عندما يكون الجمال لعنة

يكون الجمال أحيانًا لعنة على صاحبته، الأمر الذي عشتُه واختبرتُه والذي أخَذَ حياتي إلى طرق أليمة لَم أشأ سلوكها. كلّ شيء بدأ بزواجي، يوم صرتُ في السادسة عشرة مِن عمري. كنتُ مُراهقة سعيدة ولدَيّ أحلام عديدة، إلا أنّ جمالي الفائق كان قد لفَتَ انتباه رجل ثريّ يعرفُ والدي. فهو "حجزَني" لنفسه منذ طفولتي، كما قد يحجزُ طاولة في مطعم. حاولتُ الاعتراض، لكن طبعًا مِن دون جدوى، ووجدتُ نفسي على متن طائرة مع عريسي بإتجاه أوروبا. لقد باعوني ونسوا أمري بذريعة تأمين مُستقبل جيّد لي.

لَم يكن زوجي سيّئًا بالمعنى التقليديّ للكلمة، لكنّه كان يعتبرُني لعبةً سئِمَ منها بسرعة فركّزَ على أعماله. هو لَم يكن يُوجّه لي الكلام أو يجلسُ معي على الإطلاق إلا حين كان يُريدُ مُجامعتي. طلَبَ زوجي منّي طفلاً لكنّني عملتُ جهدي على عَدم الحمَل، عالمةً تمام العِلم أنّني سأتركُه حين أصبحُ جاهزة، أي عندما أكبرُ قليلاً وأجمعُ بعض المال، فعودتي إلى أهلي كانت غير واردة، إذ أنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّهم سيُحاولون إرجاعي لزوجي أو مُعاقبتي إن فشلوا بذلك. إضافة إلى ذلك، كنتُ أمقتُهم لِما فعلوه بي ولا أودُّ رؤية أيّ منهم.

بعد خمس سنوات على زواجنا، قرَّرَ زوجي أن يُطلّقني، الأمر الذي سرَّني إلى أقصى حدّ. أعطاني حقوقي كاملة وأطلَقَ سراحي. حملتُ أمتعتي ورحتُ أفتّش عن مسكن لي. لكن كيف كنتُ سأعيشُ حين ينفذُ المال؟ فلَم أُنهِ دراستي ولَم أعمَل يومًا في حياتي.

إستأجرتُ ستوديو لأوفّرَ المال، واشترَيتُ سيّارة صغيرة وأخذتُ أبحثُ عن عمل بسيط يُمكِنُني القيام به. إنتهى المطاف بي في محلّ كبير للألبسة وصِرتُ أجني القليل مِن المال، ما يكفي للأكل والشرب ودَفع الإيجار.

للحقيقة لَم أكن أُريدُ أكثر مِن ذلك، إلا أنّ الوحدة التي عشتُ فيها كانت قاتلة، خاصّة أنّ الناس في أوروبا لا يتعاطون مع بعضهم كثيرًا.

لاحقَني الكثير مِن الرجال في العمَل وفي الطريق بسبب جمالي، إلا أنّني بقيتُ جادّة مع الكلّ، إلى أن تعرّفتُ إلى شاب أوروبيّ أعجبَني كثيرًا. تواعَدنا لمدّة ومِن ثمّ اكتشفتُ أنّني لا أستطيع استيعاب العقليّة والتقاليد الأجنبيّة بالرغم مِن تعلّمي اللغة وفهمهما بسرعة. تركتُ صديقي وعدتُ إلى عُزلتي.

لن تتصوّروا كم أنّ الغربة قاسية على سيّدة شابّة ووحيدة تمامًا، خاصّة في فصل الشتاء القاسي حيث يبقى الناس في منازلهم وتفرَغ الشوارع تمامًا. كنتُ أقضي وقتي أمام التلفاز بعد عودتي مِن العمَل وخلال فرَص نهاية الأسبوع، أو على الإنترنت أتفرَّج على الأفلام والفيديوهات. ولكثرة ملَلي، فتحتُ حسابًا على موقع للتعارف بعد أن حدَّدتُ أنّني أُريدُ رجلاً مِن بلَدي لهدف جدّيّ، أي الزواج، فلَم يكن مِن الوارد بتاتًا غير ذلك. جاءَتني رسائل لا تُحصى، فكنتُ قد وضعتُ صورتي، إلا أنّ شخصًا واحدًا إستقطبَ انتباهي: مُنير.

كان منير مُنفصلاً عن زوجته ولدَيه ولدان، وبصدَد الحصول على الطلاق بسبب خلافات ليس لدَيها حلّ. كان أيضًا جذّابًا ويشغلُ منصبًا كبيرًا في إحدى الشركات. وبعد مُراسلات عديدة ومُكالمات لا تُحصى، تقابلنا وتأكّدتُ مِن صحّة خياري: كان مُنير بالفعل الرجل الذي أريدُه. سألتُه إن كان سيتأخّر بالحصول على الطلاق، وعن الأسباب التي تدفعُه لترك أمّ أولاده نهائيًّا وهو أخبرَني قصّته التي أقنعَتني.

 


لكنّ مُنير كان يكذب عليّ، فهو كان لا يزالُ مع زوجته وليس مُنفصلاً عنها على الإطلاق، بل يُريدُ التسلية قليلاً للترفيه عن نفسه بعد سنوات مِن الزواج. أشكرُ ربّي أنّني لَم أقبَل ممارسة الجنس معه كما بقيَ يطلبُ منّي، بل سمحتُ له فقط بتقبيلي. فلِما العجلة إن كنّا سنتزوّج قريبًا؟

علِمَت زوجة مُنير بأنّه يُواعد أحدًا وخافَت طبعًا على مصيرها وولدَيها. وهي حصلَت خلسةً على رقم هاتفي واتّصلَت بي ذات يوم:

 

ـ مرحباً... أنا زوجة مُنير.

 

ـ أهلاً سيّدتي. كيف وجدتِ رقمي؟ مِن مُنير؟

 

ـ لا طبعًا... فهو لا يعرفُ بشيء. أردتُ سؤالكِ إن كنتِ تنوين الزواج مِن مُنير أم أنّها مُجرّد تسلية؟

 

ـ تسلية؟ بالطبع لا! فور طلاقكما سنتزوّج. علِمتُ منه أنّكما اتّفقتُما على الطلاق بطريقة ودّيّة.

 

ـ ماذا؟!؟ أهذا ما قالَه لكِ؟

 

ـ أجل. أليست تلك الحقيقة؟ أخبرَني أيضًا أنّكما مُنفصلان مِن حوالي السنة، وهو أفرَغَ أمتعته مِن البيت.

 

ـ بل يسكنُ هنا بصورة دائمة ولَم نتكلّم أبدًا بموضوع الطلاق.

 

ـ إنّكِ تكذبين حتماً... هل بدّلتِ رأيكِ حين علِمتِ بوجودي؟!؟

 

ـ أقسمُ لكِ بأنّني أقولُ الحقيقة. وإن كنت تشكّين بكلامي، فتعالي وتفقّدي ملابسه الموجودة في الخزانة وانتظري معي عودته إلى البيت.

 

ـ أعطِني عنوانكِ.

 

لَم تكن تلك المرأة تكذب، فكلّ أمتعة مُنير كانت موجودة في البيت الزوجيّ، وكَم تفاجأَ بي حين دخَلَ البيت بعد عمَله صارخًا لزوجته: "لقد عدتُ يا حبيبتي!". صفعتُه بقوّة واعتذرتُ مِن السيّدة وخرجتُ بسرعة لأبكي في طريقي. فكان مِن الواضح أنّ حظّي مع الرجال سيّئ للغاية، ووعدتُ نفسي بنسيان أمرهم، هذا لو تركوني وشأني!

بعد تلك الحادثة، تشاجَرَ مُنير مع زوجته بقوّة، وترَك بالفعل المنزل آخذًا كل أغراضه، واتّصَلَ بي ليزفّ لي الخبَر. لكنّني أقفلتُ الخطّ بوجهه بعد أن نعَتُّه بالكاذب والغشاش والخائن.

ومنذ ذلك الحين، إنقلبَت حياتي إلى جحيم. فبات مُنير مهووسًا بي ولَم يعُد يُفكّرُ إلا بالطريقة للحصول عليّ. فهو لَم يستوعِب أنّ امرأة بجمالي قد تفلتُ منه، بعد أن رأى كيف كان الناس ينظرون إليّ حين كنتُ بصحبته وكم كان فخورًا بنفسه.

بعد يومَين، رأيتُه واقفًا صباحًا أمام المحلّ الذي أعملُ فيه، فطردتُه بسرعة قبل أن يلفِت الأنظار. هو رحَلَ بسرعة واعدًا بأنّه سيعودُ لاحقًا. بقيَ مُنير على وعده، فعادَ عند الإقفال وبدأ يقصّ لي مدى شوقه لي وحبّه. ركضتُ إلى سيّارتي وعدتُ بسرعة إلى منزلي. شكرتُ ربّي أنّه لا يعرفُ أين أسكن، لكنّه كان قد سأَلَ سابقًا عن عنواني حين ادّعى أنّني أوصَيتُه على طرد ما. أعطَته زميلتي في المحلّ عنواني وهو حفَظَ لنفسه هذه المعلومة.

قرَعَ مُنير بابي مرّات لا تُحصى صارخًا إسمي، لدرجة أنّ حارسة المبنى هدَّدَت بطلَب الشرطة فتوسّلتُ إليها ألا تفعل واعدة بحلّ المُشكلة بسرعة. وبين هاتفي الذي كان يرنّ كلّ دقيقة ليلاً ونهارًا وجرَس البَاب الذي لَم يسكُت، بدأتُ أفقدُ أعصابي وصِرتُ أخافُ، خاصّة عند خروجي.

أصابَني الأرَق بعد أن اكتشفتُ أنّ إطارات سيّارتي ثُقِبَت، فأدركتُ أنّ مُنير صارَ عدائيًّا وبإمكانه أذيّتي. ما ذنبي إن كنتُ أردتُ إيجاد رجل وتأسيس عائلة معه والعَيش بسلام؟ وكيف لي أن أعلَم أنّ الذي اخترتُه إنّما هو رجل كاذب ومجنون؟

رحتُ أفتّشُ عن مسكن آخَر، فوجدتُ مُبتغايَ وانتقلتُ إليه بسرّيّة تامة، فلَم أقُل لأحد أين أسكُن خوفًا مِن ظهور ذلك المختلّ عند بابي. واتّفقتُ مع إحدى زميلاتي بأن توصلَني كلّ مساء إلى سيّارتي بعد أن أخبرتُها بالذي يجري. هي حاولَت إقناعي بطلَب الشرطة، إلا أنّني رفضتُ ذلك فقط مِن أجل زوجة مُنير وولدَيه ، فكان يكفيهم أنّ مُنير يتصرّفُ كالمُراهق المُتَيّم.

كيف وجَدَ مُنير عنواني الجديد؟ حتمًا بمراقبتي عن بُعد بالرغم مِن تحقّقي في كلّ مرّة مِن أنّ أحدًا لا يلحقُ بي. ألَم يكن لدَيه عمَل يذهب إليه؟!؟

ويوم رأيتُه في أسفل المبنى الجديد، تأكّدتُ أنّني لن أرتاح منه أبدًا. ترجَّلتُ مِن السيّارة وقلتُ له بعنف بعد أن شغَلتُ مُسجّل الصوت في هاتفي:

 

ـ ماذا تُريد؟

 

ـ أُريدُكِ أنتِ.

 


ـ كلّ شيء إنتهىَ بيننا، فلقد غشَشتني!

 

ـ صحيح ذلك، إلا أنّني تركتُ عائلتي مِن أجلكِ.

 

ـ هذا ليس ما أُريدُه... أنا لا أدمّرُ العائلات. إرحَل مِن هنا ولا تعد، فلَن أُبدِّلَ رأيي.

 

ـ سنرى ذلك. سأبقى أُطاردُكِ حتى آخر أيّامي... إلى حين تصبحين لي. أنتِ أجمَل مخلوقة رأيتُها في حياتي، وصورتكِ محفورة في ذهني وقلبي وجسدي. أنتِ لي... لي وحدي!

 

ـ أنتَ مَن ثقَبَ إطارات سيّارتي؟

 

ـ أجل، لقد فعلتُ ذلك لكثرة غضبي مِن رفضكِ لي، وقد أفعلُ أكثر مِن ذلك لو أقتضى الأمر. أُريدُكِ حيّة أو ميّتة!

 

عندما قال ذلك، ركبتُ بسرعة سيّارتي ورحتُ كالمجنونة إلى أقرَب قسم للشرطة، حيث قلتُ لهم إنّ لدَيّ تسجيلاً صوتيّاً يُثبتُ أنّ حياتي في خطَر. جاؤوا بمترجم يعرفُ العربيّة وقدّمتُ بلاغًا بمُنير. ثمّ أكّدَت زميلاتي وحارسة المبنى القديم أقوالي، فجاؤوا بذلك المجنون وجعلوه يُوقّع على تعهّد بعدَم الاقتراب منّي تحت طائلة دخول السجن، وأرغموه على دفع ثمَن الإطارات لي. شكرتُ ربّي أنّني موجودة في دولة قانون تحمي مواطنيها وخاصّة النساء.

آخر مرّة رأيتُ مُنير فيها، كان واقفًا على الرصيف الُمقابِل للمحلّ حاملاً بيَده مُسدّسًا. ظننتُ بالطبع أنّه سيُطلق النار عليّ، فصرختُ بقوّة ورمَيتُ بنفسي أرضًا مُغمِضة عَينيَّ، إلا أنّه قال لي بصوت عالٍ: "سأقتلُ نفسي إن لَم تعودي إليّ... سيُصبَح ولَدايَ يتيمَين بسببكِ! أسمِعتِ؟!؟ سأقتلُ نفسي!". ركضتُ داخل المحلّ واختبأتُ بين الملابس. طلَبتَ زميلتي الشرطة، إلا أنّ ذلك المجنون كان قد رحَلَ قبل وصولهم.

إنقطعَت أخبار مُنير نهائيًّا، وجاءَتني مُخابرة مِن زوجته تسألُ عنه لأنّه تخلَّفَ عن دفع أقساط ولدَيه في المدرسة ومصروف المنزل. أخبرتُها ما فعلَه بي وأكّدتُ لها أنّني لا أعرفُ ولا أٌريدُ أن أعرفَ مكان وجوده.

ولأكون بأمان أكثر، طلبتُ نقلي إلى فرع آخر مِن عملي، أيّ إلى مدينة بعيدة كلّ البعد، وأصرَّيتُ على الكتمان التام.

عشتُ مُختبئة لمدّة، وقضيتُ وقتي أتلفّتُ مِن حولي إلى حين اتّصَلَ بي شرطيّ طالبًا منّي أن أقصد القسم. هناك أبلغوني أنّ مُنير قد ماتَ انتحارًا قبل أشهر، وأنّه تلقّى الخبَر مِن قسم المدينة التي كنتُ أسكنُ فيها. لن تتصوّروا مدى ارتياحي لدى سماعي الخبَر! كنتُ سأعيشُ بأمان أخيرًا! ثمّ خطرَت ببالي زوجة مُنير فاتّصلتُ بها مُعزّية. كان هناك رابط بيننا وُلِدَ يوم هي خابرَتني لأوّل مرّة. فقلتُ لها:

 

ـ لقد سمعتُ بالخبَر... أنا آسفة.

 

ـ أجل، خبَر مؤسف، خاصّة بالنسبة لولدَينا.

 

ـ هل تعتقدين أنّ الذنب ذنبي؟ أقسمُ لكِ...

 

ـ لا، لا دخلَ لكِ بالذي حصَل، فأنتِ تركتِه فور علمكِ بأنّه مُتزوّج منّي.

 

ـ لكن كيف له أن يفقدَ عقله هكذا؟ هل كانت هناك بوادر سابقة؟

 

ـ لا، أبدًا. لكنّه فقَدَ أمّه عندما كان طفلاً، ربّما لدَيه خوف مِن أن يهجره أحد. لستُ أدري، لستُ طبيبة نفسيّة.

 

ـ ماذا ستفعلين الآن؟

 

ـ لا شيء، فأنا إمرأة عاملة، واعتدتُ في الأواني الأخيرة على العَيش مِن دون مُنير.

 

ـ لا بّد أنّكِ حزينة للغاية.

 

ـ للحقيقة... لا. فيوم علِمتُ أنّه على علاقة بكِ، حصَلَ صراع كبير بين عقلي وقلبي، وسرعان ما تغلّبَ العقل على العاطفة، فتوقّفتُ عن حبّه. حياتي أمامي اليوم وأنوي عَيشها كما يجب. وعليكِ فعل الشيء نفسه. وداعًا.

 

للحقيقة، كلام تلك المرأة أراحَني كثيرًا، وصمّمتُ على وضع ما حصَلَ ورائي كي أتمكّن أخيرًا مِن إيجاد نصفيَ الآخر. لكن كيف سأعلَم إن كان الذي سأجده يُحبُّني لشخصي أم لشكلي؟ أرجو أنّ السنوات أعطَتني وستُعطيني الحكمة اللازمة لمعرفة الجواب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button