غلطة ابني كلّفَتنا الكثير

كيف ولماذا بلانا القدر بكنّة كالتي جاءَت تسكن معنا؟ لا أملكُ الجواب، ولم أتصوّر أن يأتي لنا ابني بامرأة تملك قلبًا بسواد الليل.

أنجَبتُ ثلاثة أطفال: ولدَين وبنتًا، وبعد أن قرَّر ابني البكر النزوح إلى المدينة، بقيتُ مع سامر وسميرة. كان زوجي قد توفّيَ منذ سنوات، ولم نكن نملك شيئًا سوى ذلك البيت والأرض المجاورة التي كنّا نزرعها ونحصدها ونبيع منتوجنا لبعض التجار.

بدأ بكري بتوسيع المنزل بإضافة طابق عليه، ولكنّه لم ينهِ الأعمال بسبب يأسه مِن العيش بالريف، فقرَّر أخوه سامر اكمال الطابق على أمل أن يتزوّج ويسكن فيه.

ووجَدَ العروس المناسبة- له طبعًا- ولأنّها كانت تعيش بعيدًا، أخَذَ يرسم لها مستقبلاً واعدًا لا يمتُّ إلى الحقيقة بأيّة صلة. قال لها إنّ لدَيه شقّة جميلة ومطلّة على أرض واسعة ومثمرة وإنّنا نعيش كالأثرياء. أنا متأكّدة مِن أنّه لم يفعل ذلك بدافع الغش، بل خوفًا مِن أن تتركه بعدما وقَعَ بحب تلك الفتاة العصريّة والعاملة.

كنتُ قد نصحتُه بأن يجد عروسًا تشبهنا، ولكنّه كان يُريد هو الآخر الخروج مِن بيئتنا حتى لو كان ذلك مِن خلال زواجه.

وحين جاءَت ردَينة لرؤية المكان الذي ستعيش فيه، وجَدَت شقّة لا جدران لها وخالية مِن أيّ عنصر يجعل منها شقّة سكنيّة. ورأت قطعة الأرض الصغيرة فغضِبَت كثيرًا. ولكنّها لم تعد قادرة على التراجع بعد أن باتَ الجميع على علم بعلاقتها بابني وينتظرون موعد الزفاف.

لِذا سكتَت وعزَّت نفسها بالذي كانت ستفعله بنا لاحقًا، أي سلبنا كلّ شيء. فتَرَكَت ردَينة عملها وجاءَت تعيش معنا ريثما يجمع سامر المال الكافي لإكمال شقّته.

في البدء كانت لطيفة معي ومع سميرة، ولكن سرعان ما بدأَت تسأم مِن تمثيليّة لا جدوى منها خاصّة أنّ ابني كان كالخاتم في اصبعها.

وما كان يُغضبها الأكثر هو التناغم الموجود بيني وبين ولدَيَّ، لأنّه كان يُعوّض لنا عن قلّة المال، وهي كانت تحبّ المادّة فوق كلّ شيء ولم تسامح سامر على كذبه عليها وجلبها للعيش في مكان "معزول ومملّ".

 


وقرَّرَت ردَينة تحريض ابني علينا باخباره أنّني وابنتي نتكلّم عنها بالسوء، وأنّها سمعتنا نقول عنها إنّها بشعة وكسولة. وكان ذلك صحيحًا أقصد أنّها كانت فعلاً غير جميلة وقليلة النشاط، ولكنّني حفظتُ ذلك لنفسي لأنّ ابني كان يُحبّها ويجد سعادته معها.

لكنّ سامر لم يأخذ أقوالها على محمل الجدّ، لأنّه كان يعلم أنّنا لسنا مِن النوع الذي يُثرثر أو أنّه لم يرِد الدخول بمناكفات نسائيّة، فعَمَله بالأرض كان يكفيه خاصة بعدما رحَلَ أخوه وترَكَ الأعباء كلّها عليه.

كنتُ وابنتي نقوم أيضًا ببعض الأعمال ولكن غير المتعبة جسديًّا، أمّا ردَينة فكانت تجلس طوال النهار أمام مرآتها وتتذمّر مِن العيش في الريف. وعندما كنتُ أحثّها على مساعدتنا كانت تجيب: "لستُ مجبرة على ذلك... أرجعوني إلى بيت أهلي إن لم يُعجبكم الأمر"، ومِن ثمّ تركض للبكاء في أحضان سامر الذي كان يطلب منها أن تتحمّل- مِن أجله- هذا الكلام المؤذي.
وعندما رأَت كنّتي أنّ الأمور لا تزال على حالها قرَّرَت التصعيد. فذات مساء دخَلَ سامر غرفة الجلوس حيث كنتُ أنا وابنتي، وأخَذَ يضرب سميرة مِن دون تفسير أو سابق عادة. فالجدير بالذكر أنّني لم أربِّ ابني على العنف أو قلّة الاحترام، خاصّة تجاه اخته وجميع النساء. ولكثرة ذهولنا، لم أستطع الدفاع عن سميرة التي بدأت تبكي وتردّد: "لماذا؟ لماذا يا أخي؟!؟". ولكنّه عادَ إلى الغرفة الزوجيّة مِن دون أن يتفوّه بكلمة واحدة. لم أخبر ابني البكر بما يجري خوفًا مِن أن يتشاجر مع أخيه، وبدأتُ أنتظر الفرج.

ولم نعلم سبب التصرّف هذا إلا في اليوم التالي حين رأينا وجه ردَينة المزرقّ. جاءَت وجلسَت بين ابنتي وأنا وقالت لنا:

 

ـ آمل أن يكون الدّرس الذي لقَّنه لكما سامر كافيًا لتمتنعا عن ضربي مجدّدًا.

 

ـ ضربكِ؟ عمّا تتكلّمين؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ لم نلمسكِ القط!

 

ـ أعلم ذلك... لأنّني أنا التي ضربتُ نفسي... ولكنّ زوجي مقتنع بأنّكما فعلتما ذلك بي.

 

ـ يا إلهي! ضَرَبتِ نفسكِ؟ وهل وصَلَ كرهكِ لنا إلى هذا الحد؟ ماذا فعلنا لكِ؟

 

ـ وأكثر بعد... إسمعيني أيّتها العجوز... أنا لم أطلب العيش في هذا المكان البشع... كذِبَ إبنكِ عليَّ وسأفعل ما بوسعي للرّحيل مِن هنا معه.

 


ـ ومَن منعكما مِن ذلك؟

 

ـ حتى البارحة كان سامر يرفض ترككِ وابنتكِ ولكنّه الآن مقتنع تمامًا بوجوب الابتعاد عن أمٍّ وأختٍ عنيفتَيَن.

 

ـ إرحلي! هيّا!

 

ـ ليس الآن... ليس الآن.

 

ومِن حديثها علِمتُ أنّها تحضّر لنا شيئًا آخرًا وخِفتُ مِن الأعظم. لِذا أخذتُ سميرة وصعِدنا إلى الطابق الأعلى، وجهّزنا غرفة مِن الغرف الموجودة بما استطعنا إيجاده وسكّرنا الجدران بصفائح معدنيّة، وقرّرنا ألا ننزل إلى الشقّة السفلى إلا لتحضير أكلنا.

في تلك الأثناء لم يُوجّه سامر لنا الكلام أبدًا، ولم يسألنا لِما ترَكنا الشقّة وكيف نتدبّر أمورنا، وصلّيتُ كي يُنير الله عقل ابني الحبيب ويرى بشاعة قلب زوجته، ولكن مِن دون نتيجة.

وجاء موسم الحصاد، وساعدنا سامر ولكن مِن دون أن يتكلّم معنا أو ينظر حتى إلينا. كان يقوم بعمله فقط وكأنّه عامل جاء لهذا الغَرض. وبعد يوم واحد إستفقتُ على صوت شاحنة تترك المكان. إستغربتُ الأمر ولكنّني عدتُ إلى النوم لكثرة تعَبي.

إلا أنّني اكتشفتُ بعد ساعات قليلة أنّ ابني وزوجته تركا البيت آخذَين معهما أمتعتهما و... المحصول كلّه.

كان ابني قد سرقنا هو وردَينة وتركنا مِن دون أيّ شيء. كيف استطاع فعل ذلك وهو مدرك تمامًا مدى حاجتنا إلى مال المحصول؟

بدأنا بالبكاء، ووعدَتني سميرة أنّها ستجد عملاً بأسرع وقت، واتصَلت بأخيها الأكبر وأخبَرته بما حصل لنا وذلك بالرّغم مِن توسّلاتي ألا تفعل.

ركضَ ابني الكبير وبكى على بكائنا وشَعَرَ بالذنب لأنّه تركَنا ورحَلَ إلى المدينة، وعَرَضَ علينا مرافقته.

 

ـ لا يا ابني فمكاننا هنا... خسرنا المحصول صحيح ولكنّني أبكي على أخيكَ وعلى حياته مع زوجة ستبقى معه لمدى حياته... المحصول يُعوّض لكن الإبن فلا... عُد إلى حياتكَ... سنكون بخير.

 

رحَلَ ابني واعدًا أنّه سيرسل لنا المال اللازم كي لا نموت جوعًا. وبعد فترة قصيرة بدأت سميرة العمل ولم نعد بحاجة إلى أحد.

علِمتُ مِن أحد الأقارب أنّ سامر أصبح له ابن وأنّ زوجته حامل بولد آخر. لم أكفّ عن الصّلاة وأطلب كلّ يوم مِن الله ألا يُعامله أبناؤه كما هو عاملنا، وأن يأتي يوم يُدرك فيه ما فعَله ويعود إلينا حتى لو كان ذلك مع ردَينة.

إشتقتُ إلى رائحته وصوته ووجوده معنا، وأنا مستعدّة لتحمّل أيّ شيء مِن أجل استرجاعه. هكذا هو قلب الأم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button