غريمتي الحاضنة

في أحد الأيام، فقد سائق في الشارع السيطرة على سيّارته فصدمتني بكلّ قوتّها ومنذ ذاك الحين انقلبت حياتي رأساً على عقب. بعد إقامة طويلة في المستشفى، عدت إلى المنزل على الكرسيّ المدولب وصرت عاجزة عن تأدية أبسط واجباتي كزوجة وأم لولدين.
حينئذٍ، فكّرنا في الاستعانة بشخص ما لمساعدتي فراحت المرشّحات لهذه المهمّة يتوافدنَ من كلّ مكان، وبعدما فقدنا الأمل في إيجاد الشخص المناسب، تقدّمت جارتنا الشابّة رانيا التي وجدنا فيها الشخص المثاليّ لهذه الحالة. فهي تعرف كلّ شيء وتسكن في البناء نفسه معنا وعمرها 25 عاماً ويعرفها ولداي من قبل. هكذا، بدأت بالعمل في اليوم التالي ما أمّن الراحة للجميع.

وسرعان ما عرفت رانيا كيف تدير كلّ المسؤوليات من الغسيل إلى الكيّ مروراً بالطهو والتنظيف والاهتمام بحمّامات الولدين كما بالاعتناء بي خاصةً. حتّى إنّ أحداً منّا ما عاد يستطيع القيام بشيء من دون أخذ نصيحتها لا بل إذنها!

لكنّ ذاك الشعور بالارتياح راح يتحوّل إلى حرمان ثم إلى شعور بالذنب فقد سُلب منّي كلّياً دوري كربّة المنزل. ورويداً رويداً، رحت أغرق في حالة الإرهاق والاكتئاب. هكذا، فرغت الساحة أمام رانيا التي صارت تتصرّف كسيّدة المنزل بكلّ معنى الكلمة، كما وصل بها الحدّ إلى توبيخي أمام عائلتي إذا طلبت أمراً لم يعجبها. أمسكت بزمام الأمور كافة وأخضعت الكلّ لأمرتها. أثبتت وجودها معنا على الدوام حتّى في الليل إذا كان أحد الولدين مريضاً.

بدا على ولديّ أنّهما يحبّانها لا بل يعتبرانها مثل والدتهما نوعاً ما. راحت تشتري لهما الملابس وتصطحبهما للّعب فيعودان سعيدين، أمّا معي فكنت أحسّ أنّهما يضجران. من جهته، ارتاح زوجي ماجد لها تماماً لدرجة أنّه راح يخبرها عن مشاكله في العمل لدى عودته إلى البيت عند المساء. كما صار يطلب رأيها لانتقاء ربطة العنق التي يضعها في اليوم التالي...

أخذت أنظر إلى الوضع بحزن واستسلام فما عساي أفعل في حالتي؟

في أحد الأيام، طلبت رانيا من ماجد مرافقتها إلى حفلة راقصة وقد أصرّت عليه كثيراً حتّى قبل في النهاية علماً بأنّه لطالما كره هذا النوع من السهرات. وبالرغم من أنّه وعدني أن يعود قبل منتصف اللّيل، لم يرجع إلاّ عند الثالثة فجراً وهو يدندن ألحاناً عصرية وتعبق منه رائحة المشروب وعطر رانيا.

وكما لو أنّ ذاك التصرّف لم يكن كافياً، اعترف ماجد في صباح اليوم التالي عند الفطور: "تلك الفتاة هي بالفعل أجمل شيء حصل معنا".

ومنذ ذاك الوقت راحت الأمور تتسارع وصار الكلّ يخرجون معاً ما عداي أنا بحجة أنّني أحتاج إلى الراحة. حتّى إنّهم صاروا نادراً ما يتحدّثون معي أو يرونني. سلبتني رانيا عائلتي وأخرجتني من دائرتها.

هكذا، إلى أن جاءت صديقتي المفضّلة منى لتزورني فوجدتني في حالة مزرية بعدما مضى وقت منذ الحادثة ولم نرَ فيه بعضنا لأنّها كانت تعمل في الخارج. أخبرتها بما جرى لحياتي فجنّ جنونها وقالت لي:

- ولكن ما بالك يا امرأة؟ أين سهى التي أعرفها؟ هل ماتت في ذاك الحادث؟ لطالما كنت سيّدة معاصرة وحازمة ولطالما كنت أحسدك. لا تخدعي نفسك، أنت ما زلت على قيد الحياة ولم تفقدي سوى القدرة على تحريك ساقيك. أمّا حياتك فما زلت قادرة على إدارتها وهذا لا يمنعك من الاعتناء بعائلتك. صحيح أنّ حياتك قد تبدّلت ولكن هناك دائماً حلول للعقبات التي تواجهك. لقد عوّلتِ كثيراً على تلك الفتاة وقد أعجبها دور ربّة المنزل. أمّا أنتِ فماذا تفعلين؟ أعطيتِ الجميع عذراً مقنعاً لإخراج نفسك من عالمهم. إنّ الخطأ خطأك عزيزتي.

- أعرف ولكن ماذا عساي أفعل؟

- ارجعي كما كنت واهتمّي من جديد ببيتك وزوجك وولديك. والأهم أن تطردي تلك الفتاة خارجاً! قومي بالواجبات المنزلية البسيطة واسترجعي حياتك الزوجية وعبّري عن عاطفتك لزوجك وولديك واعتني بحياتهما اليومية. أمّا الباقي فأوكليه إلى سيدة تُعنى بالتنظيف. أنت الزوجة والأم ولا أحد سواك!

منحني حديثي مع منى الثقة من جديد. لقد كنت بحاجة لشخص ما يوقظني ويُخرجني من قوقعتي. لولاها، لبقيت أسيرة ذاك الكرسي وذاك الوضع لآخر يوم من حياتي.

في ذاك المساء، جمعت عائلتي وأبلغتهم أنّني سأطرد رانيا. حاول ماجد إقناعي وبكى ولداي لكنّني كنت قد اتّخذت قراري:

- أنا ربّة المنزل وأفعل ما أجده مناسباً للجميع. من الآن وصاعداً أنا سأهتمّ بكم كما في الماضي وستأتي سيدة لتهتمّ بتنظيف المنزل. وهذا هو قراري الحازم.

في اليوم التالي، استدعيت رانيا إلى الصالون وأعطيتها مالها وشكرتها على خدماتها. بقيت صامتة ومتفاجئة فشرحت لها أنّنا ما عدنا بحاجة لها وأنّنا الآن قادرون على تدبّر شؤوننا بمفردنا. وحين رافقتها إلى الباب سألتني:

- هل يمكنني أن أزوركم من حين لآخر؟

- نعم يا عزيزتي تعالي حين تشائين ولكن على أساس أنّك جارتنا وزائرة ليس أكثر.

لقد فهمت قصدي ولم تعد لعندنا البتّة بل رحنا فقط نقابلها في المبنى أو في المصعد.

منذ ذاك الحين، أقوم بما بوسعي للاهتمام بعائلتي ومنزلي. وقد نجحت بالرغم من كلّ العقبات التي تعترض شخصاً عنده إعاقتي. ولكنّني استرجعت مملكتي الصغيرة وهذا ما يهمّني. كدت أخسر كلّ شيء لأنّني رحت أبكي على مصيري متجاهلةً المناضلة التي تعيش في داخلي!

حاورتها بولا جهشان

 

 

المزيد
back to top button