فرشتُ معه بيت المستقبل ولكن...

حين بدأتُ العمل كمدرّسة في تلك المدرسة الكبيرة، كان بنيّتي ترك علامة لا تُنتَسى في قلب تلامذتي وخلق مناخ جيّد بيني وبين الإدارة وزملائي. كانت تلك أوّل تجربة لي بعد أن تخرّجتُ مِن كليّة التربية بدرجة إمتياز، وخلتُ أنّ مهنة التدريس هي رسالة سامية يحملها كلّ الذين اختاروا المضيّ في هذا الطريق. ولكنّني كنتُ مخطئة تمامًا.

 

فمنذ أوّل يوم رآني فيه المدير، أُعجِبَ بي وصار يُغازلني بإلحاح. ولم أرَ مانعًا في ذلك، فقد كان جلال عازبًا ولطيفًا ومهذّبًا. وبدأ الرّجل يروي لي تفاصيل مسيرته المهنيّة وحبّه للتعليم، ومِن ثمّ لإدارته مؤسّسة تُعنى بتربية أجيال صالحة. ثمّ إنتقل إلى حاجته إلى إنسانة مثقّفة تسانده في كفاحه ضدّ الرذيلة والجهل. وسألَني بعد أسابيع قليلة إن كنتُ تلك الإنسانة فأجبتُه بخجل:" نعم".

وأصبحَ ذهابي إلى المدرسة مصبوغاً بفرحة مزدوجة: حبّ التعليم وحبّ جلال.

ولكن بدأ مديري يُلحّ عليّ أن نرسّخ تلك العلاقة بالتقرّب أكثر، وعندما سألتُه عن قصده قال:

ـ حبيبتي... لستُ ولدًا صغيرًا... حبّي لكِ كبير جدًّا وأتوق إلى التواجد معكِ لوحدنا...

ـ ولكنّني آتي إلى مكتبكَ ونجلس نتكلّم لِساعات... حتى أنّكَ عانقتَني منذ يومَين بِحنان.

ـ أريد المزيد... وما العَيب في ذلك؟ سنصبح زوجَين قريبًا... هيّا...

ـ لم تتعرّف إلى أهلي ولم تأخذني إلى ذويكَ...

ـ ولِما العجلة؟

ـ ولِما العجلة في ما تتكلّم عنه إذًا؟"

وخرجتُ مِن مكتبه مستاءة. ولكنّه عادَ في اليوم الثاني محاولًا مصالحتي والإعتذار منّي:

ـ لا تسيئي فهمي... سأتعرّف إلى والدَيكِ قريبًا وأطلب منهما يدكِ".

وبالطبع صدّقتُ ذلك المدير المحترم، لأنّني كنتُ أفتقد إلى لخبرة بالناس وخاصّة بالرّجال.


وبدأ جلال يختلق الحجج كلّما سألتُه عن موعد زيارته لنا، ويزيد مِن إلحاحه مجدّدًا لِما أسماه "التمتّع بحبّنا " حتى أنّ التواجد معه باتَ مزعجًا.

وفي ذات يوم عندما كنتُ جالسة معه في مكتبه، حاول لمسي عنوة فصَرختُ به:

ـ ما بكَ لا تفهم؟ قلتُ لكَ لا! أم أنّكَ لا ترى فيّ سوى أداة ملذّة؟ أظنّ أنّه مِن الأفضل لو ننسى أمر زواجنا.

ـ لا تقولي ذلك يا حبيبتي... هذا مِن كثرة حبّي لكِ... لا أنفكّ عن التفكير بكِ... وبِـ...

ـ بماذا؟

ـ لاشيء... لا شيء...

ومرّة أخرى خرجتُ غاضبة مِن مكتبه، واعدةً نفسي ألا أدخله لوحدي مجدّدًا. وعند الباب، رأيتُ فادي الناظر العام الذي نظر إليّ بحزن:

ـ ما بكِ يا آنسة؟ أراكِ مهمومة.

ـ لا شيء... مشاكل التدريس.

ـ هل مِن شيء أستطيع فعله؟

ـ شكرًا، فادي... سأحل تلك المشاكل بنفسي.

 

وأصبحَ المجيء إلى المدرسة أمرًا مزعجًا، لأنّ جلال كان يُحاول التواجد معي على انفراد وكنتُ أفعل جهدي لتفاديه. وكان يهمس في أذني كلّما التقينَا في الردهة أو الممرّات" لا أزال أحبّك... سأكلّم أهلكِ قريبًا".

ولكثرة إلحاحه، عدتُ أصدّق كلامه المعسول خاصة أنّه طلب موعدًا مِن أبي بعد شهر" ريثما يُهيئ نفسه". وعادَت البسمة إليّ والأمل بأن يكون حبيبي فعلًا يُحبّني.

 

وزارنا أخيرًا "العريس"، وجلَسَ مع والدَيّ وطلَبَ يدي رسميًّا ونال الموافقة. عندها اختفَت مخاوفي كلّها. كان جلال يُحبّني فعلًا وكانت نيّته سليمة تجاهي.

 

عندها عرضَ عليّ حبيبي أن نبدأ بتأسيس مستقبلنا، أي أن نجمع راتبَينا لفرش شقّة كان قد اشتراها وحسب قوله بعد أيّام من وقوعه في حبّي وكان قد حفظ الأمر سرّيًّا ليتأكّد مِن قوّة حبّي له. وزرنا المعارض، واخترنا الأثاث كلّه وبدأنا بتقسيط ثمنه شهراً بعد شهر. ولأنّني كنتُ أرفض دائمًا الذهاب إلى الشقّة كي لا أتواجد معه لوحدنا، كان جلال يُريني صورًا عن الذي أسماه "عشنّا الزوجي". وبالطبع كنتُ أتخيّل نفسي جالسة على الكنبات أو في المطبخ الجميل أحضّر الأكل لزوجي ولاحقًا لأولادي.

 

ولكنّ موعد الزفاف بقيَ غامضًا، لأنّ خطيبي كان يُريد أن نسدّد كامل المدفوعات قبل الإنتقال إلى الشقّة كي نبدأ حياتنا مِن دون ديون.

 

ومرَّت سنة كاملة على هذا النحو، ولم يعد جلال يلحّ عليّ مِن ناحية طلباته الحميمة، وظننتُ طبعًا أنّه قَبِلَ الإنتظار حتى بعد الفرح. وبما أنّ ديوننا كانت ستنتهي بعد حوالي الستّة أشهر، بدأتُ طبعًا بتهيئة نفسي لأكون أجمل عروس في العالم.


ولكنّ شخصًا غيّرَ المعطيات كلّها. ففي ذات يوم، قال لي الناظر:

ـ آنستي... عليّ أخباركِ شيئًا... شيئًا لن يعجبكِ... ولكنّني لا أستطيع الصّمت عنه... علِمتُ أنّكِ تستعدّين للزواج مِن المدير.

ـ هذا صحيح... ولكن... كيف علِمتَ بالأمر؟ لم نقل شيئًا لأحد هنا.

ـ أحيانًا أمرّ قرب المكتب وأسمع محادثات.

ـ تسترق السمع؟ ما هذه الوقاحة! سأقول لِـ...

ـ إسمعيني أوّلًا ومِن ثم أخبري مَن تشائين... كنتُ أقول إنّني أسمع محادثات وأرى أشياءً كثيرة...

ـ إن كنتَ تعني أنّني أذهب إلى مكتب جلال، فإعلم أنّنا نتكلّم فقط ولا شيء مشيناً في ذلك... أنا فتاة محترمة!

ـ أعلم ذلك تمامًا... ولكنّكِ لستِ الوحيدة التي تدخل المكتب... وليس الجميع بأخلاقكِ العالية.

ـ ماذا؟ لن أدعَكَ تختلق الأكاذيب عن خطيبي!

ـ إسمعي... قبل مجيئكِ إلى المدرسة، كان المدير على علاقة مع مدرّسة اللياقة البدنيّة، وكانا يُخطّطان للزواج حين بدأتِ العمل هنا.

ـ وغيّر رأيه بها! أين المشكلة؟

ـ المشكلة أنّه لم يكفّ يومًا عن حبّها والتواجد معها في المكتب حين تكونين في الحصّة... رأيتهما وسمعتهما مرارًا... ولقد تزوّجا الأسبوع الفائت.

ـ لا أصدّقكَ! لقد طلَبَ جلال يدي مِن أهلي! وأفرش الشقّة معه!

ـ أو بالأحرى فرشتِ له ولزوجته الشقّة... أطلبي منه أن يأخذكِ إلى هناك وستَرين ما سيقول لكِ.

ـ سأفعل ذلك وسترى أيّها الكاذب! تراقب الناس وتختلق عنهم الأكاذيب بدل أن تقوم بعملكَ! سأطلب مِن جلال أن يطردكَ.

ـ إفعلي ما تشائين ولكن بعد أن تتأكّدي مِن كلامي.

وكي أثبت لفادي أنّه كاذب، قصدتُ خطيبي في مكتبه وقلتُ له إنّني أريد أن أرى أثاث البيت. فأجابَني:

ـ لنتركها مفاجأة لكِ يا حبيبتي... لم يتبقّ سوى أشهر قليلة لتسديد كامل الأقساط وستنتقلين إلى الشقّة وترَينها بنفسكِ.

ـ لا... أريد الذهاب إليها اليوم بعد انتهاء الدوام ولن أغيّر رأيي.

عندها اصفّر وجه مديري ولم يعد يعلم ما يقول. سكَتَ مطوّلًا ثم أجابَ:

ـ أنا آسف ولكن لا تستطيعين رؤية الشقّة... ولن أغيّر رأيي أيضًا.

ـ ماذا تخبّئ هناك؟ أو مَن بالأحرى؟ مِن حقّي رؤية الفرش الذي دفعتُ نصف ثمنه... ومِن حقّي رؤية المكان الذي سأعيش فيه معكَ... سأذهب معكَ إلى هناك بعد الدّوام، أفهمتَ؟ وإن لم تقبل فَـ...

ـ فماذا؟ ماذا ستفعلين؟ إسمعي... أنا المدير هنا وأنتِ مجرّد مدرِّسة... لا تخاطري بِمنصبكِ.

ـ تهدّدني؟ ماذا تخفي؟ زواجكَ مِن مدرّسة اللياقة البدنيّة؟ تخاف أن أرى أمتعتها في الشقّة؟

ـ مَن أخبَرَكِ بالأمر؟ هذا لايهمّ... أجل لقد تزوّجنا... وهذا مِن حقّي! وإن لم يُعجبكِ الأمر يُمكنكِ مغادرة المدرسة.

ـ إستغلَّيتَ حبّي لكَ لتفرش شقّتكَ على حسابي... وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، حاولتَ أيضًا إستغلالي جسديًّا لتضيف على نهاركَ نكهة مميّزة! ذهبتَ إلى أهلي وطلبتَ يدي منهما! أيّ إنسان أنتَ؟

ـ إنسان يفعل مصلحته... هيّا أخرجي مِن مكتبي ولا تعودي، وإن تسبّبتِ لي بأيّ مشكلة، فسأقدّم بلاغًا بكِ في وزارة التربية ولن تجدي عملًا في أيّ مدرسة كانت... يدي طائلة وأعرف معظم موظّفي الوزارة... مَن سيُصدّقون برأيكِ؟ المدير أو المدرّسة؟ هيّا أخرجي ولا تنسي دفع أقساط الأثاث الشهريّة فهي بأسمكِ وعليكِ تسديدها للمصرف حتى آخر قرش".

 

وعندما خرجتُ غاضبة مِن مكتبه رأيتُ فادي واقفًا أمامي. أخذَني بيدي وقادَني إلى الكافيتيريا، وجلبَ لي كوبًا مِن الماء وأخَذَ يواسيني. ثم قال:

ـ لقد وجدتُ لكِ مدرسة أخرى... كنتُ أعلم ما سيحدث فاستبقتُ الأمور... إنّها مدرسة جيّدة ومديرتها إمرأة.

ـ ولماذا تفعل كلّ ذلك مِن أجلي؟

ـ أنا لا أراقب الناس ولا أسترق السمع... أنا راقبتُكِ وتسمّعتُ إلى أحاديثكِ مع المدير خوفًا عليكِ، لأنّني كنتُ على علم بعلاقته مع المدرّسة الأخرى... خذي بعض الوقت لتفكّري بما حصل لتجتازي هذه المرحلة ومِن ثم سنتكّلم...

ـ عمّا؟

ـ عنّا.

ـ لم أعد أثق بالرجال... لا أظنّ أنّني...

ـ لا تقولي شيئًا الآن... إذهبي إلى بيتكِ وارتاحي... وعندما تشعرين بتحسنّ سأكون بانتظاركِ... تعلمين أين تجديني".

اليوم أعيش سعيدة مع زوجي فادي وأولادنا الثلاثة. أمّا المدير فطلّقَته زوجته بعدما وجَدَته مع إمرأة أخرى وحصَلَت هي على الشقّة والفرش.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button