عندما تركتُ بلدتنا الصغيرة، لم أكن أعرف سوى الأشغال المتعلقّة بالأرض والإعتناء بالمواشي. ولدتُ بعائلة متوسطة الدخل تكفي ذاتها بما تجنيه وهمها الوحيد، هو إنتظار شروق الشمس للذهاب إلى الريّ والحصاد. كنتُ سعيدة هناك، أتمتّع ببراءة ساذجة وبحبّ إبن الجيران الذي كان يرتجف عندما يمسك يدي، وهذا حين كنت أسمح له بذلك وكنتُ أظنُّ أنّني سأصبح زوجته وأنجب له أولاداً أقوياء يكمّلون مسيرتنا مع الأرض الطيبّة.
ولكن حياتي تغيّرت جذريّاً، عندما قرّر أبي بعدما أقنَعه صديقه بذلك، بترك البلدة وبيع كل شيء والتوجّه إلى المدينة. فهو لم يحبّ يوماً حياته وحلمه الدائم كان الرحيل. حاولَت أمّي إقناعه بالبقاء ولكنّه أصرّ على البيع متأمّلاً أن يشتري مبنى في ضواحي العاصمة ويحوّله إلى فندق. لم يكن يعرف شيئاً عن إدارة الفنادق وهذا ما أخاف والدتي. وباعَ الأرض والمواشي والمنزل وأخذَ ما تركه له أبيه من قطع ذهب وإنتقلنا إلى مسكننا الجديد. كان المبنى قديماً وبحالة مذرية وإعادة ترميمه وتجهيزه يتطلّب مبالغاً طائلة ووقتاً طويلاً. وأمام هذا المشهد، بدأَت أمّي بالبكاء لأنّها أدركَت سوء تقدير والدي لهذا المشروع. أمّا هو، فكان متحمّساً جداً ومتفائلاً خاصة بعدما أكّد له صديقه أنّه سيساعده بإنجاز العمل. إستقرّينا في الطابق الأرضي، بينما بدأَت الأعمال في باقي المبنى. ولكن بعد فترة قصيرة وجدَ والدي نفسه أمام الأمر الواقع وعلِمَ أنّه لن يستطيع إكمال ما بدأه. لن أنسى تلك الليلة حين جمعنا وقالَ لنا:
- أنا آسف جداً... لم أقدّر مدى أضرار العقار وكلفة الأشغال... سأجد حلاً... في هذه الأثناء سنعيش هنا... أعدكم أن أسوّي الوضع ولكن عليكم أن تصبروا قليلاً...
وعلِمنا أننا خسرنا كل شيء: حياتنا الجميلة والهادئة ومستقبل آمن في مكان نعرفه جيّداً. بدلاً عن ذلك كنّا سنعيش وسط الضوضاء في منزل قبيح دون مورد رزق ثابت. وجدَ أبي عملاً في مصنع للأجبان وذهبنا نحن الأولاد إلى مدرسة حكوميّة مجانيّة. بالنسبة لي كان الوضع أرحم بقليل، لأنني كنتُ في السنة الأخيرة وكنتُ أنوي إيجاد عملاً سريعاً لمساعدة عائلتي. وللحقيقة كنتُ قد أعجبتُ بالمدينة وناسها والسيّارات الجميلة. ومع الوقت تبيّنَ لي أنّني موهوبة في التجارة بعدما بدأتُ أبيع لأهالي الحيّ وزملائي في المدرسة منتجات المعمل الذي يعمل فيه أبي. فبسبب خبرتي بالألبان والأجبان، كنتُ أعلم أي صنف أفضل من حيث الجودة والطعمة وأشتريه بسعر الجملة لأبيعه أرخص من المحلات. صحيح أن ربحي كان ضئيلاً ولكن زبائني كانوا كثر وبالمال الذي كنتُ أجنيه، بدأتُ أرمّم إحدى غرف الطابق الأوّل حتى أن أصبحَت جاهزة لأضع فيها بضاعتي. إتصلتُ بالشاب الذي كان يحبّني في البلدة وطلبتُ منه أن يبعثَ لي منتوجات مختلفة لأرضي جميع أذواق زبائني. فإلى جانب مشتقّات الحليب أصبح لديّ الزيتون وزيته وماء الزهر والورد وكلّ ما يُسمّى بالمونة. عمِلتُ على وضعها بمستوعبات جميلة لأرضي رفاهيّة أهل المدينة وعرضتُها بشكل أنيق ومغرٍ. وبينما كنتُ أحضّر مشروعي، كان أهلي ينظرون إليّ وكأنني لم أعد منهم، فبدل أن يفرحوا لي ولهم ويشجّعوني على نشاطي وفكرتي العظيمة التي كانت ستنتشلهم من مصيبتهم، أخذوا يحاربونني ويحاولون إفشالي. أظنّ أنّ السبب كانت غيرة أبي منّي، فبمفهومه كان هو رأس العائلة وعليه هو أن يقوم بالمشاريع الناجحة وجلب المال وأنا لم أكن سوى فتاة يافعة مقدّرة أن تجد عريساً وتنجب له أحفاداً. تبعَته أمّي بهذا المنطق وأقنعوا أخواتي بأنّني أضيّع وقتي ومالي وبأنني بدأتُ أتشاوف عليهم. فحاول أبي أن يوقف تجارتي بأسلوب لم أتوقّعه منه:
- الغرفة التي تستعميلينها لتجارتكِ هي مخصّصة للفندق.
- أيّ فندق؟ أبي... ليس هناك من فندق وعليكَ القبول بذلك...
- مشروعي ما زال قائماً! صحيح أنني أوقفتُ الأعمال ولكن هذا لا يعني أنّكِ تستطيعين إعاقته!
- مشروعك فاشل ولكن ليس بسببي بل بسبب سوء تقديركَ... جعلتَنا نترك كل شيء ونغيّر حياتنا بين ليلة وضحاها سدىً. كل ما أفعلُه هو إيجاد طريقة للعيش بكرامة وإستغلال هذا المبنى الكبير. إنّني أعطيكم ممّا أجنيه وأصبحنا بحال أفضل أليس كذلك؟ توقّعتُ منكم الدعم والتشجيع ولم ألقَ سوى اللوم. لماذا؟
لم يستطع والدي الإجابة على سؤالي وإكتفى بالقول:
- أريدكِ أن تعيدي لي الغرفة بأقرب وقت... سأعاود مباشرة الأعمال قريباً.
- وبأيّ مال ستفعل ذلك؟
- هذا ليس من شأنكِ... كل ما عليكِ فعله هو الإخلاء.
- حسناً ولكنني بحاجة إلى مهلة أقلّها ثلاثة أشهر.
وافق أبي على إعطائي بعض الوقت وباشرتُ فوراً على إيجاد محل لعرض منتوجاتي. وبعد التفتيش، عثرتُ على مكان صغير قريب من الأوّل ودفعتُ إيجاره ممّا وضعتُه جانباً وإنتقلتُ إليه. فوجئ أهلي بالأمر، لأنّهم إعتقدوا أنني سأعدل عن مشروعي بعدما وضعَني أبي أمام الأمر الواقع وغضبوا كثيراً على إصراري، حتى أن أصبحَت حياتي صعبة وسطهم. كان أمامي خيارين: إمّا أن أبقى معهم وأعيش بالقلّة وأتحمّل تلميحاتهم المؤذية ونقمتهم اليوميّة فقط لأنني نجحتُ حيث هم فشلوا وإمّا أن أرحل عنهم وأؤمّن لنفسي مستقبلاً أفضل والعمل بمجال أحبّه وأتقنُه. فإخترتُ الثاني طبعاً. وضّبتُ أمتعتي وإنتقلتُ للعيش في محلّي الجديد. وضعتُ أريكة تتحوّل إلى سرير في إحدى الزوايا وبدأتُ أنام هناك. للحقيقة كنتُ سعيدة جدّاً لإبتعادي عن تلك الأجواء المليئة بالحقد والغيرة وإستقلاليّتي أعطَتني إندفاعاً لكيّ أكمل ما بدأتُه أوّلاً لأنّني أصبحتُ مسؤولة عن نفسي كليّاً وثانياً لأنني أردتُ أن أثبتَ لهم أنّني قادرة على المضيّ لوحدي. وإتضحَ أنّ المحل الجديد كان أفضل بكثير من الغرفة في المبنى، لأنّه كان في طابق أرضي وأمامه أماكن يستطيعون زبائني ركن سيّاراتهم. وضعتُ يافطة تحمل إسمي وتعرّفُ على الأصناف الموجودة لديّ وبأنّها كلّها طبيعيّة وطازجة. تعِبتُ كثيراً أعمل ليلاً نهاراً وكرّستُ نفسي لتجارتي. لم أتوقّف عن بعث المال لأهلي بواسطة شقيقتي الصغيرة والغريب في الأمر أنّهم لم يتردّدوا في أخذه رغم أنّهم قطعوا كل إتصال بي وأخبروا الجميع أنّني لم أعد إبنتهم. ووصلَت نقمتهم عليّ إلى حد محاولة إقناع المنتجين في البلدة على عدم إمدادي بالبضاعة. ولكنّهم لم ينجحوا بذلك لأنّني كنتُ على صلة طيّبة مع المزارعين أدفع لهم في الوقت المحدّد وأساعدهم على صرف منتجاتهم. وبينما كنتُ في أوّج نجاحي علمتُ من شقيقتي أن جدران المبنى الذي يسكنون به بدأت بالإنهيار وإنّهم إضطرّوا إلى إخلائه قبل حدوث مصيبة وسكنوا جميعاً في غرفة صغيرة إستأجرها أبي من معاشه الصغير. ورغم كل شيء حزِنتُ من أجلهم. وبعد سنوات قليلة إستطعتُ الإنتقال للعيش في شقّة صغيرة وجميلة وذهبتُ لأعرض على أهلي اللحاق بي. وجدتُ أمّي لِوحدها في البيت وخلتُ أنني أستطيع ولو قليلاً التواصل معها. ولكنّها قالت لي:
- ماذا تفعلين هنا؟ هل جئتِ لتشتمي بنا؟
- أبداً يا أمّي... بالعكس... جئتُ لأعرض عليكم المجيء إلى شقّتي والعيش معي...
- نحن سعيدين هنا... من قال لكِ أننا نريد ترك المكان؟
- تعيشون جميعكم في غرفة واحدة... إفعلوا ذلك على الأقل من أجل الأولاد.
- إن كنتِ مصرّة فيمكنكِ أخذهم ولكنّني سأبقى هنا مع والدكِ.
أعطيتُها عنواني لكي تبعث لي أخواتي ورحلتُ. ولم لم أرَ أيّ منهما حتى اليوم.
حاورتها بولا جهشان