فرِحَت أمّي لدى موت أبي

تفاجأتُ كثيرًا بردّة فعل أمّي لدى سماعها بخبَر موت أبي. كنتُ جالسة معها نشربُ القهوة حين رنّ هاتفها، وعلِمَت مِن مدير والدي أنّه توفّى فجأة جرّاء نوبة قلبيّة. أقفلَت والدتي الخطّ واستدارَت نحوي قائلة:

 

- ماتَ أبوكِ بسبب نوبة قلبيّة. يا إلهي... ليس لدَيّ ملابس سوداء... وعليّ الذهاب إلى الكوافير فشعري غير مُرتَّب. هيّا بنا.

 

نظرتُ إليها باندهاش، فهي لَم تذرِف دمعة على زوجها أو تبدو حتى حزينة، مع أنّهما كانا يعيشان حياة هنيئة سويًّا! ردَدتُ الأمر إلى صعقة الخبر، فوالدي كان قويّ البُنية ويتمتّع بصحّة جيّدة، وأخذتُ أُراقبُ تصرّفات أمّي حين رحنا نشتري ملابس سوداء وعند مُصفّف الشعر. خفتُ أن تستوعِب فجأة أنّها فقدَت زوجها وتنفجر بالبكاء أو تبدأ بالصراخ. لكن ما مِن شيء حدَثَ، وعُدنا إلى البيت وكأنّنا قضَينا نهارًا مُمتعًا في الأسواق. بقيَ جثمان أبي في المشفى حيث نُقِلَ حين أُصيبَ بالنوبة، فلَم نرَه إلا عند مراسم الدفن. هناك أيضًا تصرّفَت أمّي بهدوء تام وكأنّها تحضرُ دفن شخص غريب عنها. بعد انتهائنا مِن الدفن، إتّصلتُ بطبيب أمّي الذي يُعالجها بسبب ألمها في المفاصل وشاركتُه خوفي عليها. وهو طمأنَني بأنّها ستستوعِب ما حصَلَ على مهل، فكلّ إنسان يتعامَل مع الموت بشكل مُختلِف. إلا أنّه طلَبَ منّي مُراقبة ضغط دمها ونوعيّة نومها ليلاً.

وبعد أن راقبتَها ولَم أجِد شيئًا مُريبًا على الإطلاق، قرّرتُ أخيرًا أن أتكلّم مع والدتي عن شعورها حيال موت زوجها، فقلتُ لها:

 

ـ ماما... لا تُسيئي فهمي، لكنّني أراكِ غير حزينة على والدي مع أنّكما كنتما مُنسجمَين ولا مشاكل بينكما.

 

ـ رحمه الله.

 

ـ لَم تُجيبي على سؤالي. هل أنّكِ لَم تُحبّيه؟ هل أنّكِ لا تشعرين بوطأة غيابه؟ فأنا أبكيه على مدار الساعة، إذ أنّ وجوده في البيت وفي حياتي كان يُشعرُني بالأمان. فهو كان رجُلاً ذا شخصيّة قويّة ويعرفُ ما عليه فعله ومتى.

 

ـ رحمه الله يا إبنتي. ماذا تُريدين أن تأكلي؟ هل أطهو لكِ طبقكِ المُفضّل؟

 

لَم أواصل الكلام معها في ذلك الموضوع، فكان مِن الواضح أنّها ترفضُ مُشاركتي أحاسيسها وفضّلتُ مُناقشتها في موضوع الطهو. لكنّني خفتُ أن تفقدَ أمّي عقلها مِن موت زوجها، فهي ربّما تعتبرُه لا يزال حيًّا.

ثمّ بدأَت أمّي بالخروج مع صديقاتها، هنّ أنفسهنّ اللواتِي كنّ تأتَين إلى البيت لشرب القهوة والتكلّم عن الجيران والأقارب، ولَم ترافقهنَ والدتي إلى أيّ مكان مِن قَبل. لكن أكثر ما شغَلَ بالي، هو أنّها خلعَت ملابسها السوداء مِن أجل فساتين زاهيّة اللون. وعندما سألتُها عن ذلك، نظرَت إليّ بتعجّب وابتسمَت قائلة:

 

- أعرفُ ما أفعَل، لا تخافي!

 

فتّشتُ عبر الإنترنت عن حالات مُشابهة لحالة والدتي، ووجدتُ بعض التفسيرات النفسيّة البسيطة والأخرى المُقلِقة. فقرّرتُ الانتظار قليلاً قبل حثّ أمّي على رؤية مُعالج نفسيّ فقد تستعيدُ صوابها في المُستقبل القريب.

وبعد أشهر على هذه الحالة، جاءَت أمّي مساءً إلى غرفتي قائلة ووجهها مُحمرٌّ مِن الخجَل:

 

ـ حبيبتي... يا إلهي، ما أصعَب هذا الموضوع! حسنًا... سأتزوّجُ قريبًا.

 

ـ ماذا؟!؟ مكان أبي لا يزالُ ساخنًا! هل فقدتِ عقلكِ كُلّيًّا؟

 

ـ بالعكس، أنا مُقتنعة تمامًا بالذي أفعلُه: سأتزوّج قريبًا. إسمعي يا إبنتي، أنتِ الآن بالغة وعمركِ فاقَ الخامسة والعشرين، أيّ أنّكِ لن تتأثّري بوجود رجُل في البيت. ليس هذا البيت، بل مكان آخر، أجمَل بكثير! أنظُري إلى هذه الصوَر.

 

ـ لا أُريدُ رؤية شيء! ألا تخجلين مِن نفسكِ؟ أنتِ أرملة وصرتِ في العقد الخامس مِن عمركِ.

 

ـ ليس هناك مِن سنّ للحبّ والزواج... سأكون بُمنتهى الصراحة معكِ يا حبيبتي: لستُ أطلبُ موافقتكِ بل أُطلعُكِ على ما أنوي فعله، فأنا امّكِ وليس العكس. إن كنتِ لا تودّين العَيش في منزل مُهنّد فهذا مِن حقّكِ ويُمكنكِ البقاء هنا. أُفضّلُ طبعًا أن تأتي معي لكنّني لن أجبرُكِ على شيء.

 

ـ لن تتزوّجي مِن هذا... المُهنّد!

 

ـ لقد قضيتُ حياتي أُضحّي مِن أجلكِ، وانتهى زمَن التضحيات. لَم أولَد للعَيش فقط مِن أجل غيري. حانَ الوقت لأكون سعيدة.

 

ـ ألَم تكوني سعيدة مع أبي؟!؟ فهو كان أعظَم رجُل في العالم!

 

ـ مِن منظار ابنة لأبيها. لكن في الحقيقة...

 

ـ قولي ما عندكِ! كيف كان أبي في الحقيقة؟ ولا تختلقي الأكاذيب لتبرير تصرّفاتكِ الولدانيّة!

 

لكنّ أمّي بقيَت صامتة واكتفَت بالقول: "هناك أمور مِن الأفضل ألا تعرفيها". وأمام رفض والدتي إعطائي أيّ تفسير منطقيّ لتصرّفاتها حيال موت أبي وحيال زواجها القريب، لَم يتبقَّ لي سوى البحث بنفسي عن الأجوبة. لِذا قصدتُ جدّتي التي تسكنُ في القرية، والتي لَم أرَها سوى مرّات نادرة طوال حياتي بسبب خلافات بينها وبين والدتي. للحقيقة، حاولتُ كثيرًا في ما مضى معرفة طبيعة تلك الخلافات، لكنّ أمّي بقيَت تقول لي إنّ أمّها إمرأة شرّيرة وأنانيّة وبغيضة ولا مكان لها في حياتنا. وذهابي إليها لمعرفة التفاصيل التي بإمكانها إراحة قلبي، كان يعني حتمًا خيانة إرادة والدتي، لكنّني لَم أكن أملكُ وسيلة أخرى!

 

إنتظرَتني العجوز أمام باب بيتها والدمع في عَينَيها، وعانقَتني بقوّة ثمّ أخذَتني إلى الداخل حيث كانت الحلوى اللذيذة بانتظاري. بيتها كان صغيرًا لكن جميل ونظيف للغاية وتفحُّ منه رائحة الخشب القديم. كانت تلك المرّة الأولى التي أزورَها في بيتها لأسباب ذكرتُها أعلاه، وشعرتُ بالخزيّ لأنّني لَم أُحاوِل ولو مرّة التعرّف اكثر إليها. لكن كيف أفعلُ ذلك حين تكون أمّي قد ربّتني على كرهها والخوف منها؟

وبعد أن تبادَلنا بضع كلمات عن أشياء بسيطة، سألَتني العجوز:

 

ـ كيف حال أمّكِ؟

 

ـ هي سبب مجيئي إليكِ... وأظنّ أنّكِ الوحيدة التي بإمكانكِ مُساعدتي. قولي لي يا "نانا"، كيف لأمّي أن تتصرّف بفرَح لدى موت أبي وتُقرّر الزواج مُجدّدًا بعد أشهر قليلة على فقدانه؟ هما كانا يعيشان حياة هنيئة، على الأقلّ حسب ذكرياتي.

 

ـ أمّكِ تُحبّكِ كثيرًا، أنا مُتأكّدة مِن ذلك.

 

ـ هذا ليس موضوعنا. أُريدُ أن أعرفَ إن كانت أمّي تُعاني مِن جنون ما للتصرّف هكذا. سألتُها مرارًا عن الأمر لكنّها لا تُريدُ التكلّم.

 

ـ عليكِ احترام إرادتها يا صغيرتي. فبعض الأمور عليها أن تبقى حيث هي، أي طيّ الكتمان.

 

ـ أُريدُ الحقيقة!

 

ـ ماذا ستَجنين مِن تلك الحقيقة؟ فليست كلّ الحقائق جميلة، إحترسي. إضافة إلى ذلك، يكفي أن تعرفي أنّ أمّكِ هي أخيرًا سعيدة.

 

ـ أخيرًا؟ لطالما كانت سعيدة مع أبي.

 

ـ هذا لأنّها تُحبُّكِ كثيرًا.

 

ـ وما دخل هذا بذاك؟

 

ـ لأنّها كانت تدّعي السعادة مِن أجلكِ.

 

ـ تدّعي؟!؟ أبي عاملَها وكأنّها ملكة.

 

ـ أبوكِ... دعينا لا نتكلّم عنه.

 

ـ ما الأمر؟!؟ لماذا تشوّهين سمعته أنتِ وأمّي؟ هل انتظرتُما موته للتكلّم بالسوء عنه؟

 

ـ أعلَم أنّه أبوكِ وأنّكِ تُحبيّنه كثيرًا، لكنّه في آخر المطاف رجُل وليس مخلوقًا خارقًا. عودي إلى بيتكِ وأنسِي الموضوع برمَّته، أرجوكِ.

 

ـ لا! لن أرحَل قبل أن أعرفَ ماذا يجري! أقسمُ بالله...

 

ـ حسنًا... لكن تذكّري أنّكِ وحدكِ المسؤولة.

 

ـ هيّا، تكلّمي.

 

ـ أمّكِ تكرهُني لأنّني أجبرتُها على الزواج مِن أبيكِ ولأنّني منعتُها مِن إجهاضكِ.

 

ـ ماذا؟!؟ ماما كانت تُريدُ إجهاضي؟

 

ـ أرادَت التخلّص مِن ثمرة... إغتصاب.

 

ـ مَن تقصُدين! مَن اغتصبَ والدتي؟!؟

 

ـ أبوكِ. فهو أرادَها بكلّ جوارحه وباتَ مهووسًا بها. كان يسكنُ وأهله بالقرب منّا وكان يُراقبها ليلاً نهارًا. تقدّمَ لأمّكِ عرسان كثيرون وكان يُبرحهم ضربًا ليتخلّص منهم، إلى حين قرَّرَ التصرّف.

 

ـ أبي لا يضربُ أحدًا!

 

ـ إنقضَّ يومًا على أمّكِ واغتصبَها لتصبحَ ملكه... يا للوحش! علِمنا جميعًا بالأمر وأرادَ جدّكِ قتله، لكنّ أباكِ عرَضَ علينا أن يتزوّج ابنتنا. المسكينة رفضَت رفضًا قاطعًا لكثرة كرهها له وتوسّلَت إلينا ألا نزوّجها له. لكن حين علِمنا بالحَمل، أرغمناها على القبول. أو بالأحرى أنا أرغمتُها على ذلك. ماذا تُريديني أن أفعل بدلاً مِن ذلك؟ أن أعيشَ وعائلتي في العار مدى حياتنا؟ إرتحنا كثيرًا حين تزوّجَت أمّكِ أخيرًا مِن أبيكِ وأخذَها ورحَلَ، فكلّ شيء عادَ إلى طبيعته. لَم نحسِب حساب مشاعر ابنتنا التي عليها العَيش يوميًّا مع مُغتصبها ومع ثمرة اغتصابها، أيّ أنتِ. لكنّ أمّكِ لَم تُحمّلكِ هذا الذنب بل صبَّت حبّها واهتمامها كلّه عليكِ، ربّما لتنسى أنّ الرجُل الذي ينامُ بالقرب منها ليلاً هو الذي فعل بها ما فعل. أقولُ "ينامُ بالقرب منها" لأنّها، منذ زواجهما، لَم تدَعه يلمسها قط. علِمتُ ذلك مِن أبيكِ نفسه حين اشتكى لي الأمر لكنّه عادَ وقبِلَ بهذا العقاب بعد أن استوعَب فظاعة عمَله وأنّه أرغمَ إنسانة لا تُحبّه أو تُريدُه على العَيش معه مدى العُمر. حبيبتي... أمّكِ ادّعَت السعادة مِن أجلكِ وكي لا تعرفي كيف وُلِدتِ، بل أرادَت أن تظنّي أنّ والدَيكِ أرادكِ وانتظرا مجيئكِ. هي لَم تتشاجَر مع زوجها لأنّها عاشَت وكأنّها مُخدّرة، فلَم تعُد تأبه لِما آلَت إليه حياتها. تابعتُ أخبارها عن بُعد بواسطة أبيكِ وبعض الأصدقاء. أعرفُ أنّني السبب في تعاستها، لكنّني كنتُ ضحيّة مُجتمع لا يرحَم. لو حدثَت تلك الأمور اليوم، لأبقَيتُ ابنتي بالقرب منّي وحمَيتُها وواسَيتُها بدلاً مِن تقديمها لجلادها. فإن كانت أمّكِ سعيدة الآن وتنوي العَيش مع رجُل هي اختارَته بنفسها ولأنّها تُحبّه، فدعيها تكون سعيدة، إذ يحقُّ لها أن تفرح بعد كلّ تلك السنوات الصعبة والثقيلة.

 

لَم أردّ على حديثها لأنّني عرفتُ أنّ كلّ ما قالَته العجوز كان صحيحًا بعد أن ربطتُ الأحداث ببعضها. قبّلتُها ووعدتُها بزيارتها مِن جديد وعُدتُ إلى البيت.

أبقَيتُ أمر زيارتي لجدّتي سرًّا ولَم أقُل لأمّي أنّني علِمتُ الحقيقة. بكيتُ كثيرًا عليها وعلى عذابها مع أبي وعلى نفسي، بعد أن أدركتُ أنّني عشتُ كذبة طوال حياتي. كيف عليّ النظر إلى ذكرى أبي بعد ذلك؟ يا إلهي... الرجُل الذي أعطاني الحياة ما هو إلا مُغتصِب وأنانيّ! فكّرتُ لأيّام طويلة في الموضوع وتعذّبتُ كثيرًا لأصِل أخيرًا إلى حلّ: أبي هو أبي ولقد عاملَني بحبّ وربّاني جيّدًا، وهذا ما سأتذكّره عنه. ثمّ رحتُ لأمّي وقلتُ لها بفرَح: "أين ذلك العريس؟ ألَن تُعرّفينه عليّ؟". وبالفعل تعرّفتُ إلى مُهنّد ووجدتُه لطيفًا ومُحبًّا، لكنّني فضّلتُ العَيش لوحدي في بيتنا لأفسحَ لأمّي المجال لتعيشَ على سجيّتها، فهي تستحقّ ذلك بعد أن قضَت سنوات طويلة تُمثِّلُ دور الزوجة السعيدة.

عاشَت أمّي سنوات جميلة مع زوجها وحتى مماتها، هي لَم تعرِف أنّني اكتشفتُ الحقيقة، فهكذا أفضل. وقد عاشَت لتراني عروسًا ومِن ثمّ أمًّا وأنا رأيتُ السعادة والفخر في عَينيَها. لكنّها لَم تُسامح يومًا أمّها التي ماتَت مِن دون أن تراها. فجرح والدتي كان أعمَق مِن المُسامحة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button