عملتُ جهدي كي لا تسعد أمي بِزواجها الثاني

عندما توفّي أبي جرّاء نوبة قلبيّة، كنتُ لا أزال في الثالثة مِن عمري، وكلّ ما أعرفه عنه كان ما أخبرتني به أمّي.

كان والدي رجلاً طيّباً وحنوناً عملَ جهده لإسعادنا، ولكنّه لم يُكمل حياته معنا بعدما أخذَه الموت باكرًا. لكنّ أمّي، وبالرغم مِن عظمة أبي، أسرعَت إلى الزواج ثانيًة وأختارَت أخاه، أي عمّي باسم.

العائلة إرتاحَت لأنّ ذلك لم يُدخل رجلاً غريباً على العائلة. كان الجميع مسروراً إلاّ أنا. فبالرغم مِن سنّي اليافع، إعتبَرتُ عمّي دخيلاً، ولم أستوعب وجوده في البيت الذي كان يسكنه أبي.

ومع الوقت، بدأتُ ألوم أمّي على نسيان أبي بهذه السهولة بعدما كانت تخبر عن حبّها القوي والشبه أسطوري لوالدي. وبدأتُ أتصرّف بفظاظة مع عمّي وأعصي أوامره وأفعل عكس ما يطلبه منّي لأريه أنّني لا أقبل به. فعَلَ المسكين المستطاع لإرضائي، مِن الألعاب والفساتين إلى المشاوير وقضاء وقته معي. إلا أنني قرّرتُ تجاهله كليّاً وكأنّني بذلك أمحوه مِن الوجود، لِتعود حياتنا كما كانت في السابق، أي عندما كان الأب الذي لا أتذكّره معنا. وباتَ جوّ البيت لا يُطاق، وصار شغل أمّي الشاغل إقناعي بعدم التصرّف بوقاحة مع حبيبها باسم.

زواج أمّي ووجود عمّي معنا أثّر على علاماتي في المدرسة، وبدأتُ أرسب وكأنّني بذلك أقول للناس أجمع إنّني أرفض الواقع الذي أعيشه.

وعند بلوغي سن المراهقة، تصادقتُ مع فتيات مثلي، أي ثائرات على الدنيا، وكنّا نخرج سوياً ولا نعود إلاّ في آخر الليل.

وكانت أمّي تعلم أنّ أيّ عقاب لي قد يؤدّي إلى هروبي مِن البيت، لذلك تحمّلَت منّي سنيناً مِن العذاب. أمّا باسم، فقد تنّحى جانباً مدركاً أنّني لا ولن أعتبره مركز سلطة في البيت وأنّه لن يصل يوماً إلى قلبي. وبدل أن تعيش أمّي قصّة حبّ مع زوجها، عمَّ الحزن قلبها واليأس قلبه. وكنتُ أمرَح ضمناً لنتيجة أفعالي، بعدما نجحتُ في أخذ بثأر أبي المسكين.

 


وعندما بلغتُ سنّ الرشد القانونيّ، أبدَيتُ رغبتي بالذهاب إلى الولايات المتحّدة عند ابنة خالتي. وقبِلَت أمّي أن ترسلني إلى هناك لسبَبَين: الأوّل لأنّها علِمَت أنّني لن أستطيع مواصلة العيش معها ومع زوجها، والسبب الثاني لِترتاح منّي وتعيش كما أرادَت مع باسم.

ويوم رحيلي، قبَّلتُ أمّي ولكنّني لم أقل حتى وداعاً لِباسم الذي نظَرَ إليّ بحزن قائلاً: "رافقَتكِ السلامة يا... يا عزيزتي."

وطِرتُ إلى شيكاغو والفرح يملأ قلبي، إذ كنتُ قد تخلّصتُ أخيراً مِن ذلك الثنائيّ الخائن.

عشت حوالي الثلاث سنوات في الولايات المتحّدة، وكانت أيّاماً جميلة. عمِلتُ في المطعم الذي يملكه زوج إبنة خالتي، وتعرّفتُ إلى الشعب الأميركيّ الذي استلطفتُه وأحببتُ بساطته. وخلتُ فعلاً أنّني سأقضي هناك باقي حياتي، حتى وصَلني خبر مرض أمّي.

كنتُ خلال فترة مكوثي في الغربة قد تلقيت بضعة إتصالات منها، ولكنّني لم أتّصل بها يوماً. كانت دائمًا هي التي تخابرني.

وعندما لم أسمع منها لم أفكّر أنّها قد تكون مريضة بل أنّها نسيَتني مِن كثر اهتمامها بِزوجها.

ولكن في تلك المرّة كان باسم المتّصل وقال لي:

 

ـ أمّكِ جِدّ مريضة... لقد أصابها سرطان فتّاك ولم يبقَ لدَيها الكثير قبل أن ترحل... أظنّ أنّ عليكِ المجيء.

 

ـ هل هذه خدعة لتأتيا بي إلى البلد؟ إذا كان...

 

ـ أقول لكِ إنّ الأمر خطير... تعالي إن كنتِ تودّين رؤيتها لآخر مرّة.

 

وأقفَلَ الخط مِن دون غضب.

إحترتُ إن كان عليّ الذهاب أم لا، فلم أكن أشعر تجاه أمّي بأيّ عاطفة، فهي كانت بالنسبة إليّ كأي إنسان أعرفه. ولكن إبنة خالتي أقنعَتني قائلة:

 


ـ سيأتي يوم وتندمين ولن تستطيعي حينها العودة إلى الماضي... إذهبي واعتبريها إنسانة مريضة بحاجة إلى مؤاساة.

 

... أخذتُ الطائرة ووصلتُ البلد وقصدتُ المستشفى. وحين دخلتُ غرفتها، رأيتُها هزيلة وشاحبة وباسم بالقرب منها يُمسك بيدها وينظر اليها بِحنان. وعندما رأتني واقفة بباب غرفتها، إبتسمَت لي بصعوبة وطلبَت مِن زوجها أن يتركنا. ثم نادَتني، فاقتربتُ منها وطلبَت منّي أن أجلس على حافة فراشها. أخذَت يدي وقالَت:

 

ـ كم أنتِ جميلة يا حبيبتي... إشتقتُ إليكِ... كثيراً... مِن الجيّد أنّكِ جئتِ قبل أن أموت لأنّني أودّ أنّ أخبركِ سراً كبيراً... فأنت أصبحتِ بعُمر يخوّلكِ فهم الأمور والحياة...

 

ـ ما الأمر؟

 

ـ إسمعيني ولا تقاطعيني... عليّ التكلّم قبل أن أموت... أبوكِ... أبوكِ لم يكن يوماً رجلاً شهماً... أو طيّباً... كان متوحّشاً ومؤذياً...

 

ـ لماذا؟...

 

ـ كان يشرب الكحول ويصبّ غضبه عليّ... كان يضربني بلا رحمة، ورغم الإزرقاق الذي كان يُغطّي جسدي لم يُحاول أهله ردّه عنّي قائلين إنّني حتماً أجلبُ غضبه عليّ... الوحيد الذي وقَفَ إلى جانبي كان أخوه باسم... كان يُدافع عنّي عند أهله، ويمنع أباكِ مِن لمسي أثناء وجوده... ومع مرور الوقت، وقعنا في حبّ بعضنا... كان غراماً قوياً بقوّة كرهي لأبيكِ... وفي ذات يوم، علِمتُ أنّني حامل...

 

ـ حامِل مِن مَن؟؟؟

 

ـ حامل مِن باسم... كنتِ أجمل هديّة حصلتُ عليها أبداً... حملتُ في بطني ثمرة حبّ جميل... حبّ باسم لي... أنتِ.

 

ـ أنا؟ أنا ابنة باسم؟

 

ـ أجل، حبيبتي... وعندما وُلدتِ لم نستطع طبعاً إخبار أحد خوفاً مِن أن يقتلني أبوكِ أو حتى أهله فأبقَينا الأمر سراً... كان يأتي باسم في غياب أبوكِ ونعيش لِساعات وكأنّنا عائلة عاديّة... ومرَّت ثلاث سنوات على هذا النحو إلى حين قتلَ أبوكِ نفسه...

 

ـ ماذا؟؟؟ ألم يمت بِنوبة قلبيّة؟

 

ـ لا... في ذلك اليوم كان قد بدأ بالصراخ عليكِ وكنتُ أعلم أنّ يوماً سيأتي يُعنّفكِ فيه كما كان يفعل معي، فقلتُ له حقيقته وأريتُه بشاعته وأخبرتُه عن مدى كرهي له وأسفي للزواج منه... إنّ الأم تصبح شرسة عندما يقترب أحد مِن صغارها... بدأ بالبكاء وخرَجَ... وكانت أوّل وآخر مرّة أراه يبكي فيها... إبتلعَ كميّة كبيرة مِن المهدّئات، ومات... لم أبكِ عليه ولكنّني شعرتُ بالأسف تجاهه... وأسرعتُ بالزواج مِن باسم لتكوني مع أبيكِ الحقيقيّ... ولكنّكِ...

 

ـ أعلم... لا تكملي... تصرّفتُ بِغباء وخرّبتُ كلّ شيء.

 

ـ لم يكن بِمقدوركِ أن تعلمي الحقيقة... لكم تعذّبتُ مِن أجلكِ... سامحيني.

 

ودخلَ باسم خائفاً مِن ردّة فعلي. كان يعلم أنّ أمّي ستخبرني الحقيقة ولم يكن متأكّداً مِن تقبّلي للأمر. بكيتُ وبكى هو الآخر ورميتُ نفسي في أحضانه:

 

ـ كيف تحمّلتَني كل تلك السنين؟

 

ـ لأنّكِ إبنتي.

 

ـ سأعوّض لكَ يا... بابا.

 

وأبتسمَت أمّي. وماتت والدتي بعد أسبوع ولم أعد إلى الولايات المتحّدة لأنّ حياتي أصبحَت هنا مع أبي الذي ضحّى وصبرَ وسكَتَ وقلبه ينزف حزناً. يا ليتَهما كانا قد قالا لي الحقيقة وأنا أصغر سناً، لكنّا ربحنا بعض الوقت، ولكنّ الأهل يخافون أحياناً مِن أولادهم ومِن حكمهم عليهم. ويا ليتَ أمّي كانت لا تزال معنا لتنعم بِحياتنا الجديدة، ولكن كان قد كُتِبَ عليها ألاّ ترى السعادة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button