عينان ملوّنتان

تصوّروا فرحتي حين جهزَت أخيرًا شقّتنا الجديدة واستطعتُ الانتقال إليها مع أمتعتنا. فلقد كنتُ قد تزوّجتُ مِن سمير منذ أكثر مِن سنة وسكنّا في شقّة بالإيجار إلى حين نستطيع استلام شقّتنا الجميلة. صحيح أنّني كنتُ سأتعَب بتوضيب كلّ ما لدَينا وإعادة فتح الصناديق وتوزيعها على الغُرف المُناسبة، لكنّني كنتُ بقمّة الحماس. يا لَيت غلوريا كانت لا تزال تعمَل لدَينا، لساعدَتني كثيرًا. كانت تلك العاملة الأفريقيّة قد تركَتنا فجأة كما يحصلُ غالبًا، لتعمَل براتب أكبر في بيت آخر أو بالساعة. هي لَم تودّعني، مع أنّنا كنّا مُقرّبتَين مِن بعضنا ولَم نواجِه يومًا أيّة مُشكلة في إدارة البيت.

وبعد جهد جهيد فرَشنا واستقرّينا في سكننا الخاصّ بنا، واستطعتُ التفكير في الإنجاب، فكان سمير قد اقترَحَ عليّ تأجيل الموضوع بسبب الانتقال وهو كان على حقّ، كعادته. كنتُ أتوقُ لجلب ولد إلى الدنيا مِن زوجي، خاصّة بسبب عَينَيه الزرقاوتَين اللتَين ورِثَهما مِن أمّه الإنكليزيّة. آه لو ألِد ابنة مع هكذا عَينَين!

وبعد أشهر قليلة، إكتشفتُ أنّني حامل، فطرتُ مِن الفرَح وكذلك زوجي وكلّ مَن يُحبُّنا. عندها، بدأتُ بتحضير غرفة للطفل وتمنَيتُه أن يكون طفلة، وقرأتُ الكتُب المُناسبة عن الحَمل وكيفيّة جلب ولَد سليم إلى الدنيا. فكنتُ جدّيّة في ما يخصّ هذا الموضوع.

تسجَّلتُ لحضور دروس خاصّة تُسهِّل الولادة بشكل كبير، وتعرّفتُ إلى سيّدات عديدات، ونمَت بيني وبين البعض منهنّ صداقات، الأمر الذي خفّفَ عنّي وحدتي بعض الشيء. فسكَني الجديد كان بعيدًا عن أهلي وأهل زوجي حيث شعرتُ بالعُزلة قليلاً.

 

يا إلهي... كيف أنّ أحداث حياتنا، خاصّة الصغيرة منها، هي مُترابطة ببعضها بشكل وطيد وتأخُذنا، خطوة خطوة، إلى المكان الذي علينا بلوغه... فذات يوم، دعَتني إحدى السيّدات إلى دارها لشرب القهوة وتذوّق حلوى صنعَتها بنفسها. قبلتُ بسرور، فما النفع مِن العودة إلى بيتي والجلوس هناك لوحدي؟

كان مسكن تلك الصديقة جميلاً وينمّ عن ذوق رفيع، وكانت الحلوى بغاية اللذّة، الحلوى التي قدّمَتها لنا... غلوريا! أجل الفتاة نفسها التي كانت تعمَل لدَيّ! المسكينة ارتبَكت عندما رأتني بسبب هروبها مِن عملها لدَينا، إلا أنّني طمأنتُها بأنّني لستُ غاضبة منها. إبتسمَت لي غلوريا شاكرة وعادَت إلى عملها في المطبخ. عندها قالَت لي سيّدة البيت همسًا:

 

ـ أنا مُمتنّة منها كثيرًا... مِن الجيّد أنّها تركَت منزلكِ وإلا لَما تواجدَت عندي!

 

ـ هي بالفعل بارعة في عملها وعاقلة وذات سيرة مُمتازة.

 

ـ لا أظنّ ذلك... فهي... قرّبي أذنكِ منّي فلا أُريدُها أن تستاء مِن الذي سأقوله لكِ... لدَيها طفلة... أجل، مِن دون زواج!

 

ـ غلوريا؟!؟ هذا غير مُمكن فهي خجولة ولا تخرج إلى أيّ مكان لوحدها! يا إلهي... لا بّد أنّ أحدًا ضحِكَ عليها بوعود كاذبة.

 

ـ لكنّ الطفلة رائعة الجمال! تصوّريها معي: بشرة داكنة وعَينان بزرقة السماء الصافية! إنّها رائعة!

 

بلحظة دارَت الغرفة بي ووقَعَ فنجان القهوة مِن يدي. تحجّجتُ بحَملي وطلبتُ سيّارة أجرة لأعود إلى بيتي. غلوريا لها طفلة ذات عَينَين ملوّنتَين؟!؟ وذلك بعد أن كانت تعمَل لدَينا؟!؟ يا لَيتني سألتُ صديقتي كَم مِن العُمر تبلغُ تلك الطفلة لعلِمتُ إن كان شكّي في مكانه!

صلَّيتُ فور وصولي البيت طالبةً مِن الله أن أكون أخطأتُ الظنّ بزوجي، خاصّة أن سمير لطالما كان ذا سيرة حسنة ولَم يُعطِني فرصة للشكّ فيه. لكنّني لَم أكن أعرفُه سوى مِن بضع سنوات، والخالق وحده يعلمَ ما يوجَد داخل النفوس. قرّرتُ إخبار زوجي عن حالة غلوريا ومُراقبة ردّة فعله، فقد أعرفُ إن كان يُخفي شيئًا. قلتُ له مساءً:

 

ـ حبيبي... أتذكُر غلوريا العاملة الأفريقيّة؟ كَم أنا غبيّة، بالفعل تتذكَّرها فهي اشتغلَت لدَينا لأشهر طويلة.

 

ـ ما بها؟ ماتَت؟

 

ـ لا قدَّر الله! لا، فلقد رأيتُها عند صديقة لي... وعلِمتُ أيضًا أنّ لدَيها طفلة!

 

ـ مبروك لها.

 

ـ إسمَع الباقي... إبنتها... لدَيها عينان زرقاوتان! تصوَّر! فالأب هو حتمًا غير أفريقيّ، ولقد استغلَّ المسكينة وتركَها حين علِمَ أنّها حامل... يا للقذر!

 

ـ بالفعل رجُل قذر... غلوريا إنسانة طيّبة وخلوقة.

 

ردّة فعل سمير كانت طبيعيّة جدًّا، فارتاحَ قلبي حين زالَ شكّي وقلَقي. فتصوّروا لو أنّ زوجي الحبيب هو ذلك القذر الذي يستغلُّ عاملة أجنبيّة لا حول ولا قوّة لها! لكنّ اتّصالاً مِن الصديقة التي زرتُها غيّرَ رأيي كُلّيًّا. فهي بدَت لي مُتأثّرة كثيرًا برحيل غلوريا مِن منزلها حين هي ذهبَت صباحًا إلى الدكّان ولَم تعُد. خافَت المرأة أن يكون قد حصَلَ لها مكروه، إلا أنّ العاملة هاتفَتها لتقول لها إنّها لَم تعُد قادرة على مواصلة العمَل لدَيها بسبب اعتبارات شخصيّة. شيء بداخلي أكّدَ لي أنّ ما جرى هو بسببي. هل هدَّدَها سمير وأمرَها بالاختفاء كما فعلَت منذ حَملها سابقًا؟ أم أنّها خافَت أن أعرِف الحقيقة بشأن طفلتها؟ فلَم يكن مِن المعقول أن تكون صدفة بحتة. إمتلأ قلبي بغضب لا مثيل له، غضب ممزوج باشمئزاز حيال زوجي الذي خانَني وأنا لا أزال عروسًا، وحمَلَ العاملة على الإنجاب منه في حين هو أرجأ المسألة نفسها معي! يا للوحش!

بكيتُ كثيرًا بعد أن استَوعبتُ أنّ سمير هو ماكر ومهووس جنسيّ، ينقضُّ على أوّل امرأة بمُتناوَله، وأنّه كاذب ماهر. لو رأيتُم هدوءه حين أخبرتُه عن غلوريا وابنتها، لصدّقتموه كما فعلتُ! مَن هو فعلاَ الرجُل الذي أحبَبتُه وربطتُّ حياتي بحياته؟ وماذا عن جنيني الذي سيولَد قريبًا؟ كيف سيكبُر وسط أبوَين يسودُ بينهما الشكّ والبُغض؟ يا لَيتني علِمتُ بالحقيقة قبل أن أحمَل، لكان رحيلي عن سمير أسهَل بكثير.

لَم أستشِر أحدًا، فلَم أرِد فضح ما جرى ويجري في زواجي، فلطالما كنتُ إنسانة تكرَه نشر غسيلها الوسخ علَنًا. لِذا أخفيت امتعاضي بسمير ولكن لَم أعُد أطيقُ النظر إليه أو التكلّم معه. لَم أُفاتِحه بالأمر، فهو كان سينكرُ حتمًا. وبما أنّني لَم أكن أملكُ أيّ إثبات على فعلته الشنيعة، كنتُ سأخسَر المعركة.

 

عندها قرّرتُ البحث عن غلوريا وحثّها على الاعتراف لي بمسؤوليّة زوجي في ما يخصّ ابنتها. لِذا سألتُ صديقتي عن رقم هاتف غلوريا، مُتحجّجة بأنّني أُريدُ مُساعدتها في إيجاد عاملة، فهي حتمًا لدَيها صديقات مِن بلدها ترغبن بالعمَل. لبَّت السيّدة طلَبي وأوصَتني بأن أُعاتِبَ غلوريا على تركها البيت بصورة مُفاجئة ومِن دون إنذار سابق. أكّدتُ لها أنّني سأٌبلغها الرسالة، وأسرعتُ بطلب رقم العاملة التي غيّرَت مجرى حياتي. وبما أنّني كنتُ بحاجة إلى التكلّم معها على سجّيتي وليس عبر الهاتف، قلتُ لها إنّني وجدتُ لها أرباب عمَل كريمين للغاية ومُستعدّين أن يدفعوا لها ثلاثة أضعاف ما كانت تتقاضاه سابقًا. وقعَت طبعًا غلوريا في الفخ ووافَتني إلى المقهى الذي حدَّدتُه لها.

يوم الموعد المذكور كنتُ بحالة يُرثى لها، فبمُجرّد أن تعترفَ العاملة بأبوّة سمير لابنتها، سيكون عليّ أخذ موقف واضح وجذريّ مِن سمير. أجل، قرّرتُ أن أتركَه، فكيف أعيشُ معه بعد ذلك؟

جلسَت غلوريا قبالتي في المقهى، وتكلّمنا عن عمَلها المُقبِل المزعوم، واختلقتُ لها تفاصيل وأسماء. ثمّ سألتُها عن ابنتها، وطلبتُ منها أن تريني صوَرًا لها، فلا تنسوا أنّني كنتُ أتمنّى أن أُنجِب فتاة ذات عَينَين زرقاوتَين. وشاء القدَر أن تُنجِب العاملة مِن زوجي وأن تُحقِّق حلمي بدلاً عنّي!

فتحَت غلوريا هاتفها وأرَتني ابنتها، ويا لجمالها! حزنتُ لكنّني باركتُ لها بها مِن كلّ قلبي، فهي أمّ كسائر الأمّهات. ثمّ سألتُها عن الأب وهذا ما قالَته لي:

 

ـ هو لَم يعُد بصحبتي... للأسف...ومِن الصعب عليّ العمَل والاهتمام بابنتي، لِذا هي تعيشُ مع أختي التي تزوّجَت مِن ابن بلَدكم ولا تحتاج للعمَل خارج البيت.

 

ـ ضحِكَ عليكِ ذلك الرجُل القذِر واستغلّ ضعفكِ... هو مِن بلَدنا هو الآخَر، أليس كذلك؟ هل أعرفُه؟ يُمكنكِ قول الحقيقة لي يا غلوريا، فأنتِ تعلمين كَم أُحبُّكِ.

 

ـ لا، هو مِن بلَدي.

 

ـ لِما تكذبين عليّ؟ لن أوبّخَكِ، كوني أكيدة مِن ذلك، فأنتِ في آخر المطاف ضحيّة.

 

ـ أؤكِّدُ لكِ إنّه أفريقيّ وهو لَم يضحك عليّ، فالمسكين ماتَ قبل أن نتزوّج. أحبَبنا بعضنا عن بُعد وحين جاء لرؤيتي، لَم نتمالَك أنفسنا و... لكنّه كان وعدَني بالزواج. وحين عادَ إلى بلَدنا، دهسَته سيّارة مُسرعة.

 

ـ لكنّ عَينَيّ ابنتكِ زرقاوتان! لن تُقنعيني بأنّ الأب أفريقيّ هو الآخر!

 

ـ لا أفهَم إصراركِ يا سيّدتي، فلِما أكذِب؟ إن كانت عينا ابنتي ملوّنة فلأنّها تُعاني مِن خلَل جينيّ ورِثَته مِن جدّتي، وهو يُسبّب لحامله أيضًا مُشكلة في السمَع لا بل الطرَش. أنظُري إلى تلك الصورة لطفلتي التي أخذتُها مِن الخلف، أترَين تلك البقعة الصفراء في رأسها؟ إنّها دلالة على هذا الخلَل. في أيّام جدّتي، ظنّوا أنّها إبنة شيطان لعين، فقد كان الناس لا يعرفون بعد عن تلك الظاهرة واضطهدوها حتى مماتها. فحين ولِدَت ابنتي، خفتُ كثيرًا، إلا أنّ طبيبًا هنا كشَفَ لي حقيقة تلك الظاهرة. أرجو فقط أن يستطيع الطب إصلاح سمَعها يومًا. هل استرَحتِ الآن سيّدتي؟ يا إلهي، لماذا الناس هم بهذا الفضول حين يرَون شخصًا مُختلفًا؟ لقد عانَيتُ كسائر أهل قارّتي مِن التمييز العنصريّ بسبب لون بشرتي، والآن ستُعاني ابنتي أيضًا مِن العنصريّة لأنّ عَينَيها زرقاوتان. ألن يتوقّف ذلك يومًا؟!؟

 

تركتُ غلوريا لأبحث على الإنترنِت عن ذلك الخلَل الجينيّ، واكتشفتُ أنّها تقول الحقيقة. لِمتُ نفسي على ردّة فعلي والشكّ الذي انتابَني حيال وفاء زوجي لي. مِن حسن حظّي أنّني لَم أتّهمه بغلوريا! عدتُ إلى البيت سعيدة للغاية، فسمير بريء! لكن كان مِن حقيّ أن أشِكّ، فالدلائل كلّها كانت تؤكّد نظريّة الخيانة.

إعتذرتُ لزوجي عن برودتي حياله، ونسبتُ الأمر للتغيّرات الهرمونيّة التي تحصل خلال الحمَل وهو صدّقَني، الحمد لله.

وُلِدَت لي ابنة جميلة للغاية، لكن ذات عَينَين بُنيّتَين شأني شأن الكثير من سكّان الشرق، وكنتُ ممنونة لذلك. فكفاني أعيُن ملوّنة!

وأنتنّ، ماذا كنتنّ لِتفعلنَ مكاني، هل كنتنّ ستشكّنّ بزوجكنّ وتبحثنَ عن الحقيقة، أم تُصدّقنَه مِن دون تردّد؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button