فادية

ما آلَت إليه حياتي سببه الوحيد أمّي. أجل، فهي قد دمَّرَت، مِن دون قصد طبعًا، مُستقبلي الذي أخَذَ منحىً خاصًا جدًّا. فمنذ ولادتي، قرَّرَت والدتي أنّ ذلك الجنين الذي وضعوه بين ذراعَيها في المشفى هو فتاة. فهي لطالما حلِمَت بإنجاب فتاة، وكَم كانت فرحتها كبيرة حين شخصّوا لها خطأً جنس جنينها، إذ أكدّوا لها أنّها فتاة.

ألبسَتني أمّي اللون الزهريّ وحسب، وحين صار لدَي شعر يسمحُ بذلك، وضعَت في شعري المُشبّكات الملّونة وجدّلَته وربطَته. وبالرغم مِن غرابة الأمر، لَم يهتمّ والدي كثيرًا لِما يجري بسبب صغر سنّي. ثمّ حان دور الفساتين الصغيرة فوق سراويلي والكلسات ذات الرسمات الزهريّة. إضافة إلى ذلك، كانت أمّي قد غيَّرَت إسمي مِن فادي إلى "فادية"، في البيت حصرًا طبعًا.

إضطرَّت أمّي إلى قصّ شعري يوم دخلتُ المدرسة، لأنّ قانون المؤسّسة يُملي علينا ذلك. وأذكرُ أنّها بكَت بينما نظَرَ إليها أبي وقال لها:

 

ـ لقد انتهَت اللعبة الآن.

 

ـ هي ليست لعبة! أنظر إلى صغيرتي الآن! أهذا شعر يليقُ برقّتها؟!؟

 

ـ كفاكِ جنون! إنّه صبي! الحمد لله أنّه ذاهب إلى المدرسة لتصطلح الأمور!

 

قد تسألون لماذا لم يُنجِبَ والدايَ طفلاً آخر على أمَل أن تولَدَ فتاةً، فالحقيقة أنّ والدتي هي التي مانعَت، ففي نظرها كانت قد أنجبَت إبنة بالفعل ولا حاجة لأخرى. إعتقدَ والدي أنّ ما تمرُّ به زوجته ليس سوى مرحلة عابرة، لكنّه كان مُخطئًا.

وجدتُ مظهري غريبًا للغاية بشعري القصير وبلباس صبيّ... ولَم يُعجِبني الأمر. كنتُ أحبُّ الثياب الزهريّة اللون والتصفيفات الجميلة التي علَت رأسي. لِذا لَم أُمانِع أبدًا أن ألبسَ دور "فادية" لدى عودتي يوميًّا مِن المدرسة، لا بل كان ذلك يُريحُني. وهكذا اعتدتُ على ازدواجيّة حياتي.

 

مع الوقت ضاقَ صبر أبي، إذ أنّه أدركَ أنّ التي تزوّجَها تُعاني مِن خطب ما وأنّ إبنه الوحيد الذي سيحملُ إسمه بعد مماته هو مزيج مِن صبي وفتاة. حاوَلَ مرارًا حَمل زوجته على رؤية طبيب نفسيّ إلا أنّها جابهَته برفض قاطِع. لِذا فضَّلَ والدي الرحيل لبناء عائلة طبيعيّة وليعيش حياة طبيعيّة. قبل مُغادرته البيت قال لي:

 


ـ لستُ أتخلّى عنكَ يا حبيبي، بل أبتعدُ فقط لأسباب ستُدركها لاحقًا. سأبقى على اتّصال بكَ وسأُزوّدُكَ بكلّ ما أنتَ بحاجة إليه لبناء مُستقبلكَ. إيّاكَ أنّ تنسى أنّكَ صبيّ وستصبحُ لاحقًا رجلاً قويًّا ومُنتجًا. أرجو أن يُسامح الله أمّكَ ويُنوّر عقلها فهي تقترفُ جريمة بحقّنا.

 

لَم يُؤثّر بي كثيرًا رحيل والدي، لأنّ أمّي هي بنفسها لَم تُبالِ بل وجدَت أنّ غياب زوجها يفسحُ أمامها المجال لتنفيذ ما في رأسها وعلى سجّيتها.

صرتُ مُراهقًا وسيمًا... أو بالأحرى صبيّة جميلة، على الأقل حين كنتُ في البيت، وتعلّمتُ التبرّج مِن خلال الكتب والبرامج التلفزيونيّة. إشترَت لي والدتي المساحيق ولاحقًا الباروكات، وكنّا نقضي أوقاتًا جميلة سويًّا في تصفيف شعري المُستعار وتجميل وجهي.

عليّ لَفت انتباه القارئ إلى أنّني لَم أكبر لأصبَحَ مثليًّا، فكانت الفتيات تستهويني كما يحصل لأيّ شاب في سنّي. لكنّ نمَط حياتي الذي أصفُه بالسرّيّ منعَني مِن الإقدام على مُخاطبة الصبايا. فماذا ستقولُه الفتيات عنّي حين تعلمنَ بحبّي للباسهنّ؟ أطلعتُ أمّي على مخاوفي وهي أجابَت: "أنتِ لستِ بحاجة لأحد سواي يا صغيرتي."

دخلتُ الجامعة وهناك اختلطتُ بالعديد مِن الناس، واكتسبتُ معرفة وعلم ساعداني على استيعاب ظروف حياتي غير الطبيعيّة. وقمتُ ببعض الأبحاث في مكتبة الجامعة، فاكتشفتُ مدى مرَض أمّي النفسيّ. لكنّ الأوان كان قد فات، فالبرّغم مِن قراري بالتغيّر، لَم أستطع تنفيذ هذا القرار فعليًّا. كنتُ أجدُ الراحة والإطمئنان في الملابس النسائيّة والأحذية ذات الكعب العاليّ. شتمتُ والدتي ضمنيًّا، فما ذنبي إن كانت التي أعطَتني الحياة إنسانة غير موزونة؟ قصدتُ والدي الذي كان بالفعل قد بقيَ يُلبّي طلباتي ويسألُ عنّي بين الحين والآخر بالرّغم مِن انشغاله بأولاده الآخرين، وقلتُ له بغضب:

 

ـ لماذا تركتَني؟!؟

 

ـ لَم أعُد أتحمّل العَيش مع تلك المجنونة. فعلتُ جهدي، صدّقني يا بُني، لكنّها رفضَت أن تتعالج.

 

ـ لِما لَم تأخذني معكَ إذًا؟!؟

 

ـ سامحني... فلقد اعتبَرتُكَ جزءًا مِن المُعادلة وأنّ مكانكَ هو مع أمّكَ... أردتُ بداية جديدة، بداية سليمة.

 

ـ أنا ضحيّة! ما ذنبي؟!؟

 

ـ عليكَ أن تتعالج يا بنَيّ.

 

ـ لا أُريدُ ذلك!

 

ـ إنّكَ تتصرّفُ تمامًا كأمّكَ. سأعطيكَ المال اللازم لترى طبيبًا نفسيًّا.

 

ـ لا أريدُ مالاً بل أريدُ أبًا.

 

ـ وأنا لا أُريدُ إبنة بل أُريدُ إبنًا.

 

عدتُ غاضبًا مِن تلك المُقابلة التي ملأتني بمرارة لا توصَف، فكان لدَيَّ أمّ مجنونة وأب أنانيّ. عدتُ أيضًا إلى نمَط حياتي، أي إلى شاب في العلَن وصبيّة في البيت حيث كنتُ أشعرُ بارتياح كبير، لأنّ لا أحد سيحكمُ عليّ لطريقة لباسي وتبرّجي.

 


إلا أنّني وقعتُ في الحبّ وأخفَيتُ طبعًا سرّي عن حبيبتي التي رأَت فيّ رمز الرجولة. للحقيقة كنتُ فعلاً رجلاً، ليس فقط بإنجذابي للنساء بل بحمايتي لهنّ واتّخاذ القرارات الصائبة. فقط لو أستطعتُ التخلّص مِن جانبي الآخر! لكن ذلك كان يعني التخلّص أيضًا مِن تأثير أمّي عليّ وإنهاء وجودها في حياتي. لكن هل كان يحقُّ لي التخلّي عنها كما فعَلَ أبي مِن قبلي؟

أعربَت سميرة حبيبتي عن رغبتها بالتعرّف إلى أمّي، بعدما رحتُ أزورُ أهلها لأُطمئنَهم بما يخصّ نوايايَ تجاه إبنتهم. فصرتُ موظّفًا ولدَيّ مُستقبل لامع وبإمكاني تأسيس عائلة بكلّ سهولة. لكن كيف أُخاطر بفقدان سميرة لو هي أتَت إلى بيتنا، واستمعَت إلى حديث امرأة مجنونة تُناديني "فادية"؟ إخترَعتُ الأعذار الواحد تلو الآخر، مِن مرض أمّي الذي يمنعُها مِن إستقبال الزوّار إلى ذهابها إلى القرية لقضاء أشهر طويلة هناك. إلا أنّني أدركتُ أنّ لا مفرّ مِن أن يحدث يومًا هذا اللقاء، فقلتُ لوالدتي بلهجة تُستعمَل عادةً مع الأطفال:

 

ـ سنلعبُ لعبة مُثيرة يا ماما... سندَّعي أنّني رجل أمام الناس لنرى إن كانوا سيُصدّقون الأمر... أُشارطُكِ بأنّني سأربحُ الشرط وأنّكِ لن تتمكّنين مِن مُجاراتي! 

 

رأيتُ بريق حماس في عَينَيها فاطمأنّ قلبي قليلاً. كلّ ما أرَدُته كان أن تأتي حبيبتي لزيارتنا مرّة واحدة. أمّا بالنسبة للزواج، فسأجدُ حلاً آخر لاحقًا.

تمكنَّتَ والدتي مِن حفظ السرّ طوال زيارة سميرة لها التي أردتُها قصيرة، "بسبب حالة والدتي الصحيّة" وارتحتُ كثيرًا. لَم أفكّر بما سأفعلُه بميولي بعد الزواج، إذ خلتُ حقًّا أنّ الأمر شبيه بكبسة زرّ. لَم أًدرِك مدى تأثّر الولد بكلّ ما يُلقَّن له في سنواته الأولى فالأمر حقًّا كالنقش في الحجر.

لَم يحضَر والدَاي زفافي، أمّي لأنّها، حسب قولي، مريضة وأبي لأنّه مُسافر بعيدًا مع عائلته. لَم يشكّ أحدٌ بشيء، ورحتُ وزوجتي إلى شهر عسلنا والحب يملأ قلبَينا.

بعد عودتنا قلتُ لسميرة إنّ أمّي مجنونة، ومرَضها يحملُها على التصرّف بعنف أحيانًا، فخافَت منها ولَم تطلُب رؤيتها بعد ذلك.

عشتُ أيّامًا سعيدة مع زوجتي... إلى أن استَيقظَت ميولي مِن جديد. كنتُ حتى ذلك الحين قد تناسَيتُها ظانًّا أنّها ستختفي مِن تلقاء نفسها، بعدما صرتُ بعيدًا عن التي دمّرَت قسمًا كبيرًا مِن حياتي. إلا أنّني صرتُ أشعرُ بإنزعاج في المساء وخلال فرصة نهاية الأسبوع وبحاجة مُلِحّة لخَلع ثيابي الرجّاليّة لارتداء الفساتين والتبرّج. قاومتُ كثيرًا تلك الرغبة، إلا أنّني تحوّلتُ إلى إنسان غاضب طوال الوقت وأصرخُ بسميرة مِن دون سبب. عندها قرّرتُ أنّ عليّ إيجاد حلّ. لا، لَم أذهب إلى طبيب نفسيّ بل... إلى أمّي. صرتُ أروح إليها لساعات طويلة كلّ مساء، تاركًا زوجتي لوحدها بذريعة الإهتمام بامرأة مُختلّة. هناك، كنتُ أُبدِّل ملابسي وأضَع المساحيق وأكون "فادية". أراحَني الأمر للغاية واستطعتُ التوصّل إلى نوع مِن التوازن.

لكنّ سميرة لَم تكن غبيّة، فكانت قد لاحظَت آثار التبرّج على وجهي أكثر مِن مرّة وتساءَلَت طبعًا عن السبب، لِذا، ذات مساء، راحَت تدقُّ باب والدتي بينما كنتُ هناك. فتحَت لها أمّي غير دارية بشيء وأدخلَتها بعدما قالَت لها بكلّ براءة: "أدخلي حبيبتي... لا، فادي ليس موجودًا، بل فادية". خرجتُ مِن الصالون لأرى مَن يطرقُ الباب في هكذا ساعة ووقفتُ وزوجتي وجهًا لوجه. المسكينة صرخَت عاليًا بعدما استوعبَت أنّ المرأة الواقفة أمامها هي زوجها، وهربَت ركضًا.

كان طلاقًا سريعًا ووعدَتني سميرة بحفظ سرّي بعدما أخبرتُها قصّتي بالكامل. وهي عرضَت عليّ أن أتعالَج لتبقى معي لأنّها تُحبُّني لكنّني لَم أقبَل. للحقيقة، وجدتُ أنّ رغبتي بالزواج كانت بدافع إجتماعيّ وأنّني قادر على العَيش مِن دون زوجة وأولاد.

إنتهى الأمر بأمّي في المصحّة بعدما فقدَت عقلها تمامًا وماتَت بعد سنوات قليلة. لَم أكسُر خاطرها بل بقيتُ أزورُها قبل وفاتها مُرتديًا زيًّا نسائيًّا. والكلّ هناك خالَني إبنتها المُحِبّة.

اليوم أسكنُ لوحدي وبلغتُ الخامسة والستّين مِن عمري. إنتقلتُ إلى مدينة أخرى حيث لا يعرفُني أحد، وأرتدي ملابس نسائيّة وباروكة وكعبًا عاليًا وأضَعُ المساحيق بشكل دائم. الكلّ يظنّ أنّني امرأة لأنّني أتفادى الخروج كثيرًا، فأعيش مِن تعويضي بعدما تقاعدتُ. ليس لدَيّ أصدقاء طبعًا بل قطط عديدة تملأ حياتي. للحقيقة، لقد وجدتُ بالفعل سعادتي، فلَم أعُد بحاجة إلى التمثيل والادّعاء.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button