فرحتي لم تكتمل...

كم أنّ الحبّ جميل! فلولاه لما استطَعنا التغلّب على ما يعترض دربنا مِن أحزان وآلام وضربات. وكم كنتُ محظوظة بايجاده بشخص وهيب الذي لم يكن مقدّرًا له أن يصبح زوجي. فقد كان كلّ شيء يُفرّق بيننا، مِن مستوى إجتماعيّ وثقافيّ وماديّ. ولكنّ قلبي كان دليلي، وتمسّكتُ به لأنّني علِمتُ أنّه حقًّا رجل حياتي.

 

عشتُ طفولة سعيدة بين أهل محبّين أمّنوا لي مناخًا سليمًا معنويًّا وماديًّا. كنتُ أعشق الدّراسة واكتشاف كلّ ما كان يحدث مِن حولي، وعطشي للمعرفة كان مِن دون حدود. كنتُ دائمًا أولى صفّي وحصلتُ على شهادة البكالوريا بدرجة جيّد جدًّا.

ودخلتُ الجامعة وكانت فرحتي بالحياة لا توصف. وإذ بصديقة تقول لي إنّ هناك شاباً معجباً بي ويطلب التقرّب منّي. لم يكن الحب واردًا عندي ولا أيّ ارتباط حتى لو كان رسميًّا. لِذا رفضتُ التعرّف إليه ولكنّ صديقتي بقيَت مصرّة حتى أقنعَتني أخيرًا.

 

وبدأ وهيب يتصل بي وتبادلنا الأفكار بدون أن أرى حتى صورته. ومع مرور الأيّام، أصبحتُ مدمنة على ذلك الصوت الدّافئ والكلام الجميل ولم أعد أفكّر سوى بحبيبي المجهول.

 

وعندما التقَيتُ به لأوّل مرّة طلَبَ منّي وهيب أن أتزوّجه. طِرتُ مِن الفرح، وركضتُ أزفّ الخبر لأهلي ظانّة أنّهم سيفرحون هم أيضًا. ولكن بعد أن سألوني عنه واكتشفوا أنّه فقير ولم ينه دراسته، جابهوني برفض قاطع.

 


وبدأَت معركتي مِن أجل وهيب. لم أكن مستعدّة للعيش مِن دونه، بعدما وصَلَ إلى قلبي وأعطى لحياتي معنىً لم يكن بالحسبان.

وأفهَمتُ ذويّ أنّني لن أقبل بغيره حتى لو كلّف الأمر أن أبقى مِن دون زواج إلى آخر عمري.

وأمام عنادي وتصميمي، أُعطيتُ الضوء الأخضر شرط أن أكمل دراستي الجامعيّة. وتمَّت الخطوبة وبدأتُ أبني الأحلام.

قد يتوقّع البعض عند قراءة هذه الأسطر أنّ فرحتي لم تدم، ولكنّهم على خطأ. فقد كان وهيب حقًّا رجلاً محبًّا يستحقّ أن أتمسّك به وأن لا أرضى بغيره.

 

وبعد تخرّجي أقمنا عرسًا بسيطًا بسبب قلّة المال. كنتُ أنا التي طلَبَت ذلك، لأنّني لم أكن أريد أن يُنفق زوجي كلّ ما لدَيه مِن أجل إبهار عائلتي التي أثقَلَت كاهله بالمتطلّبات التقليديّة لكلّ خطوبة وزيجة.

وانتقلنا للسكن في شقّة صغيرة، بعدما جعلتُ منها مكانًا يحلو للعيش فيه وبدأنا حياتنا كثنائيّ.

وأعطاني وهيب الحنان الذي انتظرتُه منه، ولكنّ حالتنا الماديّة كانت صعبة. لِذا قرّرتُ البحث عن عمل، وظنَنتُ أنّ بفضل شهادتي كنتُ سأجد مبتغاي بسرعة. ولكنّ وضع البلد السيّيء لم يُساعدني وخابَ أملي.

 

ومرَّت الأشهر، وقرّرتُ وزوجي أن نأتي بولد إلى الدنيا. كان مِن السهل عليّ الاهتمام بمولود، لأنّني لم أكن أفعل شيئًا خلال أيّامي، ولكنّنا تفاجأنا بعدم قدرتنا على الإنجاب.

وفي تلك المرحلة بالذات تغيّرَت حياتنا.

 

بدأنا نزور أطبّاء المدينة الواحد تلو الآخر بحثًا عن العلاج السّحري، وأجرَينا كلّ الفحوصات والتحاليل الممكنة، وأخذنا جميع الأدوية ولكن مِن دون جدوى. وأصبنا بالإحباط والقلّة لأنّ كلّ ذلك يتطلّب مبالغ كبيرة. وحين انتهت جميع العلاجات، لم يتبقَ لنا سوى حلّ واحد: التلقيح.

وبالرّغم مِن حالتنا الماديّة قرّرنا المحاولة. لم نمدّ يدنا لأحد، لأنّنا أرَدنا أن نحافظ على استقلاليّتنا وكياننا. صبرنا إلى حين أصبَحَ لدينا ما يكفي لنخوض تجربة التلقيح، فرصتنا الأخيرة.

وتتوّجَ عذابنا بالنجاح وبكينا عندما جاءَت النتيجة إيجابيّة. حملَني وهيب ودار بي وقبَلَّني مئة قبلة. ولكنّ ذلك الفرح لم يكن شيئًا أمام الخبر الذي زفّه إلينا الطبيب بعد أشهر: كنّا ننتظر تؤام بنات!

وانهالَت التهاني علينا، وباتَ الكلّ يترقّب قدوم طفلَتيَّ إلى الدنيا.

 


وركضنا نشتري الثياب والأثاث وكلّ ما يُمكن أن يخطر ببال والدَين متعطّشين لرؤية ثمرة حبّهما. إخترنا الإسمَين وبدأنا نتصوّرهما يلفظان"بابا" و"ماما" لأوّل مرّة. وحين كنتُ أجلس مع وهيب ونتكلّم عنهما، كنتُ أشعر بهما يركلان داخل بطني، وكنتُ آخذ يد زوجي وأضعها على بطني وأقول له ضاحكة: "يُعجبهما الحديث". وتمّ قبولي في إحدى الشركات التي رحتُ أدق بابها بعد الزواج وخلتُ حقًّا أنّني وسط حلم جميل.

 

وانتهى ذلك الحلم الجميل عندما استفَقتُ ذات ليلة على انقباضات عنيفة في بطني. أسَرَع وهيب بأخذي إلى المشفى حيث حاول الطاقم الطبيّ ما بوسعه لإنقاذ إبنتَينا ولكنّهما لم تكونا قد اكتملتا بعد. وفارقتا الحياة قبل أن تبصرا النور وأخذتا معهما ضحكاتنا وآمالنا.

كم بكيت؟ بقدر ما بكى زوجي الذي كان يمسح دموعه قبل دخول غرفتي كي لا يزيد مِن حزني.

وفي المصيبة، إلتحمنا أكثر مِن قبل بفضل حبّنا الكبير. وعندما كان زوجي يُداعب شعري ويُخبرني القصص الطريفة ليُضحكني، كنتُ أفكّر بتلك النساء اللواتي تمرّ بظروف مماثلة بدون مساندة أزواجهنّ، ويعشنَ المصيبة مصيبتَين بسبب وحدتهنّ. فموت الولَد هو أصعب ما يُمكن حصوله لأمّ، ولن تفهم حقًّا العلاقة التي تربطهما والتي تبدأ منذ اللحظة الأولى لتكوين الجنين، إلا أم.

لم يمرّ على فاجعتي الشهر وأنا لا أصدّق أنّني فقدتُ عروسَتَيّ الجميلتَين. ولكنّني أعلم أنّ وهيب سيستطيع انتشالي مِن الإحباط وأنّني سأتحسَّن مِن أجله.

وإن لم ننجب بعد ذلك، ستكون مشيئة الله، فأحيانًا مِن الأفضل الإكتفاء بما نملكه ونحمده على ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button