فرّقوا بيننا... ولكن عدنا بعد 30 عاما!

أحببت زياد عندما كنت في الخامسة من عمري وهو كان في السابعة. كنا نسكن في المبنى نفسه وكنا نرتاد المدرسة نفسها. كبرنا سوياً وتقاسمنا الزاد والألعاب وكان يساعدني في إتمام دروسي. حياتي كانت مقرونة بحياته ولم أتخيّل يوماً أنني سأعيش من دونه. الكل كان على علم بحبّنا هذا ويتصوّر أنه سيأتي يوماً سنكون فيه زوجاً وزوجة. لكنّ الحياة قرّرت عكس ذلك.

توفّي والده ومن ثم والدته. جاء عمّه من أستراليا ليأخذه معه إلى هناك، إلى آخر الدنيا، بعيداً عنّي. كان في ال12 من عمره وهذا التغيير المفاجىء أخافه. فجاء وطلب منّي أن نهرب سوياً. طبعاً قبلت. في الليل، ذهبنا يداً بيد إلى الغابة المجاورة حيث كان قد نصب خيمةً وحضّر الأكل والشرب. قال لي:

- "سنعيش هنا طيلة حياتنا وسأهتمّ بك وأحميك يا نسرين."
- "وأنا سأحبّك حتى آخر يومٍ في حياتي."

خلال بضع ساعات وجدونا وأخذوا زياد منّي بالقوة. بكينا كثيراً وعلا صراخنا ثم هدأنا، فقد كانوا أقوى منا ونحن ما زلنا صغاراً. سافر زياد إلى تلك القارة البعيدة وبقيت أنا هنا لأعيش كل يوم معلّقة بالكلمات الأخيرة التي قالها لي قبل أن يغادر: "سأعود، انتظريني".

مرّت الأيام ولحقتها الأشهر والسنين ولم أسمع شيء عن حبيبي زياد. الزمن لم يستطع أن يمحو حبّي له، لكنني تعلّمت أن أعيش بدونه. لم أكن أعلم شيء عن حياته هناك وكنت متأكّدة أنّه قد نسيَني.

كبرت لأصبح فتاة جميلة مرغوبة من الجميع ولي مجموعة لا بأس بها من المعجبين. لكن لا أحد منهم كان يشعرني بالأمان والدفء الذي كنت أشعر به بقرب زياد. كنت أعاملهم بجفاء وألعب بهم كالدمى. تعب أهلي من نمط عيشي وكانا قلقين على مستقبلي وخائفين عليّ من أن يفوتني القطار لأنني كنت قد كبرت في السن. ومن كثرة الضغط النفسي وافقت أخيراً على الزواج.

لم أكن سعيدة يوم زفافي، ولم أكن سعيدة أيضاً عندما وُلد ابني. لكن عندما أطلقت عليه اسم زياد تغيّرت حياتي. فكان كأنه عاد إليّ، أهتف باسمه كل دقيقة. وأصبح ابني فرحتي الوحيدة في هذه الدنيا خاصة أن الرجل الذي تزوّجته كان ماكراً وأنانياً. لم اخترته إذاً؟ ربما كي لا أحبّه يوماً. ابتعدت عنه كي أهتم أكثر بولدي وهو لم يأبه لهذا الأمر لانشغاله بعشيقاته. ذات يوم، قرّر أن يرحل. سئم منّي وفضّل عليّ وعلى ابنه السهر واللهو والشرب. لم يشأ أن يأخذ ولده منّي كي لا يعيقه. لم أحزن، على العكس أصبحت حياتي كما أردتها من قبل زائد ابني زياد. بعد الطلاق، حصلت على البيت الزوجي وبقيت فيه رغم إصرار أهلي أن أنتقل للعيش معهم.

كَبُر زياد وأصبح مراهقاً وسيماً ومهذّب ذو شخصية مميّزة. جهدت على أن يكون إنساناً نزيهاً وكريماً أي رجلاً مثالياً. علّمته أن يقدم العون للآخر ويتفانى لخدمته. كان يحبّني كثيراً ويسألني دائماً:

- "أمّي، لم كل هذا الحزن في عينيك؟ ألست سعيدة معي؟ ربما عليك أن تتزوّجي بي مجدداً."
- "كلا يا حبيبي، أنت تكفيني. لا أريد سواك."

ذات يوم، وهو عائد من المدرسة، وجد زياد رجلاً يحاول اقتحام سيارة. فجرى نحوه وأبعده عنها صارخاً ومهدّداً. فهرب اللص خوفاً من أن تأتي الشرطة. كان قد وصل في هذا الوقت صاحب السيارة ورأى ما حدث، ثم قال لزياد:

- "شكراً بنيّ، هذا عمل شجاع. ألم تخف أن يكون مسلّحاً؟"
- "لا يا سيّدي، أنا تربيت هكذا أن أدافع عمّا ليس لي وألا أخاف إلا من ربّي."
- "ومن علّمك هذا كلّه؟ أباك؟"
- "أمي، فأبي تركنا منذ سنين."

حاول الرجل أن يعطي زياد مكافأة مالية لكنه رفض.
- "دعني على الأقل أشكر أمك شخصياً وأهنئها على شاب مثلك. ما اسمك؟"
- "زياد."
- "غريبة الصدف. أنا اسمي زياد أيضاً."
ضحكا سوياً.
-"لنذهب إلى أمك."

صعد زياد بسيارة الرجل واتّجها نحو المنزل. قرع ابني الباب. عندما رأيت الرجل الذي كان يرافق ابني شعرت بشيء غريب. بدا وجهه مألوفاً... وأكثر من ذلك.
- "أمّي، لن تصدّقي ما حصل!"
لم أسمعه، كنت ما زلت أحدّق بالضيف وقلبي يخفق بسرعة. هذا القلب الذي لم يدقّ منذ أكثر من 30 سنة. مرّت ثوان قبل أن أتمكن من لفظ كلمة واحدة.
- "زياد؟؟؟"

نظر إليّ الرجل وقد امتلأت عيناه بالدموع.
- "نسرين؟"

نظر إلينا ابني باستغراب.
- "أتعرفان بعضكما؟"

أجاب الرجل:
- "الآن فهمت لم اسمك زياد!"

شعر ابني أن شيئاً عظيماً كان يجري فقرّر أن يذهب إلى غرفته وأن يتركنا وحدنا.
- "أدخل من فضلك."

دخل حبيبي إلى البيت وجلس على الأريكة صامتاً. فصرخت في وجهه:
- "سأعود، انتظريني"؟؟؟ وعدتني أن تعود وانتظرتك سنين طويلة. تركتني وحيدة أعيش في ذكراك! أكرهك!" وبكيت مطولاً.

فقال لي بهدوء:
- "نسرين، لم أكذب عليك يوماً. بقيت على وعدي لك. عندما ذهبت إلى أستراليا كتبت مراراً وتكراراً ولم أجد جواباً. لم يصلني شيئاً منك. فعلت كل ما بوسعي لأعود إلى البلد. كان ذلك هدفي الوحيد. كنت أدّخر كل قرش أجنيه لأحقق حلمي وأكون معك. لكن ذلك يتطلّب وقت، وحين استطعت أخيراً المجيء ذهبت إلى بيت أبيك جارياً. قالوا لي أنك تزوّجت ورفضوا إعطائي عنوانك أو رقم هاتفك، قائلين: "لم نصدق أنها نسيت حبّك، لن ندعك تعبث بحياتها مجدداً." وأقفلوا الباب في وجهي. لم أنسَك يوماً يا حبيبتي. في الواقع، أنت حياتي، أنت سبب حياتي."

ركضت نحوه وغمرته بشدّة.
- "لا تتركني مجدداً وإلا متّ هذه المرّة."
- "وابنك؟"

سمعنا صوتاً خلفنا. ابني كان قد سمع حديثنا كلّه. فأجاب عني:
- "إبنها يحبّها كثيراً وكل ما يسعدها يسعده. أظنّ أن القدر جمعنا اليوم قرب سيارتك وليست الصدفة. إن القدر أراد إنهاء حزنٍ خلّفه فراق طويل. ولن أكون أبداً سبباً لفراقٍ آخر. هنيئاً لكما ولنا جميعاً!"

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button