عمّتي سارة

كانت عمّتي سارة شقراء الشعر وفاتحة البشرة وذات عيون زرقاء، على خلاف جميع أفراد عائلتها. ولقد تنبّهتُ للأمر منذ طفولتي، لكنّني لَم أسأل عن الموضوع إلا حين صرتُ مُراهِقًا. فقيلَ لي إنّ هناك جينات أجنبيّة في العائلة تعودُ إلى أجيال سابقة، الأمر الذي درستُه في المدرسة خلال حصّة العلوم، لِذا صدّقتُ الرواية ولَم أثِر المسألة بعد ذلك. لكنّني انتبَهتُ آنذاك إلى الديناميكيّة الموجودة بين عمّتي وأهلها، فهي كانت على ما يبدو شبه معزولة عن الباقي. كان هناك امتعاض مُستتِر تجاهها، مع أنّها كانت بغاية اللطافة ولا ترفض طلبًا لأحَد على الاطلاق. دافعَتُ عنها مرارًا، حين كان أبي وإخوَته ينتقدونَها لأتفَه سبب، وكنتُ أُجابَه بصمت مُزعِج. حتّى جدّتي، أيّ أمّها، كانت تنظرُ إليها بشيء مِن الرَيبة والغضب كلّما فتحَت المسكينة فمها. إضافة إلى ذلك، كانت عمّتي عزباء وعليها العَيش مع والدَيها وعمّي الذي هو الآخَر لَم يتزوّج، أيّ أنّها تحمّلَت على صعيد يوميّ وطوال حياتها تلميحات مُزعِجة مجّانًا.

أظنّ أنّ القارئ استنتجَ مِن الأوّل أنّ سارة لَم تكن كلّيًّا مِن العائلة، بل أنّها ثمرة هفوة قامَ بها جدّي ذات يوم. أنا لَم أفهَم ذلك لأنّني كنتُ شابًّا صغيرًا ولا أعرفُ بهذه الأمور بالعمق.

موقِف جدّي مِن مُعاملة الجميع لابنته الشقراء كان مُتأرجحًا، فتارةً كان يُدافعُ عنها وتارةً أخرى يسكتُ على مضض، وأحيانًا يشتركُ بالتنمّر الذي أحاطَها.

وذات يوم، حزمَت عمّتي أمتعتها وطارَت إلى بريطانيا. سألتُ عن السبب، خاصّة حين رأيتُ كيف أنّ الجميع بدا مُرتاحًا لِرحيلها، وقيلَ لي إنّ ذلك أفضل للجميع. حزنتُ كثيرًا، أوّلاً لأنّني لَن أعود أرى سارة التي أحبَبتُها، وثانيًا لأنّ ما مِن أحَد سوايَ سيشتاق إليها بل العكس. غضبتُ مِن أهلي وخاصّة مِن أبي، فكيف له أن ينسى أخته التي لَم تؤذِ أحدًا يومًا، بل كانت دائمًا مُستعدًّة للمُساعدة؟ لِذا أخذتُه جانبًا وسألتُه عن موقفه تجاه رحيلها، وهو قال:

 

ـ سارة بأفضل حال في بريطانيا، لا عليكَ.

 

ـ كيف تقول ذلك؟ هنا موطنها وأهلها!

 

ـ لا، بل هناك. إسمَع... سارة ليست... ليست ابنة أمّي.

 

ـ لَم أفهَم.

 

ـ جاء بها أبي حين عادَ مِن بريطانيا. إنّها إبنته مِن امرأة أخرى.

 

ـ ماذا؟!؟ كيف...

 

ـ سأروي لكَ ما حدثَ بالتفاصيل، فلقد صرتَ في سنّ يُمكّنُكَ مِن فهم الحياة ولو بعض الشي. والدُنا ترَكَنا حين كنّا صغارًا وترَكَ أمّنا مِن دون إنذار. فهو قالَ لنا إنّه مُسافِر بداعي العمَل، وكان بالفعل ذلك السبب الرئيسيّ لرحيله إلى أوروبا. إلا أنّه تعرّفَ هناك على إمرأة بريطانيّة وسرعان ما سكنَا مع بعضهما ثمّ تزوّجا. بدأَت تخف اتّصالاته بنا شيئًا فشيئًا، ثمّ لَم يعُد يأتي لرؤيتنا على الاطلاق. وفي أحَد الأيّام، جمَعتنا أمّنا لتُخبرُنا أنّ والدنا لن يعود. بكينا كثيرًا جميعًا، فقد شعرنا بالخذلان إذ أنّ أبانا كان بالفعل رجُلاً حنونًا ومُحِبًّا. لَم نعرِف لماذا هو تخلّى عنّا، واعتقَدنا لسنوات أنّ لأمّنا دخلاً بهجره لنا، فسكنَنا الامتعاض تجاهها. فكيف لها أن تُزعِل زوجها لِدرجة أنّه فضّلَ البقاء في المهجَر على العودة إلينا؟

 

ـ ولماذا لَم تقُل لكم جدّتي سبب ترك زوجها لها.

 

ـ أوّلاً لأنّها شعرَت بالخجَل، ففي نظرها هي لَم تستطِع إبقاء زوجها معها، وثانيًا لأنّها أمِلَت أن يعودَ إليها.

 

ـ وهو عادَ بالفعل!

 

ـ أجل، لكن بعد سنوات. وهو لَم يعُد لأنّه ندِمَ على فعلته أو لأنّه اشتاقَ لأمّي أو لنا، بل لأنّ تلك المرأة الأجنبيّة توفّيَت في حادث سَير. عندها إتّصَلَ بأمّي وتكلّمَ معها مُطوّلاً وأقنعَها بالقبول به... وبابنته سارة.

 

ـ كيف استطاعَ إقناعها بذلك؟!؟

 

ـ لأنّه يعرفُ نقاط ضعف أمّي وكيف أنّها لَم تكفّ عن حبّه... فتلاعَبَ بعواطفها في ما يخصّ ابنته، شارحًا لها أنّ الصغيرة بحاجة إلى حنان الأمّ، وإن هي لَم تقبَل بها، سيضعها في مَيتم أو لا يعود أبدًا.

 

ـ وبعد ذلك؟

 

ـ رأينا والدنا قادمًا مع فتاة صغيرة شقراء، وقيلَ لنا إنّها أختنا وعلينا أن نُحبّها. لكنّ والدتنا لَم تستطِع اعتبارها كابنتها، فالنظر إليها كان يُذكّرها بخيانة زوجها لها، ولون بشرتها وشعرها وعَيناها تذكّرها بالتي سرقَت رجُل حياتها منها.

 

ـ وما ذنب عمّتي سارة؟!؟

 

ـ لا ذنب لها على الاطلاق، فهي ضحيّة مثلنا، إلا أنّ وجودها بيننا كان كالسمّ في قلبنا جميعًا. إضافة إلى ذلك، لَم نعُد نرى أمّنا تضحك على الاطلاق، بل سَكنَ الحزن عَينَيها وقلَّ كلامها. أيّ أنّ جوّ البيت باتَ مشحونًا وثقيلاص، الأمر الذي أثَرَ علينا حتّى يومنا هذا.

 

ـ ألَم تستطيعوا مُسامحة جدّي أو تقبُل عمّتي؟

 

ـ للحقيقة لا... فبسببهما عشنا سنوات مِن دون أب أو مدخول ثابت، فهو لَم يكن يُرسِل لنا سوى القليل بعد أن صارَت له عائلتان. إضطرِرنا إمّا لترك مدارسنا أو العمَل باكرًا. أمّي هي الأخرى وجدَت عمَلاً في مصنع قريب وتعِبَت كثيرًا.

 

ـ قُل لي، إلى مَن عادَت عمّتي حين سافرَت؟

 

ـ لدَيها خال هناك، رجُل مُسنّ لَم يتزوّج. وهو لَم يعرِف بوجودها إلا مؤخّرًا إذ كانت علاقته مع أمّ سارة مقطوعة. إلا أنّ عمّتكَ بحثَت منذ أشهر قليلة عن أيّ قريب لها هناك، فوجدَته واتّصلَت به طالبة منه استقبالها، ربّما لأنّها لَم تعُد تطيق العَيش بيننا.

 

ـ وهل تستطيع لومها يا بابا؟

 

ـ لا... فكما قلتُ لكَ، هي ضحيّة مثلنا، إلا أنّنا لم نُحبّها يومًا أو نعُدّها فردًا مِن عائلتنا.

 

ـ أرجو أن تسعَدَ عمّتي هناك... يا لَيت الكبار يعون الأذى الذي يُحدثونه حين لا يُفكّرون سوى بأنفسهم.

 

قصّة عمّتي أثّرَت بي كثيرًا، فالمسكينة قضَت عمرها تُرضي مَن حولها ليُحبّوها ولَم تفلَح. يا لَيتني علِمتُ الحقيقة قَبل ذلك، لأحطتُها بالمزيد مِن الحبّ. على كلّ الأحوال، كنتُ منذ البدء المُفضَّل لديها، وهي بقيَت تُغرقُني بالهدايا والاهتمام الخاصّ.

مرَّت حوالي الخمس سنوات ولَم نسمَع أيّ خبَر عن عمّتي. حاولتُ كثيرًا إيجاد وسيلة للاتّصال بها، لكن ما مِن أحَد كان يملك رقم هاتفها في بريطانيا. وبقيتُ آملُ بأن يأتي يوم وتُعانقني تلك العمّة الحنونة... ولَم أتوقّع أبدًا ما حصَلَ لاحقًا!

فذات يوم عادَت سارة! أجل، قرأتم جيّدًا! لكنّها لَم ترجَع إلى بيتنا، بل سكنَت منزلاً ليس بعيدًا عنّا كان يُعرف بالـ "بيت الكبير"، إذ كان عبارة عن فيلا بناها رجُل ثريّ منذ سنوات طويلة ثمّ ماتَ. بقيَ المنزل فارغًا منذ ذلك الحين، والحديقة العملاقة المُحيطة به باتَت شبيهة بالحرج المتروك. وذات يوم جاء عمّال ومُصمّم حدائق وبدأوا بترميم المكان. لَم يعرِف أحَد في ذلك الوقت مَن أرسلَهم ومَن كان المالِك الجديد... حتّى وصَلنا أنّ عمّتي هي التي ستسكنُ ذلك البيت الجميل.

تفاجأ كلّ أفراد العائلة بهذا الخبَر، بمَن فيهم أنا طبعًا، فمِن أين لها المال لتشتري عقارًا كهذا ؟ ولِما هي لَم تُطلِعنا على شيء؟ ركضتُ كالمجنون لدى سماعي الخبَر، ودقَّيتُ بابها وعانقتُها مُطوّلاً باكيًا لكثرة فرَحي وشوقي. هي الأخرى بكَت قائلة: "كَم اشتقتُ إليكَ يا حبيبي، يا صغيري... أدخُل لدَيّ أخبار كثيرة!". دخلتُ المكان وأُدهِشتُ بحجمه وجماله. فحتّى ذلك الحين، لَم يرَه أحَد منّا سوى مِن الخارج وبحالة سيّئة. أكَلتُ وعمّتي طعامًا لذيذًا، حضّرَته لنا طاهيتها وقدّمَته خادمتها. كنتُ سعيدًا لسارة إلى أقصى درجة، وهي رأت ذلك على وجهي. وبعد أن انتهَينا مِن الأكل، جلَسنا سويًّا في أحَد الصالونات الجميلة، فقلتُ لها:

 

ـ علِمتُ بقصّتكِ يا عمّتي وأنا آسِف لِما عانَيتِ منه في بيننا. لو عرفتُ منذ البداية لَما...

 

ـ كنتَ صغيرًا يا حبيبي ولا تستطيع فعل شيء مع هكذا أناس، صدّقني. لقد تعذّبتُ كثيرًا مِن جرّاء تنمّرهم وحقدهم المُستتِر، وسفَري إلى بريطانيا هو أفضل شيء حصَلَ لي. فخالي كان إنسانًا طيّبًا بالرغم مِن تعجرفه الظاهر، ولقد أمضَيتُ معه سنوات سعيدة إلى حين مرضَ ومات. أنا عاملتُه وكأنّه أبي، وهو أكرمَني وكأنّني ابنته بترك ماله وممُتلكاته لي بعد وفاته. أجل، لقد ورثتُ منه مبالغ كبيرة لَم أحلَم بها على الاطلاق. وهكذا إستطعتُ شراء هذا البيت الجميل الذي كنتُ أمرُّ بالقرب منه وأتخايلُ نفسي أعيشُ فيه. حُلم فتاة صغيرة تحقَّقَ كالسحر!

 

ـ أنا سعيد لكِ يا عمّتي! ماذا ستفعلين في ما يخصّ العائلة؟ هل ستعاودين التفاعل معهم؟ فهناك أبوكِ وأبي وباقي أخوَتكِ.

 

ـ أنا موجودة هنا، إن أرادوا رؤيتي فلن أصدّهم. لكن بالنسبة لكَ، إعتبِر نفسكَ في بيتكَ.

 

إجتمعَت العائلة في إحدى الأمسيات وقرّروا جميعًا بمن فيهم جدّتي، أن يزوروا عمّتي سارة للترحيب بها. مُنافقون كلّهم! الآن أحبّوها بعدما صارَت ثريّة؟!؟

إستقبلَتهم عمّتي بالبسمة، وقدّمَت لهم القهوة والحلوى، وبدأ كلّ واحد منهم بِطلَب إمّا المال أو الخدمات. إستمعَت سارة لهم كلّهم وهزَّت برأسها، إلا أنّها لَم تقل شيئًا سوى:

 

- أبي... سأدفعُ لكَ كلّ قرش صرفَته عليّ منذ ولادتي، أي ثمَن الملابس والأكل والأقساط الدراسيّة... وحسب. فهذا فقط ما حصلتُ عليه منكَ. أمّا بالنسبة لكم، فلن تنالوا شيئًا منّي لأنّني بكلّ بساطة لَم أنَل شيئًا منكم... سوى البغض المجّاني والعَزل والتنمّر. أُريدُكم أن ترحلوا الآن وألا تعودوا، فقد حانَ الوقت لأعيش بسلام بعيدًا عنكم.

 

رحَلوا مخذولين وغاضبين وشاتمين. ونظرتُ إلى عمّتي وهي وجّهَت لي غمزة أضحكَتني. كَم كنتُ فخورًا بها لأنّها وقفَت أخيرًا في وجههم! صحيح أنّ المال يُعطي لصاحبه القوّة!

بقيتُ أزورُ سارة بشكل شبه يوميّ بالرغم مِن مُمانعة والدي وباقي العائلة. أحيانًا كانوا يطلبون منّي أن أقنعِها بالعدول عن قرارها، إلا أنّني لَم أطلُب منها شيئًا لهم أو لي. وسرعان ما صارَت سارة بمثابة أمّي الثانية وأنا بمثابة ابنها، وبتُّ أساعدُها بأمور عديدة كَي لا تقَع فريسة أحَد.

توفّيَ جدّي وحضَرَت سارة مراسم الدفن، لكنّني لَم أرَ دمعة واحدة في عَينَيها ربّما لأنّ أباها لَم يكن أبًا لها بل كان رجُلاً يبحثُ عن راحته ومصلحته فقط. ثمّ هي خرجَت مِن القاعة بسرعة قَبل أن يتفاعَل معها الموجودون إيجابًا أم سلبًا. لحِقتُ بها إلى الخارج ومشينا سويًّا بصمت.

أحبَّت سارة خطيبتي كثيرًا لأنّها تُشبهُني، وقرّرتُ أن أُسمّي أوّل ابنة نُنجبُها لاحقًا باسم عمّتي. ولا يزال أهلي حتّى اليوم يُحاولون إيجاد طريقة للاستفادة مِن سارة، فلقد أعدّوا الخطَط والأكاذيب والحيَل العديدة، لكنّني أفشَلتُها كلّها! لن أدَعَ أحَدًا يؤذيها أو يستغلّها، بل سأحميها حتّى آخِر يوم مِن حياتها.

أعلَم تمام العِلم أنّني سأرِث مِن عمّتي البيت وما تملكه، وهذا ما حمَلَ العائلة على تحمّل علاقتي الوطيدة بها. غربان حقودون وجشِعون... لكنّهم لن ينالوا شيئًا، أعِدُكم بذلك!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button