علّمتني الحياة ألا اثق برجلٍ ... لكنّه مختلف

مَن قال إنّ ذاك الثنائي الذي كان ينحني أمام مهدي مبتسماً سينتهي به الأمر في الطلاق بعد سنة من ولادتي... لم يكتفِ والديّ بالشتائم والخناق والانفصال بل إنّ كلاً منهما عاش في بلد مختلف.   

اتّهم والدي والدتي بأنّها غير مؤهلة لتربيتي فأخذ حق حضانتي ليجعلها تجنّ غضباً. ذهبنا إلى بريطانيا وأمي تبخّرت في سماء الولايات المتحدة الأميركية. بعد مرور بضع سنوات، قرر أبي بناء حياته من جديد وتزوّج من امرأة لم تكن ترغب بي. على الفور، أرسلني والدي لعند أمي التي كانت تعيش قصة حب عارمة مع زوجها الجديد متناسيةً وجودي. لذا لم تتحمّس لقدومي على عكس زوجها الذي بدت عليه ملامح السعادة.


عشت سنتين معهما بين زيارات الرجل ليلاً إلى غرفتي ليقنعني بالسماح له بلمسي، والمشاكل اللامتناهية مع أمي التي لم تسامحني على دخولي إلى حياتها. هكذا إلى أن فاجأت أمي زوجها في إحدى الليالي وهو في غرفتي واضعاً يده تحت ملابس نومي. فكانت فرصة جيدة لتتخلّص مني.
أرسلتني إلى مدرسة داخلية أعيش فيها كمنفية وكانت المدرسة فرنسية في حين أنّني لم أكن أتكلم منذ صغري سوى الانكليزية، بالتالي لم يكن عندي أية وسيلة للتواصل مع الطلبة ولا مع الأساتذة. أمام هذا الموقف، تمرّدت على كل شيء، على والديّ اللّذين تركاني، على المدرسة التي لم تفهمني، وعلى العالم بأسره. صارت علاماتي منخفضة جداً ورحت أتصرّف بعدائية مع أصدقائي.

باختصار، كنت أتصرّف على هواي فتحوّلت إلى وحش أسود يخشاه الجميع وقد كنت أفرح بإثارة الرعب في نفوس من هم حولي. عندئذٍ، أعلمت إدارة المدرسة والدتي أنّها غير قادرة على إبقاء تلميذة في المدرسة تشكّل خطراً. لم تكن غايتي إلاّ لفت انتباه الناس إلى حالتي ولكنّني قوبلت بالرفض مرة جديدة: إذ أرسلتني أمي إلى جمعية تهتم بالمدمنين والمتشرّدين والعجزة... بكلمة واحدة، بأشخاص لا يريدهم أحد.



رحت أمضي أيامي في مخزن تحت الأرض مرتديةً ثياباً كانت لغيري، ومتناولةً فضلات المطاعم... لكن سرعان ما هربت إذ ما عدت أحتمل أن أكون ذاك الوحش الذي يزوره تلاميذ بنوايا حسنة محمّلين بالحلويات والصابون. عند المساء، رحلت بلا أن آخذ معي شيئاً. ولم يبحث عني أحد لأنّ أحداً لم يلحظ غيابي بالتأكيد. كنت في الخامسة عشرة من عمري ليس إلاّ!

حين أتذكّر تلك الحظات، أتسال من أين جاءتني تلك القوة لأكمل وأتخطّى الرفض والترك والظلم والفقر المطلق... في إحدى الليالي، كنت جائعة جداً وخائفة ومتّسخة وتعيسة للغاية فجلست على مقعد في حديقة عامة ونمت حالمةً بأنّ أمي قد وجدتني وأخذتني بين ذراعيها وهدّأتني فشعرت بالدفء والعطف واستيقظت مرتعدةً لأجد رجلاً في الخمسين من عمره جالساً بالقرب مني وقد لفّني بسترته وراح ينظر إليّ وأنا نائمة. صرخت بصوت عالٍ. ما كان ينقصني إلاّ الاغتصاب!

-"لا تخافي، لن أؤذيك. عودي إلى النوم." قال هذا بصوت هادئ.
-"من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟"
-"لا شيء، أفكّر. رأيتك ترتجفين فغطّيتك. نامي!"

ما عدت أشعر بالنعاس. في الحقيقة، كنت خائفة فقد علّمتني الحياة ألاّ أثق بأحد لا سيما برجل وحيد في الليل في الحديقة. أردت الرحيل لكنّه أمسك ذراعي قائلاً:

-"ابقي."
-"أريد الرحيل."
-"إلى أين؟"
-"لا يهمني، إلى أي مكان. هل يمكنني الاحتفاظ بالسترة؟"
-"نعم وخذي هذا أيضاً."


قدّم لي رزمة من المال وضعتها في جيبي ورحلت تاركةً إياه وحيداً في الظلمة. بواسطة ذاك المال، استأجرت غرفة كان عليّ مشاركتها مع فتاتين. صار عندي سقف أخيراً لكن بقي عليّ تأمين ما آكله. قدّمت لي سيدة عجوز وظيفة صغيرة في محل بقالة صغير قابع عند زاوية الشارع. كنت أتقاضى القليل ولكني أمّنت وجبة ساخنة كل يوم عند الظهيرة. أما عند المساء فكنت أكتفي ببعض الفاكهة أو بقطعة خبز مع اللبن.

كتبت لي الحياة الشقاء! حين بلغت الثامنة عشرة من عمري، تمكّنت من إيجاد عمل أمّن لي غرفة خاصة بي. عملت بلا كلل كبائعة في النهار وكنادلة عند المساء وحاولت ألاّ أنفق المال. استمرت السيدة التي عملت في محلها في تقديم وجبة الظهيرة لي فهذا أسعدها وخفّف من وحدتها إذ لا أولاد لها. ثم، جاء يوم انتقلت فيه إلى استوديو صغير. للمرة الأولى في حياتي صار عندي منزل لي امضيت ليلتي الأولى فيه وأنا أبكي فرحاً. ما عدت أفكّر بأبي ولا بأمي ولا بالمدرسة ولا بالجمعية ولا بالشارع. بل تركّز تفكيري على الرجل الذي قابلته في الحديقة العامة، ذاك المجهول الذي ساعدني وأحبّني أكثر من أي شخص آخر.

اليوم، عمري 25 سنة وأنا سعيدة بالرغم من كل المعاناة التي عشتها. أمّا السترة التي حمت جسمي وقلبي في إحدى الليالي وكل الليالي من بعدها فهي معلّقة عند مدخل بيتي لتذكّرني بأنّه وبالرغم من البشاعة والمكر والأنانية، هناك على الدوام يد تمتدّ لنا وبالأخصّ حين لا نتوقّعها! 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button