غيرة أخي

منذ البدء كانت هناك منافسة بيني وبين كمال، أخي الكبير، فقد شاء القدَر أن أكون أقوى بنيةً ومحبوبًا مِن الكلّ بسبب قدرتي على الاختلاط وبسمتي الدائمة. وزادَت الأمور تعقيدًا عندما دخلتُ المدرسة وحصَدتُ أعلى العلامات، بينما هو كان دائمًا على شفير الرّسوب، الأمر الذي جلَبَ لي المزيد مِن الامتعاض مِن جانبه وشعبيّة مِن جانب الآخرين. وسرعان ما بدأ كمال يسمع مِن أهلي: "أنظر إلى أخيكَ وتمثّل به" أو "هو أصغر منكَ سنًّا ولكنّه متفوّق عليك بكل شيء."

أمّا أنا فكنتُ أشعر بالأسى تجاهه، وأزيد مِن اهتمامي به ومعاملته بأفضل الطرق، إلى أن بدأ هو يستغلّني بعد أن لمَسَ شعوري بالذنب. وأصبحتُ وكأنّني أنا الأخ الأكبر، أعيره أغراضي، وأكتب عنه واجباته المدرسيّة وأدافع عنه أمام أهلنا، ولاحقًا أعطيه مِن مصروفي.

مرَّت السنوات هكذا، وكنّا جميعًا قد وجدنا توازننا بهذه الطريقة، ولكنّني لم أكن أعلم أنّ كلّ ما فعلتُه وأفعله مِن أجل كمال لم يمحُ مِن قلبه الغيرة التي سكَنته.

تعرّفتُ إلى جمانة، صبيّة هادئة وقنوعة وجميلة، وهو إلى عايدة، فتاة سطحيّة وقويّة وحسودة، فكما يقول المثل: "إنّ الطيور على أشكالها تقعُ"، وسكَنَ كلّ منّا في شقّة مِن المبنى الذي يملكه أبي. تزوَّجَ كمال قبلي بشهرَين، لأنّه أراد أن يسبقَني بذلك، مع أنّني كنتُ قد تعرّفتُ إلى جمانة قبل أن يلتقي حتى بعايدة، ولقد ساهمتُ بمصاريف زفافه لأنّه كان كعادته مُفلسًا.

 


كنّا نزور بعضنا باستمرار مع أنّ زوجتي لم تحب زوجة كمال، إلا أنّها تحمّلَت غلاظتها وحديثها السخيف مِن أجلي، وكنّا نبتعد قدر المستطاع عن أصدقاء أخي الذين كانوا يُحبّون السهر والشرب والأجواء الصاخبة. ولم يُمانع كمال ألا أختلط معهم، فقد كان يشعر وسطهم بأنّه الأفضل والأذكى، فغيابي كان يُبعد عنه ظلّي الذي أزعَجَه طوال حياته.

أنجَبنا إبنًا أمّا كمال فرُزِقَ ببنت، الأمر الذي أثار غضبه إلى أقصى درجة، وعمِلَ جهده حتى تحمل زوجته كلّ سنة آملاً أن يُصبح له مَن يحمل اسمه. أمّا نحن فاكتفَينا بولدَين لنستطيع تربيتهما كما يجب، ونؤمّن لهما جميع مستلزمات الحياة.

وهكذا صار كمال مغطىً بالدّيون بسبب كثرة الأولاد وطلبات عايدة التي كانت تشعر أنّها تستحقّ معاملة خاصّة لأنّها تحمل سنويًّا... واستطاعَت أخيرًا إعطاء زوجها الولد المنتظر.

كانت علاقتنا بعائلة أخي صعبة ودقيقة، لأنّه لم يعد يطيق ليس فقط رؤيتي بل سماع اسمي، لِذا كنّا نأخذ ولدَينا إلى بيته حين يكون غائبًا أو يقوم بقيلولته، لأنّني لم أقبَل أن يُحرَما مِن رؤية أولاد عمّهما واللعب معهم.

وذات صباح سمعنا صراخًا وشتائم آتية مِن شقّة أخي، وسمعنا بابًا يُفتَح ويُغلَق بقوّة ومِن ثمّ خبطًا على بابنا. قمتُ كالمجنون معتقدًا أنّ مكروهًا حصَلَ لكمال أو لأحد أفراد عائلته، ولكنّ الأمر كان مخالفًا تمامًا. فأمامي وقَفَ أخي والشرّ يتطاير مِن عَينَيه وصَرَخ بي:

 

ـ أيّها السارق المنحط!

 

ـ ماذا؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟

 

ـ لا! أنتَ فقدتَ ضميركَ! أعِد لي مالي! والآن!

 

ـ أيّ مال تتكلّم عنه؟

 

ـ الخمسة ألاف دولار التي كانت في الدّرج! كنتُ قد حصلتُ عليها مِن مرابٍ لأدفع أقساط أولادي!

 

ـ أقسم لكَ أنّ لا دخل لي باختفاء هذا المبلغ! وكيف لي أن آخذه؟

 

ـ ألم تأتِ البارحة عندما كنتُ عند أهلنا؟

 


ـ صحيح، ولكنّني كنتُ بصحبة زوجتي وولدَيَّ وجلسنا مع عايدة طوال الوقت.

 

ـ قالت زوجتي إنّكَ قصدتَ الحمّام.

 

ـ لدقائق قليلة.

 

ـ دقائق كافية لدخول غرفة النوم وأخذ المال مِن الدّرج.

 

ـ لا علم لي بأنّكَ تخفي مالاً في درج غرفة النوم! كفى يا أخي! كيف تتهّمني بالسّرقة؟ ألا تعرفني؟ يا للعار... يا للعار.

 

وأقفلتُ الباب بوجهه واستأتُ كثيرًا لما آلَت إليه علاقتنا. كم كنتُ أتمنّى أن يكون لي أخًا محبًّا وحنونًا، خاصّة أن ليس لي سواه، ولكن كرهه لي كان يزداد سنة بعد سنة حتى وصَلَ به الأمر إلى أن يتّهمني بالسّرقة.

أملتُ أن يهدأ كمال وأن يجد مَن سَرَقَه فعلاً، ولكنّه عمِلَ جهده على إخبار الحَيّ بأسره أنّني جرّدتُه مِن كلّ ما يملكه وأنّ أولاده سيبقون مِن دون علم بسببي، وبات الجميع ينظر إليّ باحتقار عميق.

وجرّاء ذلك تعرَّضَ ولَدايَ لمضايقات في المدرسة مِن قِبَل رفاقهما، إذ صارا بالنسبة إليهم "ولَدَي الحرامي الذي سَرَق أخاه."

عندها فكّرتُ بالانتقال للعيش في مكان آخر لتجنّب المزيد مِن المشاكل، وأطلعَتُ أبوَيَّ على الأمر. وللحقيقة كانا الوحيدَين اللذَين لم يشكّا بي، أوّلاً لأنّهما كانا يعلمان أنّني لا يُمكن أن أمدّ يدي إلى ما ليس لي، وثانيًا لأنّ غيرة أخي منّي كانت موجودة منذ البدء. ولكنّهما أخبرا كمال عن نيّتي بالرّحيل، وذلك بدافع حمله على الشعور بالذنب، فخاف هذا الأخير أن أفلتَ منه مِن دون عقاب.

لِذا انتظَرَ أخي حتى خرَجتُ مع عائلتي إلى السوق ليُضرم النار بشقّتي. وبلحظة واحدة خسرنا كلّ شيء. علِمتُ على الفور أنّ الفاعل هو أخي لأنّ الباب فُتِحَ بالمفتاح، إذ كنتُ قد أعطَيتُ أهلي نسخة عن مفاتيحي وهو أخذَها منهما مِن دون أن يدريا بالأمر. وبعد أن تمكّنَ فوج الإطفاء مِن اخماد النيران، قلتُ لأخي الذي كان يتفرّج علينا ونحن نبكي ونتحسّر:

 

ـ عندما أحرقتَ شقّتي وأمتعتي، أحرقتَ أيضًا الخمسة آلاف دولار التي استعرتُها البارحة لأريحكَ مِن عذابكَ وأنتشل عائلتكَ مِن مصيبتها... سيأتي يوم وتعرف أنّني بريء... لا أدري لماذا تكرهني إلى هذا الحد مع أنّني لم أفعل لكَ شيئًا، ولكن أن تصل بك الأمور إلى حرق مسكني وأمتعة عائلتي؟ أنتَ حقًّا رجل مريض.

 

أخذتُ زوجتي وولدَيَّ ورحنا نبدأ مِن جديد في مكان بعيد. لم يشعر كمال بأيّ ذنب إلى حين تركَته عايدة ذات ليلة آخذةً معها صيغتها والمال الذي كان في الدّرج والذي كان مخصّصًا لمصروف العائلة. عندها أدرَكَ أخي أنّ زوجته هي التي سَرَقَته في المرّة الأولى. حاوَل إيجاد عايدة ولكن قيل له إنّها هَرَبَت مع أحد أصدقائه، الذي هو نفسه مَن كان يأتي مع أصحابه للسّهر عنده. وهكذا وجَدَ أخي نفسه مع أولاد كثر عليه تربيتهم والاعتناء بهم، وتلاحقه عقدة الذنب لإحراق شقّتي وحملي على الرحيل.

لم يتحمّل المسكين هذا الكم مِن الهمّ والذنب، ففضّل إراحة نفسه واختيار المخرج السريع. وجَدَه أبي ميتًّا في أسفل المبنى وسط بركة مِن الدماء.

بكيتُ كمال كثيرًا، وسألتُ نفسي إن كان لي أيّ دخل في ما جرى، ولكنّني لم أرتكب ذنبًا بحقّه يومًا. نعم، ماتَ أخي بعدما ابتلعَه الحقد وتملكّته الغيرة وأغرقَه الندم.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button