كنتُ في السادسة عشرة مِن عمري، وكسائر المُراهقات لَم تسَعني الدنيا. لكنّ أهلي كانوا مُحافظين للغاية أو بالأحرى هكذا أسموا أنفسهم. فالدافع وراء تزمّتهم كان إراحة أنفسهم مِن جهتي، أنا الابنة الوحيدة، وعدَم الانشغال بمُراقبتي أو تدريبي على الحياة، وتسليحي ضدّ كلّ ما يُمكنه أذيّتي. بكلمة، إتّبعوا سياسة النعامة آملين أن يأتي عريسًا في أقرَب وقت، ويُريحهم مِن العبء الذي أشكلّه لهم منذ ما علِموا أنّ ابنة آتية إلى الدنيا.
وهكذا كان ممنوعًا عليّ الخروج مِن البيت إلا للذهاب إلى المدرسة، أو مُرافقة أحد أفراد عائلتي إلى زيارة ما. أمّا بالنسبة إلى صديقاتي، فكنتُ أراهنّ فقط في المدرسة وليس خارجها، فخافَ ذويَ أن تؤدّي مُعاشرتي لهنّ إلى تفتيح عَينَيّ على الدنيا.
كلّ تلك المُقدِّمة لأشرَحَ للأهل أنّهم لا يستطيعون وقف سَير الحياة، بل عليهم توعية أولادهم أكانوا ذكورًا أم إناثًا، وبطريقة صريحة مليئة بالحبّ والصداقة.
وهكذا قضَيتُ أيّامي في غرفتي أقرأ قصصي، وأتفرّج على التلفاز بعد إنهاء دروسي وفروضي المدرسيّة. ومِن ذلك المكان بالذات، تعرّفتُ إلى الحبّ الذي مُنِعتُ عنه وعلى جاري حسام.
فلقد لفَتُّ انتباه جاري الذي يسكنُ في المبنى المُقابِل لكثرة تواجدي في غرفتي، الأمر الذي أثارَ استغرابه... وشغَّلَ خياله تجاهي. لَم أعرِف أنّه موجود، فهو كان يُراقبُني مِن شبّاكه، بعد أن يُطفئ الأنوار ليتفرّج عليّ على سجيّته. لِذا لَم أتردَّد عن الجلوس في سريري أو عليه وأنا في قميص النوم القصير أو أُبدِّل ملابسي بكلّ ارتياح.
وذات يوم، قرَّرَ حسام أنّ الوقت حان ليتعرّف إليّ أكثر. والجدير بالذكر أنّ ذلك الشاب كان يكبرُني بأكثر مِن عشر سنوات، أيّ أنّه يفهم بالحياة وله خبرة وحنكة أفتقِدُها.
بدأتُ أتحدّثُ مع حسام مِن شبّاك لشبّاك، وتبادَلنا العديد مِن المعلومات عن أنفسنا. وأنتهى المطاف بجاري أن عرفَ كلّ صغيرة وكبيرة عنّي، إضافة إلى إمتعاضي مِن أهلي وطريقة حياتي المُنعزِلة. بكلمة، أعطَيتُ لِجاري كلّ ما يلزمه لتطبيق ما في رأسه تجاهي.
لَم يُلاحِظ أيّ مِن أهلي أنّني على صلة بحسام، لأنّ غرفتي هي الوحيدة التي تطلُّ على المبنى المُقابِل، فلَم أشعرُ بأيّ مُضايقة مِن قِبلهم. وكانت تلك الأوقات هي الوحيدة التي كنتُ فيها حرّة وسعيدة.
مرَّت الأشهر وباتَ حسام أهمّ شخص في حياتي، والوحيد الذي يستمعُ إليّ حقًّا ويفهم ما أمرُّ به على صعيد يوميّ. لكن كان قد حان الوقت لنتقابَل فعليًّا واحترتُ بأمري. فكيف لي أن أخرج مِن البيت مِن دون أن ينتبِه أحد؟ وماذا لو فُضِحَ أمري؟!؟ لكنّ فكرة عدَم رؤية حبيبي كانت غير واردة، وكنتُ مُستعدّة للمُجازفة مهما كلّفَ الأمر.
حسام هو الذي أعطاني الحلّ لتساؤلاتي. ففي آخِر المطاف، هو أكبر منّي بسنوات عديدة، وكنتُ أثِق برأيه وقراراته ثقة عمياء. فهو كتَبَ لي عذرًا أُقدّمُه للمسؤولين في المدرسة لأتغيّب ليوم واحد وقّعَه وكأنّه والدي. وتركَ لي الورقة في زاوية باب مدخل مبنانا، فأخذتُها معي إلى المدرسة لأضمنَ غيابي في اليوم التالي.
وبعد يوم، حملتُ حقيبتي المدرسيّة ولبستُ الزيّ وذهبتُ كَكلّ يوم إلى المدرسة بصحبة أخي، لكنّني خرجتُ منها بعد أن تأكّدتُ أنّ الطريق سالِك وركضتُ إلى شارع ضيّق حيث كان ينتظرُني حبيبي في سيّارته. تبادَلنا السلام بسرعة قَبل أن يُديرَ حسام المُحرّك، ويذهَب بي إلى حيث نستطيع الجلوس سويًّا "مِن دون إزعاج".
كانت فرحتي لا تُقاس، فها أنا جالسة بالقرب مِن الذي شغَلَ بالي وقلبي يوميًّا لأشهر عديدة! هو أمسَك بيَدي بصمت وبسمة على وجهه. لَم أكن أعلَم بعد طبيعة تلك البسمة، ولو كنتُ أفهم أكثر بالناس والحياة، لَعلِمتُ أنّها بسمة انتصار وترقّب.
أوقَفَ حسام السيّارة وسط مكان معزول وطلَبَ منّي الترجّل، فدخلنا ما يُشبه الحرج، وهو أخبرَني أنّ مُفاجأة كان قد أعدّها لي خصيّصًا هي بانتظاري.
وسط الحرج، وجدتُ غطاءً ممدودًا على الأرض، وبقربه سلّة تحتوي على بعض المأكولات وزجاجة كحول. وقَبل أن أسأله عن الأمر أجلسَني على الغطاء وقال:
ـ سنمضي وقتًا مُمتعًا سويًّا... لدَينا ساعات طويلة أمامنا قبل أن يحين موعد عودتكِ مِن "المدرسة"... هاهاها!
ـ أجل يا حبيبي... لكن ما شأن الكحول؟ لا أُريدُ شربها.
ـ بلى، بلى... سترَين كيف سيغمرُ جسدكِ شعور لذيذ... لا تُجادليني، بل كوني على ثقة بأنّني أعرفُ ماذا أفعَل.
سكَبَ حسام لي كأسًا مِن الكحول وضعَه في يدي ورفَعَ كأسه قائلاً:
ـ إلى أجمل فتاة في الدنيا!
وقبّلَني على فمي فور انتهائه مِن الكلام، فتراجعتُ إلى الوراء وسألتُه بشيء مِن الاستغراب والغضب:
ـ ماذا تفعل؟!؟
ـ لا شيء مُقارنة بالذي سأفعله لكِ... أنا بانتظار هذه اللحظة منذ أكثر مِن سنة! ما أروعكِ... بشرتكِ ناعمة ومشدودة وناصعة البياض... وأنا مُتأكّد مِن أنّ ما تُخبّئينَه تحت ملابسكِ هو أيضًا رائع!
ـ أكثر مِن سنة؟ نحن نعرفُ بعضنا مِن أشهر وليس سنة.
عندها أخبرَني كيف كان يُراقبُني في الظلمة ويتخايَل ما سيفعله لي حين أقَع بين يدَيه. ثمّ نظَرَ إليّ بجدّيّة وأمرَني:
ـ هيّا! إستَلقِ ودعينا نبدأ!
ومع أنّني كنتُ ساذجة إلى أقصى درجة، فهمتُ ما يقصده تمامًا. وأدركتُ أنّني أقحمتُ نفسي بمصيبة رهيبة وأنّ ما مِن أحد سيستطيع إنقاذي مِن حسام في ذلك الحرج المُنعزِل. إمتلأت عَينايَ بالدموع وتمتمتُ له: "ألا تُحبُّني يا حسام؟". فاكتفى بالضحك وبدأَ بخَلع ملابسه. عندها صرختُ عاليًا: "يا ربّي، أنقذني!" وفي الحظة نفسها، إمتلأ جسمي بقوّة لَم أعرِف أنّني أمتلكُها، فقمتُ مِن على الغطاء وركَلتُ حسام بقوّة هائلة على منطقته الحميمة وبدأتُ بالركض. أين كنتُ مُتجّهة؟ لَم أكن أدري بل ركضتُ وركضتُ مِن دون أن أنظُر إلى الخلف مِن كثرة خوفي أن أرى حسام ورائي.
وصلتُ الطريق أخيرًا، فأوقفتُ سائقة وركبتُ معها باكية. سألَتني السيّدة عن سبب حالتي، فأخبرتُها بما حصل لي راجية إيّاها الإسراع كَي لا يصلَ حسام إلينا. إلا أنّها إبتسمَت قائلة:
- حبيبتي، ذلك الوغد بعيد الآن، فنحن لدَينا سيّارة وهو لا يزال حتمًا يتألّم مِن تلك الركلة المُحكَمة!
توسَّلَتني مُنقِذتي أن تصطحبَني إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ ضدّ حسام، لكنّني خفتُ أن يعرفَ أهلي عن مُغامرتي السرّيّة وأُعاقَب عقابًا قاسيًا جدًّا. ولأنّ لَم يكن لدَيّ مكان أذهب إليه حتى يحين موعد انتهاء الدروس، إقترحَت تلك السيّدة الطيّبة أخذي إلى منزلها لأرتاحَ قليلاً مِن الصدمة التي تلَقّيتُها مِن حسام. هناك، قدّمَت لي العصير وقطعة مِن الكيك وبكيتُ على سجيّتي شاكية لها خذلاني مِن الذي ادّعى حبّي ومِن مُعاملة أهلي لي. بعدها قالَت لي المرأة:
ـ للحقيقة أنتِ نفذتِ بريشكِ يا صغيرتي... فلو لم يُعطكِ الله القوّة لِرَكل ذلك المهووس، لاغتصبَكِ حتمًا. لا ألومكِ على تصديقه ومُرافقتكِ له والكذب على ذويكِ، فأنتِ تعيشين في جوّ مِن الكبت والجهل. فليكن ما حصَلَ لكِ درسًا لقّنَته لكِ الحياة مُباشرة، فاتّعظي منه وركّزي على دراستكِ، فالشهادات وحدها بإمكانها إخراجكِ مِن الظلمة، ظلمة الجهل تحت اسم الشرَف والأخلاق. وبعد حصولكِ على شهادة جامعيّة، جِدي عمَلاً واختلطي بالناس، وادرسيهم جيّدًا لتتمكّني مِن اختيار زوج المُستقبل.
ـ لكن ماذا لو زوّجَني أهلي عنوةً؟
ـ ما حصَلَ لكِ في الحرج أحدَثَ تغييرًا فيكِ ستلمسينَه قريبًا، ولا أظن أنّكِ لا تزالين تلك الفتاة الضعيفة والمُطيعة. فالمثل يقول: "ما لَم يقتلكِ يُقوّيكَ". لن يستطيع أحد تزويجكِ مِن دون إرادتكِ، أنا مُتأكّدة مِن ذلك. سأوصلكِ إلى جوار مدرستكِ وقد لا أراكِ مُجدّدًا، لكن إيّاكِ ثمّ إيّاكِ أن تقَعي فريسة حسام مُجدّدًا، فهو قد يُحاول تبرير ما فعلَه بأنّ في داخله كمّيّة هائلة مِن الحبّ لَم يستطِع السيطرة عليها أو شيئًا مِن هذا القبيل. أطلُبي أن تُنقَل غرفتكِ إلى غرفة أخرى بحجّة تختارينَها، ولا تخرجي مِن دون رفقة أحد إلى حين يملّ حسام أو ينساكِ، فبعض الرجال لا يقبلون الرفض. وإن حاوَلَ التحدّث معكِ، قولي له إنّكِ أخبرتِ أمّكِ عمّا حاوَلَ فعله، وإنّها ستشتكي عليه إن رأته ولو مرّة واحدة بجواركِ. شيء أخير، ليس كلّ الرجال مثل حسام لكن أشباهه موجودون بالفعل. ثقي بحَدسكِ وبالله واستعملي ذكاءكِ، فالحبّ ليس بالكلمات بل بالأفعال. إبحَثي عمّن يريدُ سعادتكِ قبل سعادته وستكونين بخير.
ـ ما اسمكِ يا سيّدتي؟
ـ جميلة.
ـ وأنتِ فعلاً جميلة، مِن الخارج والداخل. كَم أنّ ابنتكِ محظوظة بكِ!
ـ ليس لدَي ابنة، للأسف... أو بالأحرى لَم يعُد لدَيّ ابنة.
ـ يا إلهي... هل هي...
ـ دعينا مِن هذا الموضوع. تعالي لأوصلكِ إلى برّ الأمان.
حين دخلتُ بيتنا، ولأوّل مرّة منذ سنوات، شعرتُ بالفرح والطمأنينة. دخلتُ غرفتي وأسدَلتُ الستائر، وبدأتُ أدرس في كتبي بحماس لا مثيل له. نقلتُ غرفتي إلى غرفة أخرى كما نصحَتني جميلة أن أفعل، ولَم يُحاوِل حسام الاتّصال بي، ربّما لأنّه خافَ أن يُعاقَب.
حياتي مع أهلي باتَت أسهَل عليّ، بعد أن فهمتُ أنّها ستتغيّر بعد سنوات قليلة، وبعد أن استوعَبتُ أنّهم لن يتغيّروا. إجتهدتُ واجتهدتُ وصورة وصوت جميلة أمامي، فلقد فهمتُ أنّ ما فعلَته مِن أجلي وقالَته لي كان بمثابة عون لي، ولَم يكن مِن الوارد أبدًا أن أخذلها.
حاوَلَ أهلي مرّتَين تزويجي، لكنّ رفضي الصارم والنابع مِن شخصيّة لَم يرَونها مِن قَبل كان كافيًا لإسكاتهم.
إنا اليوم موظّفة في شركة تأمين، ومخطوبة لشاب يُحبُّني بالفعل ويُريدُ سعادتي قبل سعادته... أزورُ جميلة باستمرار! أجل، فلقد دقّيتُ بابها يوم دخلتُ الجامعة لأُطلعها على أخباري وإنجازاتي، وأطلبُ نصيحتها في باقي مسيرتي. هي مدعوة لزفافي، فلا يُمكنُني تصوّر فرَحي مِن دونها. ففي ذلك اليوم، ستستطيع تزويج الابنة التي فقدَتها.
حاورتها بولا جهشان