فرصة ثانية

لَم يستطع أحدٌ إقناعي بأنّ الذي رأيتُه يحصلُ بين زوجتي وإبن خالتها كان بريئًا. كنتُ آنذاك بالأربعين مِن عمري، أي رجلاً ذا خبرة في الحياة والناس. صحيح أنّ عبير أنكَرَت بقوّة أن تكون على علاقة مع قريبها وتوسّلَت إليّ كي لا أُطلّقها، إلا أنّني بقيتُ على موقفي لا بل أخذتُ منها إبننا لألقّنها درسًا قاسيًا بعد أن أعطَيتُها حبّي واهتمامي لأكثر مِن عشر سنوات. وخلال فترة زواجنا، خلتُ صدقًا أنّ زوجتي تُبادِلُني شعوري، لكنّني، وللأسف، كنتُ مُخطئًا. طويتُ صفحة مؤلمة مِن حياتي ونويتُ البدء مِن جديد. إلا أنّني سمحتُ لزوجتي السابقة بالقيام بزيارات أسبوعيّة لنا، فلَم يجدر بي حرمان إبني كليًّا مِن أمّه. لكن مِن جهة أخرى لَم أشأ فقدانه لامرأة لا تحترمُ قدسيّة الزواج.

مرَّت حوالي السنة على هذا النحو، وكانت تأتي عبير كلّ أسبوع إلى البيت وتقضي يومًا كاملاً مع إبننا تجلسُ وإيّاه تلعبُ، ومِن ثمّ تعودُ إلى أهلها. كانت رؤيتها في البيت مؤلمة إذ كنتُ في كلّ مرّة أتذكّرُ كم كنّا سعداء نحن الثلاثة، وكَم أنّها لعبَت دور الزوجة المحبّة على أكمل وجه. ولأنّني كنتُ لا أزال أحبُّها، بدأتُ أنسى على مرّ الأسابيع والأشهر مدى عمق جرحي إلى أن وجدتُ نفسي أتمنّى لو تعود عبير بصورة دائمة إلينا. لكنّني لَم أجرؤ على الوقوع في الفخّ نفسه، مع أنّ قريب زوجتي السابقة قد سافَرَ بعيدًا بعد أن فضحتهما.

وفي أحد الأيّام أصابَتني أنفلوانزا قويّة، وبقيَت عبير إلى جانبي طيلة فرصة نهاية الأسبوع، واهتمَّت بي كما كانت تفعلُ سابقًا وامتلأ قلبي بالدفء لِلَمستها الحنونة ووجودها معي. إلى جانب ذلك، كان إبننا بِمنتهى السعادة لرؤية والدَيه سويًّا. كنا، لفترة أيّام، قد عُدنا عائلة سعيدة يُحبُّ أفرادها بعضهم البعض.

بعد تلك الحادثة صرتُ أسمحُ لعبير بتمضية وقتًا أطولاً مع إبنها وصرتُ آخذهما في نزهات وإلى المطاعم. وتفاجأتُ بنفسي أنتظرُ بفارغ الصبر وصول نهاية الأسبوع كي أرى زوجتي السابقة.

 


والذي كنتُ خائفًا منه حصل: طلبتُ مِن عبير العودة إلى المنزل بصورة نهائيّة، وهي أكّدَت لي أنّ ما ظننتُه يحصلُ بينها وبين إبن خالتها لَم يكن إلا نتيجة تخيّلات، والبرهان هو أنّها لَم تلحق به حيث هو بل بقيَت عند أهلها. وأعترفُ أنّني بدأتُ أشكُّ بما كان سابقًا يقينًا حتى أنّني غضبتُ مِن نفسي على الذي فعلتُه بعائلتنا الصغيرة. عرضتُ على عبير الزواج مِن جديد وهي قبِلَت بسرور. لكنّها لَم تقبَل أن نُنجب ولدًا آخر خشيةً مِن أن يُصاب إبننا بالكآبة بعد السنة المؤلمة التي مرّ بها. وجدتُ أنّها على حقّ، واكتفَيتُ بالإستمتاع بهذه الفرصة الثانية التي أعطَت حياتنا الزوجيّة طعمًا جديدًا. فعلاقتنا الحميمة صارَت أكثر إثارة، وصرتُ أعود مِن عملي بسرعة لأكون مع التي كدتُ أن أفقدَها إلى الأبد.

لكن بعد أشهر قليلة، لاحظتُ تغيّرًا بتصرّفات إبننا تجاهي، فهو بات يتفاداني ولَم يعد يُحبّ الجلوس معي كما كنّا نفعل سابقًا. هل كان لا يزال غاضبًا مِن إبعادي لأمّه أم أنّ سنّ المراهقة ومتاعبه لحِقَ به؟ على كلّ الأحوال، أعطَيتُ الأمر بعض الوقت، وكنتُ واثقًا مِن أنّ الأمور ستتحسّن قريبًا بعدما يرى إبني أنّ أمّه باقية وأنّنا عُدنا كما في السابق.

مِن جهّتها، كانت عبير أفضل الزوجات، تُحضّر لي مأكولاتي المُفضّلة وتهتمّ بي وكأنّنا عرسانًا جدد. كلّ أقاربي وأصدقائي لاحظوا عليّ فرحتي وحماسي، وهنّأوني على حسن تصرّفي مع مسألة طلاقي. بإختصار، كانت حياتي حقًّا هنيئة.

وحصَلَ ما كان عليَّ توقّعه: في إحدى الأمسيات، حين عدتُ مِن عملي إلى البيت، لَم أجد أحدًا. كانت زوجتي قد رحلَت... آخذةً معها إبني! في البدء ظننتُ أنّهما عند أحد الأقارب فأخذتُ أنتظرُهما. لكن بعد مرور ساعتَين، أكلَني الهمّ وبدأتُ أتّصلُ بهاتف عبير الذي كان مُغلقًا، وبكلّ معارفي. ولَم يكن هناك أي أثر لهما.

وبالرغم مِن خوفي الشديد على مصير زوجتي وإبني، خطَرَ ببالي أن أتفحّص خزائنهما فوجدتُها فارغة. عندها فهمتُ اللعبة: كانت عبير قد أمضَت أكثر مِن سنة بتنفيذ خطّة مفادها أخذ ابني منّي واللحاق بعشيقها. إلا أنّني أملتُ أن أكون على خطأ في ما يخصّ العشيق، لِذا ركضتُ إلى بيت أهل زوجتي لأرى إن كانت عبير وإبني هناك. لكنّني تفاجأتُ بأهلها يطردوني بوحشيّة وينكرون بشدّة إيواء عائلتي.

إحترتُ لأمري، هل أُطلعُ الشرطة على ما حصل أم أنتظرُ قليلاً؟ وقرّرتُ مُراقبة منزل ذوي عبير فقد تكون هي هناك. لكنّني لَم أرَ زوجتي أو إبني قط. عندها تأكّدتُ أنّهما غادرا البلاد.

توجّهتُ لأقدّم بلاغ خطف لدى السلطات، لكنّ المشكلة كانت أنّ البلد الذي فيه العشيق ليس لدَيه معاهدة تسليم المطلوبين مع بلدنا، أي أنّني لا أستطيع المطالبة بإبني. نصحَني الشرطيّ أن أستخدم تحرّيًا خاصًا، لكنّني كنتُ أعلم أنّني لن أرَ إبني مجدّدًا، فهو كان قد بدأ يكرهُني بسبب أمّه بعدما صارَت تملأ رأسه بأمور بغيضة عنّي، وكنتُ متأكّدًا مِن أنّه رحَلَ معها بإرادته.

عدتُ إلى بيتي وحزنٌ عميق في قلبي، وندمٌ لا يُقاس على مُسامحتي لعبير وإرجاعها. فامرأة مثلها لا يجدرُ الوثوق بها. ولولا إبننا، لَما أعدتُها وأحبَبتُها مِن جديد.

 


... ومنذ هروب زوجتي مع إبني لَم أذق طعم السعادة، وكلّ ما كنتُ أفعلُه كان التفكير بإبني وبأحواله. هل كان سعيدًا، هل كان ذلك العشيق يُعامله جيّدًا، هل تعلّم اللغة بسرعة ودخَلَ مدرسة جيّدة؟

إنتكسَت صحّتي وصرتُ كالعجوز أجدُ صعوبة بالقيام بأبسط الأمور، مع أنّ سنّي لَم يتخطّى آنذاك الخامسة والأربعين.

إلتقَيتُ ببضع نساء لكنّني لَم أحبّ أيّة منهنّ، ليس لأنّني كنتُ لا أزال مُتعلّقًا بعبير، بل لأنّ قلبي لَم يعد قادرًا على الحبّ وخاصّة على الوثوق بأحد.

مرَّت حوالي العشر سنوات وأنا أعيشُ في حزن لا نهاية له حين جاءَني اتّصال بدَّلَ حياتي. لَم أتعرّف إلى صوت المتكلّم لكنّه قال:

 

ـ بابا؟

 

سكتُّ مطوّلاً وأجبتُه وصوتي يرتجف:

 

ـ أجل.

 

ـ هذا أنا... أنا في البلد، هل لي أن أراكَ؟

 

ـ يا إلهي! بالطبع! بالطبع!

 

بعدما أقفلتُ الخط وهدأ قلبي مِن الخفقان، خفتُ أن تكون تلك إحدى ألاعيب عبير، إلا أنّني بقيتُ مُتفائلاً. هل يُعقل أن أرى إبني بعد كلّ ذلك الوقت؟

وبعد نصف ساعة دُقَّ جرس الباب، وركضتُ أفتح لأرى أمامي شابًّا وسيمًا يُشبهُني لأقصى درجة. كانت ملامحه قد تغيّرت وكذلك حجمه. لَم أعرف إن كان يجدرُ بي ضمّه أو تقبيله، لِذا بقيتُ واقفًا أمامه أُحدّقُ به بفرح وإعجاب. لكنّه بدأ بالبكاء وركَضَ يُعانقني ويقولُ لي: "كَم اشتقتُ لكَ يا بابا!"

جلَسنا في الصالون وهو روى لي كلّ ما حصَلَ له:

 

ـ بقيَت أمّي تقول لي إنّكَ ستفصلُ بيننا مِن جديد، وإنّكَ مجنون وقد تؤذينا ومِن الأفضل لو نهرب بعيدًا عنكَ، إلى أن صدّقتُها ولحقتُ بها في تلك الليلة إلى فندق بعيد مِن هنا حيث قضَينا الليلة، لنقصد المطار في الصباح ونطير إلى ذلك البلد البشع بناسه وعَيشه. هناك تعرّفتُ إلى قريبها الذي اتضَحَ أنّه عشيقها، فهما لَم يتردّدا عن تبادل القبل أمامي وأكثر، ظانَين أنّني لا أزال صغيرًا لأفهم ما يجري. ندِمتُ على الفور على ما فعلتُه لكن ما مِن طريقة للعودة! لِذا قرّرتُ مُسايرتهما إلى حين أكبر وأعود إليكَ.

 

ـ لماذا لَم تتصل بي؟

 

ـ كان ذلك ممنوعًا، ولقد هدّدني العشيق بضربي واحتجازي بلا أكل أو شرب لو فعلتُ. ومرَّت السنوات وكلّ ما كان يدور ببالي هو إنهاء دراستي الجامعيّة وجَمع بعض المال لأعود إليكَ. هل تُسامحني؟ هل تقبل بي معكَ يا بابا؟

 

لَم أجِب بل عانقتُه بقوّة، وكأنّني أردتُ بلحظة التعويض عن عشر سنوات مِن الفراق.

تابعنا حياتنا وكأنّ عبير لَم توجَد قطّ، وتزوَّجَ إبني وأنجَبَ وصرتُ أسعَد الأجداد... والأفضل أنّنا لَم نسمَع مِن عبير قط.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button