إعطاء الدروس الخصوصيّة لتلامذة غير فالحين هو أمرٌ صعبٌ بحدّ ذاته، فكيف لو ترافقَ مع متاعب كنتُ فعلاً بالغنى عنها؟ ويا لَيتني أخذتُ تلميذًا آخر، إلا أنّ أب رندا كان مُقتدرًا ولَم أكن أريدُ أن يتكرّر السيناريو ذاته حين تعذّرَ على أب تلميذ سابق دَفع أتعابي. فالحقيقة أنّني كنتُ بحاجة لهذا المال، خاصّة أنّ مالك الشقّة حيث كنتُ أعيشُ وأهلي قرَّرَ زيادة الإيجار بشكل جنونيّ وإلا طرَدَنا.
كانت رندا في الصفّ السادس والله يعلَم كيف وصلَت إلى تلك المرحلة، نظرًا لجهلها لأبسط المعلومات، وشككتُ فعلاً بأنّ لثروة أبيها دخلاً بذلك، فهي كانت تتلّقى علمها في مدرسة خاصّة معروفة بعدد تلاميذها القليل والمختارين مِن أفضل عائلات المنطقة. هي لَم تكن ساذجة أو مُصابة بتأخير عقليّ، بل كسولة ومُدلّعة لدرجة لَم أتصوّرها مُمكنة، الأمر الذي حيّرَني لناحية التعامل معها. رجوتُ أن تحبَّني على الأقل فهذا كان شرط أبيها الأوحد، فلقد سبقَتني مُدرّسات عديدات لَم تمكثنَ سوى لأيّام قليلة. الراتب كان أكثر مِن جيّد فقرّرتُ تحمّل كلّ ما بإمكانه أن يصدر عنها.
لَم أجِد أمّ رندا حين دخلتُ بيت هؤلاء الناس، فهي كانت "غائبة لوقت قصير" بل استقبلَتني العاملة وأخذَتني إلى غرفة الفتاة. في طريقي، لَم يغِب عن نظري جمال الأثاث والديكور. وجدتُ رندا جالسة على الأرض وسط عدد لا يُحصى مِن الدمى، إلا أنّها لَم تُلقِ ولو نظرة تجاهي مع أنّها رأتني مِن طرَف عَينها. فقلتُ لها:
ـ أنا ماجدة، مُدرّستكِ الجديدة.
ـ أنتِ قبيحة.
ـ وكيف لكِ أن تعرفي ذلك وأنتِ لَم تنظري إليّ؟
ـ أنا لا أُحبُّكِ، فمِن الأفضل أنّ ترحلي.
ـ جئتُ لأُدرّسكِ يا رندا، فهذه مهنتي... لكن... نستطيع اللعب بالدمى قبل أن نبدأ بالدرس.
ـ ها أنا ألعَب بالدمى، لا حاجة لي إليكِ.
ـ صحيح ذلك، لكنّ الدمى لا تتفاعل معكِ لأنّها دمى وأنا مُتأكّدة مِن أنّكِ ملَلتِ منها... سألعبُ معكِ ونتسلّى سويًّا ومِن ثمّ نبدأ بالدرس... ما رأيكِ؟
مدَّت لي رندا دُمية وهي لا تنظر إليّ، وبعد حوالي الربع ساعة مِن اللعب كلّ منّا مِن جهتها، صِرنا نلعبُ سويًّا. كنتُ قد خرقتُ الجدار الذي وضعَته الفتاة حولها. درسنا قليلاً ومِن ثمّ غادرتُ غرفتها قائلةً:
- سأعودُ غدًا في الوقت نفسه، لكنّنا سندرس أوّلاً ومِن ثمّ نلعب.
عدتُ في اليوم التالي بحماس، وكانت الفتاة تنتظرُني لبدء الدرس، وكان اليوم مُثمرًا إلا أنّ رندا قالَت لي والدمع يملأ عَينَيها:
- يا لَيتنا ندرسُ غدًا في غرفة والدَيَّ، فالماما مُسافرة عند خالتي ولقد اشتقتُ لها كثيرًا... هكذا لن أشعرَ بِبُعدها.
قبلتُ معها فكلّ ما كان يهمُّني هو أن أنجحَ في تلقينها المعلومات الكافية لتتقدّم في علمها ويدومُ عمَلي أطوَل وقت مُمكن.
درَسنا في غرفة والدَي رندا، واستمرَّينا لأسبوع في ذلك المكان حتى أنّ الفتاة قالَت لي إنّها تودُّ العودة إلى غرفتها لأنّها اشتاقَت إلى ألعابها. لَم أُمانع طالما كان الوفاق يسودُ بيننا.
أحبَّتني أخيرًا رندا فقد صارحَتني قائلة:
- أشعرُ بالأمان معكِ يا آنسة ماجدة، فأنتِ صرتِ بمثابة أمّي الثانية... هل أنتِ ممتنّة منّي؟ ها أنا أجتهدُ مِن أجلكِ وكلّ ما أُريدُه هو أن تُدرّسيني مدى حياتي!
إبتسمتُ لقولها هذا ووعدتُها بأن أبقى مدّة حاجتها لي. أب رندا كان هو الآخر ممتنّاً مِن عمَلي، ووعدَني بعلاوة إن تبّينَ له أنّ إبنته حصلَت على علامات جيّدة، فزِدتُ إصرارًا على النجاح في مُهمّتي. سألتُه عن زوجته، ليس بدافع الفضول، بل لأنّ غيابها يُؤثّرُ كثيرًا على نفسيّة الفتاة، فأجابَني بإحراج:
ـ زوجتي ذهبَت عند أختها في الخارج لتُريح أعصابها قليلاً.
ـ أعصابها؟ ما بها؟
ـ علاقتها مع رندا ليست جيّدة... هناك عدَم تفاهم وتناغم بينهما ولقد أثّرَ الوضع على صحّتها النفسيّة.
ـ لكنّ الفتاة بحاجة إلى أمّها... ولا يجوزُ أن يستمرّ الوضع طويلاً. إسمَح لي بأن أنصحُكَ بالتدخّل وإرجاع زوجتكَ وإيجاد حلّ على المدى الطويل.
ـ للحقيقة لستُ مُتحمّسًا لعودة زوجتي... فهي ليست إمرأة صالحة، أعني مِن الناحية الزوجيّة.
ـ ماذا تقصد؟
ـ لولا إبنتي لمَا علِمتُ بالذي يحصل.
ـ وما دخل إبنتكَ بزواجكَ؟
ـ الناس يعتقدون أنّ الأولاد لا يفهمون ما يجري وهم مُخطئون، فالصغار يرون ويسمعون كلّ شيء... وهي التي نبّهَتني إلى ما يدورُ بين زوجتي وعشيقها.
ـ كَم مِن الصعب أن تعلمَ فتاة صغيرة بهكذا أمور! يعني ذلك أنّ زوجتكَ لا تُريحُ أعصابها بل غادرَت بسبب فَضح خيانتها؟
ـ الأمران معًا... فلقد قرّرتُ مُسامحتها والبدء معها مِن جديد، إلا أنّها لَم تعُد تُطيق التواجد في المكان نفسه مع إبنتنا... تصوّري أنّها تلومُ رندا على فضحها.
ـ كلّ ذلك يُفسّرُ تصرّفات رندا، فهي عاشَت أمورًا لا يجدرُ بأيّ فتاة المرور بها... أرجو أن تصطلحَ الأوضاع بينكم جميعًا.
بعد ذلك الحديث صرتُ أنظرُ إلى تلميذتي كضحيّة وليس كفتاة مُدلّعة وكسولة، وأخذتُ على عاتقي أن أُعطيها الحنان والإنتباه الذَين حُرِمَت منهما مؤخّرًا.
مرَّت الأشهر بسلام وتقدّمَت رندا بالمدرسة، وصارَت تلميذة جيّدة حين عُرِضَ عليّ عمل كمدّرسة في مؤسّسة تقَع في منطقة بعيدة. لِذا كان عليّ التوقّف عن تدريس رندا لأنّني سأعيشُ على مدار السنة في حرَم مدرستي الجديدة. لَم تتقبَّل رندا الخبَر بتاتًا، بل بكَت وصرخَت وألقَت بدمياتها أرضًا مِن كثرة غضبها. حاولتُ تهدئتها مُشيرةً إلى أنّها صارَت جاهزة للمُتابعة مِن دوني. وفجأةً نظرَت إليّ الفتاة نظرة يُمكنني وصفها بأنّها مليئة بشرّ لَم أتخيّله موجودًا خاصّة لدى أحد بسنّها، وقالَت:
ـ إن رحلتِ فسوف أتصرّف... ليس لدَيكِ أدنى فكرة عمّا بإمكاني فعله!
ـ أنتِ غاضبة الآن وستستوعبين سريعًا حقيقة الوضع... العمَل الذي عُرِضَ عليّ هام للغاية خاصّة لمُستقبلي المهنيّ ولا ينبغي عليّ رفضه.
ـ ستندمين كثيرًا... سأجعلُ مِن حياتكِ جحيمًا!
ـ ما هذا الكلام؟!؟ لَم أُخطئ يومًا بحقّكِ يا رندا بل عاملتُكِ بمحبّة. تُهدّدين بأذيّتي؟!؟ أعلمُ كَم أنّ ما فعلَته أمّكِ كان صعبًا عليكِ لكن...
ـ ما فعلَته أمّي؟ هاهاها! ما دُمتِ فتحتِ هذا الموضوع، إعلَمي أنّ ما حصَلَ لها ليس مهمًّا بقدر ما سيحصلُ لكِ.
ـ لَم أفهَم قصدكِ.
ـ لَم أُحبّها يومًا، فهي إنسانة مُزعجة للغاية وكانت تستحوِذُ على انتباه أبي باستمرار. حركاتها كانت مُبتذلة ولَم أعدُ أُريدُها في البيت.
ـ ماذا تعنين؟!؟
ـ أبي رجل ساذج ويُصدّقُ كلّ كلمة مِنّي... وهو دائم الإنشغال وليس لدَيه الوقت ليُحلل كما يجب... لِذا كلّ ما احتجتُ إليه كان إخباره بأنّني سمعتُ أمّي تتحدّثُ على الهاتف مع عشيقها.
ـ وهل كان لدَيها عشيق؟
ـ ما أغباكِ! بالطبع لا!
ـ يا إلهي!
ـ وتخلّصتُ منها! أرادَ أبي إرجاعها لكنّني قلتُ لها عبر الهاتف إنّها في أفضل حال حيث هي، وإن عادَت فستحصلُ لها أمورٌ أفظَع بعد. لِذا، يا آنسة ماجدة، عليكِ الرجوع عن قراركِ بالرحيل. أنتِ باقية معي!
ـ وإلا؟!؟
ـ وإلا أخبرتُ أبي عن سرقتكِ لأغراضه حين درَسنا في غرفة أهلي... فلقد أخذتُ، بداعي الإحتياط، ساعة ثمينة له لا يلبسُها إلا نادرًا وعلبة سيجار مِن الجلد المُذهّب الخاصّة به. مصيرُكِ السجن يا مُدرّستي العزيزة!
أجبَرتُ نفسي على عدَم صَفع تلك الشرّيرة الصغيرة وغادرتُ الغرفة بسرعة، وسمعتُها تقولُ لي:
- إلى الغد يا آنستي!
ركضتُ على الفور إلى أب رندا وأخبرتُه بكلّ ما علِمتُه، فكانت فكرة إتّهامي بالسرقة تعني نهاية مسيرتي المهنيّة وسمعتي، ولَم أقبَل أن تتمكّن فتاة مِن السيطرة على مسار حياتي. أمِلتُ أن يُصدّقني الرجل، ففي آخر المطاف كانت هي إبنته المُدللة وأنا إنسانة غريبة عنه.
سكَت الأب وسمعَني حتى الآخِر ورأيتُ الدَمع في عَينَيه. ثمّ قال:
ـ هذا تمامًا ما قالَته لي زوجتي... قالَت لي إنّ إبنتنا شرّيرة وألَّفَت قصّة العشيق لإبعادها، وأنا لَم أُصدّقها. لكنّني أصدّقُكِ يا آنسة ماجدة فلَم يكن بمقدوركِ إختراع هكذا قصّة لولا معرفتكِ بحقيقة ما جرى. أعلَم أنّكِ لَم تسرقي أغراضي، فلقد اتّهمَت رندا المدرّسات السابقات أيضًا بالسرقة وطردتُ تلك المسكينات. قولي لي... ماذا أفعل بإبنتي؟ وزوجتي؟
ـ عليكَ عَرض رندا على أخصّائيّ نفسيّ، فإذا تُرِكَت قد تُصبحُ يومًا مُجرمة، مَن يدري؟ أمّا بالنسبة لزوجتكَ، فمِن الأفضل لها أن تبقى حيث هي، على الأقل ريثما تشفى إبنتكما. فهي حتمًا مريضة. أنا آسفة مِن أجلكَ يا سيّدي ولا أحسدُكَ على وضعكَ. الوداع.
رحتُ أعمَل في تلك المؤسّسة، وأحببتُ عمَلي لكنّني لَم أنسَ رندا وبقيتُ أتّصلُ بأبيها لأعرفَ ما حصَلَ لهؤلاء الناس. علِمتُ أنّ أباها أخذَها إلى طبيب نفسيّ لكنّها لَم تتحسّن إلا قليلاً، فالأمر يتطلّبُ وقتًا طويلاً. علِمتُ أيضًا منه أنّ زوجته عادَت إلى البيت، لكنّها سافرَت مِن جديد بعد أن حاولَت رندا الإنتقام منها. تطلّقَ الزوجان، وهو يُفكّر بوضع الفتاة في مؤسّسة مُختصّة بالأمراض العقليّة.
يا ترى، مَن المُذنِب لِما حصَلَ لتلك العائلة؟
حاورتها بولا جهشان