسمع، لقد قرَّرَت الشركة التي أعمَل لدَيها نقلي بِصورة دائمة الى الخارج، وكنتُ أنوي أن أعرض عليك مرافقتي... أمّا الآن فلن أعرِضَ عليكَ الرحيل معي بل سأفرضُه عليكَ.
- أبي، سأذهبُ معكَ بِكامل إرادتي.
لم تحاوِل أمّي إبقائي معها أو حتى في البلَد نفسه، بل أسرعَت بإرسال باقي أمتعتي لِجدّتي الأخرى، وتمنَّت لي هاتفيًّا التوفيق مع "الأبلَه". عندها أجبتُها:
- الأخلاق والقيَم ليست دلالة على غباء، يا أمّي. أنا آسف مِن أجلكِ لأنكِ نشأتِ في جوّ مِن الانحلال الكلّيّ، فقد تكونين أيضًا ضحيّة. إلا أنّ أبي أعطاكِ، بالزواج منكِ، فرصةً للاستقامة والعَيش بِمخافة الله، لكنّكِ فضّلتِ الرذيلة والحياة السهلة، فلَم يعُد لكِ أي عذر. إعلَمي أنّني أخجَل مِن أن تكون لي أمّ مثلكِ، ويا ليتكِ مُتِّ قبل أن أعرفَ حقيقتكِ، لَكنتُ حفظتُ في ذاكرتي صورة حسنة عنكِ. الوداع."
لا أدري إن كان كلامي هذا قد أثَّرَ فيها، لكنّ الأمر لَم يعُد يهمُّني كثيرًا، فأنا أعيشُ اليوم مع أبي الذي هو بالفعل إنسان يُفتخَر به.
حاورته بولا جهشان